ذكريات شاعر مناضل: 54- طريق الآلالم

54- طريق الآلالم

عدنا -أنا وسهير- إلى منزلنا بالزاوية، وقد تسرب الألم والحزن إلى نفسينا، بعد ما سمعناه من يوسف عما بدأ يتطرق إلى الثورة من عوامل الخلاف والردة، وما رأيناه مرتسماً على وجهه من سيماء الألم والتشاؤم. كان مفاجئاً بمواقف وتصرفات زملائه، ولا يكاد يصدق أن هؤلاء هم الذين آل إلى أييهم مصير الثورة التى حلم بها، وأقدم على التضحية من أجل قيامها بكل ما يملكه من الصحة والجهد. وهو ينزف الدم من صدره، فى حين أن الكثيرين منهم لم يشاركوا فى قيامها بأى دور فعال. وأين جمال سالم وأنور السادات وكمال الدين حسين وغيرهم ليلة الثورة، التى اضطلع هو فيها بالجهد الرئيسى؟ ومع ذلك، فهاهم يتحكمون فى مصيرها ومصير الشعب كله. كان يوسف يتذكر بالألم والدهشة أقوال جمال سالم التى يقول فيها، إنه لا يعرف شيئاً عن مبادئ الثورة السته التى يتكلم عنها يوسف صديق، وأنه لم يقرأ منشوراتها. وكان يوسف يندهش وهو يسترجع كلمات جمال سالم عن الشعب المصرى، وتساؤله عن هذا الشعب بقوله: أى شعب؟ -أليس هو الشعب الذى يقوم بتبطيط "الجلة". وكان يبدى دهشته من موقف جمال عبد النار، وعبد الحكيم عمر، اللذان يبديان انحيازهما إلى آراء ومواقف الآخرين، ويخذلانه هو، بالرغم من أنهما يعلمان يقينا ماذا كانت فعاله، ليلة الثورة، وماذا كانت مواقف الآخرين. بل وحتى محمد نجيب، الذى كان يوسف يناصره ويؤكد أهميته، ويحميه من وخزات الآخرين، كيف كانت يداه تصطبغان بدماء العمال (خميس والبقرى)، وبدماء الديموقراطية، وبموافقة المترددة والضعيفة، انسياقا مع اتجاهات الآخرين، بل وكيف كان يغطى ضعفه بالتهكم على مواقف يوسف وآرائه بمناداته باسم:الرفيق يوسف ستالين، فى لهجة تتظاهر بالمزاح، بينما هى تنطوى على نفاق سافر للآخرين. تلك المواقف التى انجرف إليها نجيب، والتى وصلت إلى قوله فى أحد تصريحاته: كان خميس شيوعياً فأعدمناه!، والتى أوصلته بعد ذلك بقليل يوم 1953/1/17 إلى قوله وهو يعلن حل جميع الأحزاب: ومنذ اليوم لن أسمح بأى عبث أو إضرار بمصالح الوطن، وسأضرب بمنتهى الشدة على يد كل من يقف فى طريق أهدافنا التى صنعتها آلامكم الطويلة.
كان يوسف يعتصره الألم والقلق، وهو يتمثل كل تلك المواقف، ويستشرف مدى خطرها على مسيرة الثورة، وعلى مستقبل الشعب، وكنا نشاطره الشعور بتلك المخاطر، ولكننا كنا نرجو أن تعود الأمور إلى السير فى المسار الصحيح.
وأخذنا نستأنف مسيرة حياتنا فى ثقة واطمئنان.
وفى يوم 14 يناير 1953 فوجئنا بوصول يوسف، ومعه شقيقتى عليه، ومعهما ابنهما حسن، وابنتهما نعمت، وعلمنا أنهم سيقضون الليلة معنا، وسوف يسافرون مساء غد. كما علمنا أن يوسف ينتظر وصول بعض الضيوف من الضباط، فى صباح الغد.
قضينا معهم سهرة لطيفة، وبدأنا فى الصباح نعد العدة لتقديم واجب الضيافة للضباط القادمين. بالفعل وصل ثلاثة ضباط من العاملين مع يوسف فى اللواء السابع، وجلسوا معه على انفراد يتحادثون، حتى حان وقت الغداء. وقفت على خدمنهم بنفسى، أقدم لهم أطباق الطعام بنفسى، جرياً على العادة العربية المعروفة فى الحفاوة بالضيوف. حتى أكلوا هنيئاً وشربوا مرئياً. وبعد تناول القهوة، اصطحبوا يوسف فى سيارتهم متجهين إلى بنى سويف، وعلمت أنهم مدعوون هناك على العشاء عند زمليهم صلاح زعزوع، من الضباط الأحرار، حيث كان من المقرر أن يستقلوا قطار الليل المتجه إلى أسوان، ليقضوا مع يوسف عدة أيام للراحة والاستجمام، يعودون بعدها إلى القاهرة. وفى المساء، بعد ذهاب يوسف، اصطحبت شقيقتى عليه، وابنها حسين ، وابنتها نعمت، إلى محطة القطار بالواسطى، ليستقلوا قطار المساء المتجه إلى أسوان، وكان المتفق عليه بينهم، أن ينتظروا وصول يوسف بمحطة أسوان لحين وصوله، ليرافقوه أثناء إقامته بها. وعلمت من شقيقتى بعض التفاصيل عن الموقف.
كان توتر العلاقات بين يوسف وبين بقية أعضاء القيادة قد اشتد فى الأسابيع الماضية، حتى تعذر التعامل بينه وبينهم، فأبدى رغبته فى الانسحاب من المجلس، والاكتفاء بالتفرغ للعمل بالقوات المسلحة، فى موقعه الحالى كقائد للواء السابع مشاه (مدافع ماكينه)، ولم يوافقوه على طلبه، ولكنهم اتفقوا على حل مؤقت، هو أن يأخذ يوسف أجازة للراحة والاستجمام بعيداً عن المشاحنات والمصادمات، وأن يقضيها فى أسوان، وأن يسافر معه بعض ضباطه المساعدين، لحراسته وموافقته، أو فى الواقع ليكونوا عيوناً عليه. وكان المفترض أن يكون يوسف وحيداً معهم، لولا اتفاقه مع عليه زوجته، على أن تلحق هى وولداها به، على النحو الذى تقدم ذكره.
مر- ذلك المساء بما له وما عليه، ودخلنا -أنا وسهير- لنهج فى مرقدنا بعد عناء يوم طويل، وما لبثنا أن رحنا فى سبات عميق.
قبيل الفجر، صحوت على نقر على باب المنزل، تكرر واستمر حتى لم يعد ممكناً لى تجاهله. وقمت إلى الباب، ثم تساءلت:
-مين بيخبط.
وجائتنى إجابة هادئة:
-أنا سيد الخولى، ضابط المباحث، افتح يا أستاذ محمود، عايزك فى كلمتن.
استغربت من الأمر، وتساءلت: ماذا يريد ضابط مباحث المركز فى هذا الوقت، وقد كان يستطيع أن ينتظر ذهابى إلى المكتب فى الصباح. وكنت أعرف هذا الضابط، وأعرف أدبه ودماثة أخلاقه، وكانت العلاقة بيننا علاقة طيبة. وكان قد حضر الوليمة التى أقمتها منذ حوالى شهر، بمناسبة زواجى.
فتحت له الباب، ودعوته للدخول إلى الردهة، فدخل، وتمهل قليلاً وهو يقول لى:
-أنا أسف جداً يا أستاذ محمود، ولكنى استلمت إشارة هذه الليلة من مدرية الأمن، باصطحابك إلى مكتب البوليس السياسى بالمبنى المجمع بالقاهرة. واعتقد أن الأمر بسيط ولا يستدعى أى انزعاج. وربما هم يريدون الاستفسار منك عن شئ ما، وتعود معى اليوم إن شاء الله.
قلت له وأنا بين مصدق ومكذب:
-مافيش مانع، بس تسمح لى آخذ معى شنطة صغيرة فيها بعض الملابس واللوازم الأخرى.
وأدرك الرجل صحة استنتاجى، فوافق على الفور، قائلاً:
-وما له.. من باب الاحتياط.
ودعت سهير، وشرحت لها الموقف، واتفقت معها على أن تسافر هى الأخرى إلى منزل والدتها بحلمية الزيتون إلى أن ينجلى الأمر.
وأخذت حقيبة متوسطة بها بعض الضروريات، وركبت مع اليوزباشى سيد الخولى، فى بوكس الشرطة، ومعنا اثنان من المخبرين، واتجهنا إلى رصيف محطة الواسطى.
قبل أذان الفجر، انطلق بنا القطار، وبعد ساعة وصلنا إلى محطة الجيزة، وأخذنا سيارة تاكسى إلى ميدان الخديو إسماعيل بالقاهرة.
صعدت مع سيد الخولى، وأحد المخبرين، بالمصعد، إلى مكتب البوليس السياسى بالدور الثامن بالمجمع، وهناك استقبلنا أحد الضباط هو مازال بالبيجاما، وعيناه محمرتان من أثر النوم الذى لم يصح منه تماماً بعد. ثم تبادل و وسيد الخولى بعض العبارات بصوت خفيض، ثم تبادلا التوقيع على إحدى الأوراق، والسجلات. وتبادلا التحية، ثم توجه إلى سيد الخولى، بالقول وهو يصافحنى:
-فى أمان الله يا أستاذ محمود، اطمئن. مافيش غير كل خير إن شاء الله. وانصرف الرجل إلى حال سبيله، بعد أدائه لتلك المهمة السخيفة.
أمضيت ساعتين فى غرفة ملحة بمكتب الضابط، جاءنى بعدهما وقد حلق ذقنه، ولبس بدلته العسكرية الرسمية، وكانت الرتبة على كتفه هى التاج، أى أنه كان برتبة الصاغ (الرائد).
نزلت مع الصاغ، ومعنا اثنان من المخبرين أيضاً، إلى الميدان الذى يطل عليه المجمع، وهناك ركبنا فى عربة بوكس من عربات الشرطة، سارت بنا فى شوارع طويلة متصلة حتى وصلنا إلى مبنى معتقل عين شمس الشهير. وهناك تكررت إجراءات التسليم والتسلم بين الضابط الذى أحضرنى، وبين قائد المعتقل، وأدخلت من بابه إلى حوش صغير تحف به حجرات مفتوحة.
كان الحوش مكتظاً بعدد كبير من المعتقلين، عرفت من بينهم عدداً من الشيوعيين وأنصار السلام الذين كنت أعرفهم من قبل. كان هناك يوسف حلمى المحامى والأديب المعروف، رئيس لجنة أنصار السلام، ومحمد أبو الخير، المحامى الكبير، وأحمد صادق عزام المحامى، وصاحب جريدة "الملايين" التى كانت تصدرها الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى "حدتو"، وإبراهيم عبد الحليم، ومبارك عبده فضل. وآخرون ورأيت عدداً آخر من السياسيين، غير الشيوعيين، عرفت منهم أمين عبد المؤمن -الصحفى- بجريدة المصرى، وآخرون من الوفديين المعروفين، وآخرون.
أمضينا بضعة ساعات فى معتقل عين شمس، تناولنا فيها بعض السندوتشات من الفول والطعمية والجبن الأبيض، وشربنا الشاى. ثم تنبه علينا بالاستعداد للرحيل إلى جهة أخرى. ثم أمرنا بالصعود إلى سيارتى أتوبيس سياحى، أدخلتا إلى حوش المعتقل، حيث تم قيد كل اثنين منا إلى كلبش واحد، وكان نصيبى أن أقيد من أمين عبد المؤمن.
قبل أن يتحرك الأوبيسان، أخذنا نتكهن عن الجهة التى سننقل إليها، قال البعض: هاكستب، وقال آخرون: بل سجن مصر، وقيل: بل أبو قير فى الإسكندرية. وبدأت السيارتان فى التحرك، وبدأ المعتقلون فى الهتاف: عاش كفاح الشعب المصرى. الدستور حق الشعب، تسقط الأحكام العرفية.. إلخ، كل هذا والسيارتان تسيران فى طريقهما والهتافات لا تنقطع، والمارة ينظرون إلينا بلا إجابة.
وصلنا إلى مصر الجديدة، ومنها إلى طريق السويس. وهنا صاح عدد منا: جبل الطور.
وسرعان ما تأكد الظن، إذ اتخذنا طريق السويس الصحراوى. وهنا توقفت الهتافات، فقد كنا نسير فى صحراء خالية.
بعد ساعتين وصلنا إلى رصيف ميناء السويس، وهناك أنزلنا لنقف صفاً على الرصيف، وأيدينا مكبلة بالكلبشات. وفى موازاة الرصيف، وجدنا سفينة حربية تقف فى اتنظارنا. بينما قوات من الجيش والبحرية تحيط بنا من كل جانب، وهى شاكية السلاح. بنادق اللى أنفيلد، وقد ركبت فيها السونكيات.
بعد قليل تحركت الطوابير نحو المدمرة، أدخلنا عبر السلم الخشبى، إلى جوف المدمرة، وعبر سلم داخلى إلى الدور الأسفل منها، وهناك تم فك الكلبشات، وتركنا لنجلس على دكك خشبية مثبته إلى جدران السفينة الداخلية، وكان الليل قد أرخى سدوله كما ظهر لنا من النوافذ الصغيرة المستديرة. وظهر لنا لنا بعض ضباط المدمرة وهم يشيرون إلينا بالتحية، فى مودة ظاهرة.
وبعد وقت قصير، سمعنا ضجة كبيرة أسفل السفينة، وعلمنا أنها ضجة الآلات. وبعد قليل شعرنا بحركة المدمرة وهى تستدير مبتعدة عن الرصيف لتدخل فى عررض البحر، نحو معتقل جبل الطور، أشهر المعتقلات فى مصر، ومأوى عتاة المجرمين فيها. وكانت المدمرة: هى المدمرة طارق، التى سوف يكون لها شأن فى التاريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق