ذكريات شاعر مناضل: 47- فتى الفتيان

47- فتى الفتيان


لم أكن قد رأيت يوسف صديق منذ صاحبته إلى موقف أتوبيس روكسى بمصر الجديدة وهو فى طريقه إلى معسكر وحدته فى الهاكستب، فى حوالى الساعة الخامسة والنصف مساء يوم الثلاثاء الموافق 22 يوليو سنة 1952، إلا فى منتصف ليلة 27/26 يوليه، حين عاد إلى منزله بشبرا، بعد أن تم عزل الملك، ونفيه من البلاد فى الساعة السادسة من بعد ظهر ذلك اليوم، وبعد عودة يوسف مع محمد نجيب ومن معهما من ضباط الثورة إلى القاهرة. عاد يوسف إلى البيت وهو فى حالة يرثى لها. إذ كانت قد مضت عليه سته أيام كاملة وهو يرتدى نفس البدلة العسكرية ليل نهار، يسير بها ويتحرك بها، وينام بها -فى أى مكان لسويعات محدودة أو حتى لدقائق معدودة كلما واتته الفرصة لذلك، فى أى مكتب، وعلى أى أريكة، أو حتى على الأرض نفسها، وكانت البدلة مبتلة بالعرق الذى ينصبب من جسمه، بفعل المجهود الذى كان يبذله فى الكلام والمناقشات والاجتماعات المتواصلة التى كان يشترك فيها مع زملائه من رجال الثورة، وذلك كله فى عز الحر والرطوبة التى يتميز بها جو يوليو الخانق، كما كانت ذقنه قد نبتت وبدأت تطول، وكان الجوع قد صاحبه طوال هذه الأيام، إذ أنه لم يكن يكاد يأكل شيئاً ذا بال. رأيته وقتها وارتعت لمرآة، وكان لا يكاد يقوى على الكلام، فلم أوجه إليه أى حديث.
دخل إلى الحمام فأخذ دشاً بارداً، ولبس ملابس داخلية نظيفة، وبيجامة، وجلس إلى المائدة فتناول صحناً من المرق الساخن وقطعة من اللحم المسلوق، ثم قام إلى سريره فارتمى عليه، وسرعان ما راح فى سبات عميق، لم يستيقظ منه إلا فى مساء اليوم التالى.
وكنت خلال تلك الأيام التى كان متغيباً فيها أتابع أخباره من بعيد عن طريق ما ينشر فى الصحف أو يذاع فى الإذاعة من أخبار الثورة، ولكن ذلك كان يحيطنى علماً -بصفة عامة- عن أخباره، ولكنه لا يشبع رغبتى فى الاطمئنان عليه.
بعد أيام قليلة أخرى بدأت ظروفه تتوازن، وبدأ يذهب إلى مقر عمله فى القيادة، أو فى اللواء السابع الذى أسندت إليه رئاسته، ثم يعود إلى المنزل فى أوقات مناسبة، لينال قسطاً مناسباً من الراحة، وإن كان بيته فى شبرا قد أصبح ممتلئاً بالزوار بصورة شبه دائمة، بما لا يسمح له بهذه الراحة. زوار من الأقارب، والمعارف، وأناس آخرون يسعون إليه إما لعرض مشكلات لهم وطلب مساعدته لهم فى حلها، وإما لمجرد التقرب إلى رجل من رجال السلطة الجديدة.
بعد أيام أخرى، أتيحت لى الفرصة لأجلس إلى يوسف على انفراد، وكان قد عاد إليه صفاؤه، وكان يريد أن يفتح قلبه لى، وأن يتكلم معى كعهده السابق. روى لى كل ما حدث له بالتفصيل، رواية تناولت الأحداث صغيرها وكبيرها، كما تناولت الخواطر والمشاعر والأحاسيس التى انتابته على مدى تلك التجربة كلها. قال:
بعد أن تركتك على محطة الأوتوبيس بروكسى مضيت بسيارة الجيش إلى منزلى فى حلمية الزيتون، لأرى أسرتى هناك، سهير ووالدتها وإخواتها، ولأودعهم واستودعهم الله، ولم يكونوا يعرفون شيئاً عما أنا ذاهب إليه، ولكن من يدرى. ثم  توجهت بعد ذلك إلى معسكر وحدتى فى الهاكستيب، وأعلنت أننى سأقضى الليلة معهم بعد أن قررت معاقبة جميع الضباط بالمبيت فى المعسكر، عقاباً جماعياً لهم على ما ارتكبه أحدهم من التزويغ أمس من نوبا تشيه المبيت به.وجلسنا نتسامر، أنا والضباط الأثنى عشر، بما فيهم ثلاثة ضباط جدد استلموا العمل لأول مرة فى حياتهم بوحدتنا فى ذلك اليوم ليس إلا، وقلت فى نفسى، إذا كان القدر قد رسم لهم الاشتراك معنا فى هذا العمل، قلماذا أحرمهم أنا منه. وبعد ساعة تقريباً، حضر اليوزباشى زغلول عبد الرحمن، مندوباً عن قيادة الحركة، وهو يحمل إلى أمرين: الأول: هو كلمة السر للتحرك وهى كلمة: نصر، والثانى: هو ساعة الصفر لبدأ التحرك، وهى: منتصف الليل تماماً. وانتحى زغلول بى وبأر كان حربى الصاغ عبد المجيد شديد جانباً، وأبلغنا سوياً بهذين الأمرين. ثم استمر سمرنا، بينما كان الجنود -قد أخلدوا إلى النوم.
وأصدرت أوامرى، عن طريق الصاغ شديد. بإعداد السيارات لتكون جاهزة تحت الطلب، وقبل نصف ساعة من ساعة الصفر، أمرت بإيقاظ الجنود، والتجمع فى ساحة المعسكر، ثم ألقيت على الجنود كلمة موجزة أردت بها إيقاظهم وتنبيههم لما سوف يحدث. قلت لهم: إنهم سيتحركون الليلة للاشتراك فى عمل خطير لصالح الوطن، وأن كلاً منهم سيفخر طوال حياته بالمساهمة فى هذا العمل الخطير.
وفى ساعة الصفر تماماً -منتصف الليل- بدأت مسيرتنا. وكان معنا اليوزباشى زغلول عبد الرحمن.
كان عدد الجنود ستين جندياً، هم جنود مقدمة الكتبية 13 مشاه -كتبيتنا، ومع كل واحد بندقية ومائة طلقة رصاص. وكان معظمهم من الحرفيين من طهاة ونجارين وما أشبه، من التخصصات الإدارية. أمرت بتقسيمهم إلى ثلاث فصائل، كل منها يتكون من عشرين جندياً، وكل فصيلة تركب فى سيارة (لورى) واحدة، وأمرت بأن تكون السيارات الثلاثة -التى تحمل الجنود، ومعهم بعض الضباط، فى مقدمة الموكب، بعد سيارتى الجيب مباشرة، والتى كان بها معى اثنان من الضباط. وكان الموكب يشمل أربعين لورياً خالية تماماً إلا من سائقيها، كان مطلوباً منا أن نصحبها معنا إلى مقر قيادة الجيش، لمواجهة الاحتياجات العامة (وفقاً للخطة العامة)، وفى نهاية الموكب كانت سيارة الجيب التى تحمل أركان حرب الكتبية -الصاغ عبد المجيد شديد، ومعه اليوزباشى زغلول عبد الرحمن، لتأمين خلفية التحرك.
وقبل تحركنا بثوان معدودات، تلقيت إبلاغاً من عامل التليفون، بأن قائد الفرقة التى نتبعها -اللواء عبد الرحمن مكى، كان قد اتصل تليفونيا -طالباً إرسال سيارته إلى منزله فى مصر الجديدة، لتحمله إلى المعسكر، وحدثت ملابسات جعلت إبلاغى بهذا الأمر بتأخر حتى الآن. ومعنى ذلك أن قائد الفرقة على وشك الوصول الآن إلى المعسكر. وأنه بمجرد دخوله من بوابته، ستكون له الكلمة العليا، ولن نستطيع -أنا ومن معى- أن نفعل أى شئ يخالف أمره.
أمرت السائق بالإسراع إلى الخروج من المعسكر، وما كدنا نخرج من بابه، حتى وجدنا سيارة القائد على مقربة منه. هنالك أمرت سائق سيارتى أن يضئ النور المبهر فى وجه سيارة القائد، وأن يوقفها بأى طريقة عن دخول المعسكر. وتم ذلك، وتوقفت السيارتان أمام بعضهما البعض، على قيد خطوات من بوابة المعسكر. ونزلت ونزل القائد، وكانت فى يدى بندقية برتا، بدون خزنة، أى خالية من الرصاص، ولكنها كانت كافية لتهديد القائد. وما أن عرفنى حتى قال: مين؟ يوسف؟ قلت له: نعم. وجنابك مقبوض عليك. وبدا على الرجل أنه أدرك الموقف الخطير، فقال لى: أنا تحت أمرك يا يوسف، بس حياتى أمانة فى رقبتك. قلت وأنا أطمئنه: وأنا أعدك بذلك، بشرط أن تلتزم بأوامرى. فقال الرجل فى استسلام: حاضر. وأمرته بأن يركب سيارته التى يرفرف عليها علم القيادة، وأمرت سائقة أن يتبع سيارتى فى الموكب، وأمرت الجنود والضباط فى اللورى التالى أن يوجهوا أسلحتهم نحو سيارة القائد طول الوقت حتى لا يحاول الفرار.
تمهل يوسف قليلاً ليشعل سيجارته، ثم واصل حديثه:
وفى الطريق دارت فى رأسى تساؤلات كثيرة. كانت السرية تفرض أن لا يعرف كل ضابط غير ما يمكنه من القيام بدوه المرسوم له فى الخطة، غير أن إعطائى (كلمة السر) كان يعنى أننى سأجتاز قوات الحصار المفروض ضربها على كل المناطق العسكرية لعدم السماح لغير (الأحرار) بالمرور. كيف إذن اجتاز اللواء مكى قوات الحصار هذه وكيف سمح له بالمرور؟ إنه بلاشك لا يعلم كلمة السر. وعللت نفسى بأنه ربما يكون قد مر قبل أن تأخذ القواتأماكنها، ولكن لماذا حضر؟ إن حضوره بعد انتصاف الليل أمر غير مألوف ويدعو إلى التساؤل. وكنت كلما قطعت مسافة على الطريق الصحراوى الذى يربط بين معسكر الهاكستب ومصر الجديدة دون أن أتعرض لقوات الحصار التى تمنع تسلل ضباط من غير الأحرار -يزداد الأمر أمامى غموضاً، ورغم ذلك كنت ما أزال أسير وقواتى ورائى بكل ثبات وثقة.
انتهى الطريق الصحراوى دون ظهور أى بادرة على أن الخطة العامة قد وضعت موضع التنفيذ، فأى قوة حصار لمنع تسلل غير الأحرار لابد أن توضع فى مكان ما على هذا الطريق.. وقد انتهى الطريق، وليس هناك غير أحد احتمالين، فإما أن يكون التأخير فى التفيذ هو السبب، وإما أن تكون الخطة لم توضع موضع التنفيذ لسبب لا أدريه.
وبدأ دخولنا مصر الجديدة بصينية مرور أخرى، وعندما وصلت عربتى إلى منتصف الصينية أخبرنى الضابط المكلف بمراقبة الخلف بأن القوة قد توقفت.. ولاحظت أنه على الجانب الآخر للصينية جندى يقود سيارة من سيارات كبار الضباط، وعلى وجهه علامات الذعر الشديد، رغم ضعف الإضاءة. وأوقفت عربتى -ونزلت مسرعاً لأرى سبب توقف القوة. واكتشفت السبب، فلقد كان صاحب السيارة الأخرى هو الأميرالاى عبد الرءوف عابدين، قائد ثانى الفرقة، الذى كان فى طريقة إلى المعسكر، ولما رأى القوة قادمة نزل من سيارته وتوجه نحو سيارة اللواء الأسير، وسأل أحد الضباط، وكان الملازم أول (حسن شكرى) -إلى أين يا حسن؟ فرد الضابط طوارئ يا فندم. فسأله: ومن معكم يا حسن؟ فأجابه: سعادة للواء فى عربته التى أمامنا يا فندم.
وحين وصلت أنا مترجلاً إلى إن صرت أمام عربة اللواء، كان القائد الثانى قد وصل من الجانب الآخر وحيا قائده، واعتقد أنه كان يظن أنه على رأس القوة. وحاول أن يذهب إلى عربته، غير أن اللواء فتح له الباب وطلب إليه الجلوس بجانبه. وأراد عابدين أن يستفسر ويرغى، غير أن القائد أمره بحزم أن يجلس بجانبه، فركب وجلس على مضض. وعدت أنا إلى عربتى فى مقدمة القوة -والدم يغلى فى عروقى من شدة الغيظ. فجرائمى تزداد على الطريق، وليس هناك ما يدل على أن الخطة فى التطبيق. وأنا أسير فى ظلام حالك ولا أفهم معنى لما يجرى. ولاشك أن تواجد هذا الضابط الكبير فى مثل هذا الوقت يعنى شيئاً. وإذا كان وجود الأسير الأول قد جعلنى أشك فى الأمر، فإن وجود الأسير الثانى يجعلنى فى حالة يقين بأن هناك ما يجرى وأنا أجهله، وأن لى أن أعرفه!!
وفكرت فى الاتصال بجمال، لاستوضحه الحقيقة، ولكن لم يكن أمامى من سبيل إلى ذلك.
واحتملت أسوأ الاحتمالات، وهو أن تكون الخطة لم توضع موضع التنفيذ، فماذا يكون موقفى؟ ورأيت أنه لم يبق أمامى إلى التوجه إلى القيادة العامة فى كوبرى القبة، وقد أصبحت قريباً منها، فإن لم أجدها محتلة -كما فى الخطة العامة-  أحتلها أنا بقوتى الصغيرة، وليكن ما يكون. وعلى كل حال فالقيادة العامة ليست بها قوات حراسة أكثر من (القرة قول) العادى، وهو لا تزيد قوته عن سبعة جنود، لا يحمل كل منهم أكثر من 5 أو 10 طلقات ذخيرة على أكثر تقدير. ولكن كانت حاجتى للاتصال بجمال شديدة لعلة يلقى بعض الضوء على ما يجرى. ولكنى كنت قد قررت احتلال القيادة بأسرع ما يمكن.
وبدأت أتحرك على هذا الأساس. احتلال القيادة العامة والدفاع عنها لآخر طلقة وآخر رجل. لم يكن أمامى حل آخر فى هذا الضياع الذى كنت فيه. ومع ذلك فقد سرت فى طريقى نحو القيادة العامة. والطريق الذى كنت أسلكه نحوها هو طريق أعرفه جيداً وقد سرت فيه مئات المرات إن لم يكن آلاف المرات، ورغم هذا فقد أمرت السائق أن يسير فى طريق آخر خلاف هذا الطريق، وعارضنى السائق فنهرته بصوت اختلط فيه الحزم بالغضب، فرضخ للأمر ودخلنا فى الطريق الخطأ، ولم نسر فيه إلا أمتاراً حتى تبينت أنه لم يكن هو الطريق الصحيح، وأن السائق كان على حق فى اعتراضه. وغير أننى لم أجد داعياً إلى تصحيح الوضع، واعتزمت أن نصحح وضعنا فى أول فرصة ممكنة.
إن لله سبحانه وتعالى رجال يقولون للشئ كن فيكون.. وبديهى أن هؤلاء الرجال لابد وأن يكونوا على طريق الله. وحقاً أن الله يصيب برحمته من يشاء، غير أن منطق الأمور يقول أن رحمته سبحانه وتعالى مرتبطة بعدلة.
وقد كنت فى هذه الليلة على طريق الله.. خرجت بضباطى وجنودى لا أبغى إلا وجهه، خرجت ثائراً على الظلم والفساد، لا أبغى منصباً ولا جاهاً لنفسى وإنما أعرض نفسى للخطر الذى بدأت أشعر بقربه، فى سبيل تخليص بلادى مما كانت تئن تحت وطأته. ولكن رحمة الله كانت توشك أن تتجلى لى.
كنت أسير فى ظلمات بعضها فوق بعض.. ظلام الليل، وظلام الجهل بما يجرى، وكانت أعبائى تزداد على الطريق، وصلتى بالقيادة التى تدير العمل منقطعة تماماً، فتمنيت على الله أن أتصل (بجمال) لعله يلقى بعض الضوء فى هذه الظلمات الحالكة التى كنت أسير فيها. ولم نكن نستقيم فى وضعنا على الطريق الجديد -الذى دخلته عن طريق الخطأ- حتى أخبرنى الضابط المراقب للخلف أن القوة توقفت. ونزلت من عربتى لأرى، غير أننى فى هذه المرة لم أر عدواً جديداً، ولكننى رأيت (الله) سبحانه وتعالى!
لم أكد أجتاز عربة الأسرى التى تتبعنى، حتى رأيت أمام اللورى الأول الذى يحمل رجالى جمهرة وسمعت (غاغه) فلما أسرعت إلى مكانها وجدت بعض ضباطى وجنودى يحيطون برجلين يرتديان ثياباً مدنية (قمصان بيضاء وبنطلونات) وتجرى بينهم مشادة كلامية، فلما اقتربت لأتبين الوجوه فى الظلام رأيت عجباً، فقلد كان الرجلان هما: جمال وعبد الحكيم!!
لم يكد الخاطر يمر ببالى منذ لحظة، ولم أكد اتمنى أن آرى (جمال) منذ ثوان حتى قال لى الله -القادر على كل شئ- : هذا هو جمال بين يديك، أسير جندك ورجالك.
انتابنى إحساس عميق بأننى فى رعاية الله، ورأيت أن النصر قد أصبح محققاً بفضل الله. خلصت الرجلين من قبضة رجالى، وانتحيت بجمال وصاحبه جانباً حتى لا يكون حديثنا فى دائرة سمع الأسيرين الكبيرين.. وألقى جمال بالضوء الذى كنت أرتقبه وأتمناه.
علمت من جمال أن أمر الحركة قد انكشف للملك الذى كان يصطاف فى الإسكندرية، وأنه قد تم الاتصال بالقيادة فى القاهرة، وأن هذه القيادة مجتمعه فى مقرها لاتخاذ إجراء مضاد. فشكرته على هذه المعلومات الجديدة، وأخبرته أننى كنت قد قررت احتلال القيادة، وأننى سأقوم بذلك فوراً، وكان قد حضر مع زميله فى عربته وأسرعت إلى عربتى فى مقدمة القوة، وذهبا هما ليستقلا عربتهما، وسبقانى إلى أرض المعركة.
كان على أن أضع خطتى لاحتلال القيادة وأقوم بالتنفيذ على وجه السرعة، حيث أن كل دقيقة وكل ثانية أصبحت لها قيمة كبيرة. وأدركت بوضوح أننى سوف لا أذهب لاحتلال القيادة على غرة، وأننى قد أتعرض لمقاومة من الحرس، وربما من الضباط المجتمعين (ولو أن هؤلاء لا يحملون الطبنجة فى الغالب. وأرض المعركة أعرفها جيداً وبالتفصيل مما ساعدنى على رسم الخطة بدقة وعناية وسرعة. فمقر القيادة يقع بين الكوبرى الذى يمر فوق نقف المترو، والمواجه للمستشفى العسكرى العام -وكوبرى السيوفى يمر وفوق النفق على مسافة لا تزيد عن الكيلو منتر جهة العباسية. ونفق المترو فى هذه المنطقة عميق وميل أجنابه حاد يكاد يكون عمودياً -ولا يمكن اجتيازة بأى قوات.
ومرت الخطة فى رأسى كشريط السينما، لقد رأيت أن أوزع فصائلى على النحو التالى:
* نقطة التجمع لإصدار الأوامر هى أمام الكوبرى المواجه للمستشفى.
* الفصيلة (1) تبقى فى اللورى ولا تترجل، وتسرع باللورى بالالتفاف من خلف القيادة لتصل إلى مكانها لتقفل الطريق عند باب السوارى، ليمنع تدخل أى قوات، والقض على أى ضابط من غير الأحرار وإرساله إلى المعتقل.
*الفصيلة (3) تبقى فى مكانها لقفل الطريق أمام الكوبرى عند نقطة التجمع لمنع تدخل أى قوات آتية من ناحية مصر الجديدة أو كوبرى القبة، والقبض على أى رتبة من غير الأحرار، وإرسالها للمعتقل.
* الفصيله (2) تقوم بمهاجمة القيادة العامة تحت قيادتى. وكان قائد الفصيلة هو الملازم إسماعيل طه الشريف.
* يشرف عبد المجيد شديد على الفصيلتين 3،1.
وفى الحال أصدرت الأمر إلى فصيلتى التى ستقوم بالهجوم بالتوجه إلى إدارة الجيش بالخطوة السريعة، متخذه الجانب الأيسر من الطريق لعدم التعرض لحرس القيادة، وألا تشتبك معه. ولاحظت أن جمال وعبد الحكيم كان يقفان غير بعيد. وعندما اقتربت الفصيلة من باب القيادة بدأ الحرس فى إطلاق النار، فاشتبكت معه بالفصيلة، ولم تدم المعركة غير دقيقتين أو ثلاثة على أكثر تقدير، نفذت بعدها ذخيرة الحرس، واستسلم وأصبحت القيادة فى يدى.
ولم يشتبك ضباط الاجتماع معى، وكانوا فى الدور العلوى من مبنى القيادة. وأسفر الاشتباك عن قتيلين من رجالى، ومثلهما من الحرس. وأكملت تفتيش الدور الأرضى من القيادة، وتأكدت من خلوه من أى قوات، ووضعت حراسة على الأماكن الحساسة فيه. وهممت بالصعود إلى الدور العلوى مكان الاجتماع.
كانت القوة الباقية من الفصيلة التى أقودها لاحتلال القيادة قد أصبحت صغيرة، أقل من 10 جنود، ولكننى لم أتوقع مقاومة كبيرة من ضباط الاجتماع. ولكن الله كان معنا، ففى اللحظة التى أحسست فيها بقلة قوتى، فوجئت بالصاغ (حسن أحمد الدسوقى) على رأس قوة من نحو 20 جندياً، وقدم نفسه لى قائلاً إن البكباشى (زكريا محيى الدين) قد أرسله لتعزيزى. وكنت أعرف حسن الدسوقى، وأعرف مدى شجاعته وإخلاصه وحسن تصرفه فحمدت الله على هذا العون الذى جاء فى وقته بالضبط.
وعلى سلم الدور العلوى اعترضنى (جاوش)، وحاول منعى من الصعود -فأفهمته ألا جدوى من المقاومة، فأصر على ألا أمر إلا على جثته. وكان الوقت مهماً والأعصاب متوترة، ووجدتنى مضطراً لأن أطلق الرصاص على رجله حتى يفسح لى الطريق -ولم أندم على عمل فى تلك الليلة سوى هذا الاعتداء على الجاويش الشجاع الأمين. ويؤسفنى أننى علمت بعد ذلك أنه مات مع أننى قصدت إصابته فقط، ولم أقصد قتله.
واستأنفت صعودى إلى الدور العلوى يرافقنى حسن الدسوقى وجنوده. فلما وصلت إلى باب القائد وجدته موصداً، وحاولت فتحه فشعرت بمقاومة، وإذا بجنود حسن يطلقون النار على الباب بدون أوامر -وتبين أن المقاومة كانت بسبب كرسى وضع خلف الباب. وكانت الحجرة مظلمة، ولكن بعد إطلاق النار على الباب وفتحه أضاءت لأجد أربع مناديل بيضاء تطل من وراء (برفان) -وهى علامات استسلام. وخرج الضباط من وراء البرفان، وكان على رأسهم الفريق (حسين فريد) قائد الجيش، ومعه الأميرالاى (حمدى هيبة)، وضابط برتبة عقيد، ورابع لا أعرفه. وكان الفريق حسين فريد رابط الجائش ثابتاً، وكان يبدو طبيعياً ولا أثر للخوف على وجهه. وكان أشجع من قابلت فى تلك الليلة من رجال الجيش -خارج التنظيم- وكانت قد جمعتنى به الخدمة قبل ذلك مرتين، عندما كنت تلميذاً بالمدرسة الحربية -وكان هو أستاذاً بها، والثانية وأنا ضابط مدرس بالكلية الحربية، وهو رئيسى فى العمل. ولذلك رافقت قائدى وأستاذى إلى باب القيادة حيث حييته وسلمته لعبد المجيد شديد هو ورفاقه ليودعهم المعتقل.
ولقد كان معنى وجود هؤلاء الضباط فقط فى مكتب القائد أن الاجتماع قد انتهى، وعاد القواد إلى وحدتهم لممارسة المقاومة، وكان على أن أعد قواتى لأى اشتباك محتمل، وفورى.
وسارت الأمور بعد ذلك فى مجراها المتوقع. وبدأت أمارس قيادتى للموقف.
وعلمت أن الفصيلتين الأخريين قد قامتا باعتقال عدد كبير من ضباط الجيش وضباط الشرطة الذين كانوا فى طريقهم للعمل ضد الثورة، وتم وضعهم جميعاً فى المعتقل الذى كان قد خصص له مكان فى الكلية الحربية.
وضممت إلى قواتى، عدداً كبيراً من الضباط والجنود الذين جاءوا إلى الموقع لأسباب مختلفة. وكان الكثير من ضباط الحركة قد حضروا إلى مقر القيادة وانتشروا فيها. ثم حضر جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر لمقابلتى، وكان هذه المرة يرتديان الملابس العسكرية. وسمعت أزيز محركات الدبابات فعلمت أن قوات الفرسان قد جاءت لتعزيز الثورة.
ثم انشغلت فترة من الوقت بشئون جنودى، وباقى الجنود الذين انضموا إليهم، حتى بجنود الحراسة الأصلية للمبنى، فأشرفت على راحتهم، وطعامهم، وتناوب معهم ما تيسر من الطعام. تناولناه جلوساً على أرض الحديقة المحيطة بمبنى القيادة. نفس الطعام، وكنا جميعاً، أنا وضباطى وجنودى، كأننا إخوة أشقاء أبناء أب واحد وأم واحدة. 
ثم صعدت إلى الدور العلوى لمبنى القيادة، فوجدت جمعاً كبيراً من ضباط الحركة محتشدين فى قاعة اجتماعات كبيرة. وما أن دخلت إلى تلك القاعة، حتى فوجئت بجميع من فيها يهبون واقفين لتحيتى، وهم يصفقون. واستمر التصفيق وقتاً طويلاً.
وجاء اللواء محمد نجيب فى هذا الوقت فدخل القاعة، واشترك فى التحية والتصفيق. وكان هناك جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، وأحمد شوقى، وحسين الشافعى، وزكريا محيى الدين، وخالد محيى الدين، وأنور السادات، والجميع. وكنت أنا أقف فى مواجهة كل هذا وأنا فى حالة ذهول، وأشعر بأننى لم أفعل ما يستحق كل هذه التحية. لم أفعل إلا الواجب. وسكت يوسف طويلاً، حتى قلت له: حمدلله على السلامة، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. فقال: الحمدلله، الحمدلله.
...
وهكذا مضر يوم 23 يوليو سنة 1952 فى مصر، وما أصدق ما قاله يوسف صديق عن حالة فى هذا اليوم: 
أنــــا الوفى الذى لم يثنه دمه
ينساب من صدره عن يومك الحفل
لم يكفنى شرفاً أن كنت شاهده
بل كنت فيه فتى فتيانه الأول
وحقاً. إن الله يصيب برحمته من يشاء!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق