ذكريات شاعر مناضل: 14- نريد العلم

14- نريد العلم


كانت الأحوال العامة فى البلاد تمر بمرحلة هدوء، وكذلك فإن الدراسة فى مدرستنا كانت تمضى فى هدوء هى الأخرى، لم يعترضها أى عائق أو يعكر صفوها أى معكر، إلى أن جاء يوم 13 نوفمبر سنة 1937، وهو يوم الجهاد الوطنى، الحدث الذى فجر ثورة 1919، حين ذهب سعد زغلول وصاحباه إلى دار المندوب السامى يطالبون بجلاء بريطانيا عن مصر، ويطلبون إذن السلطة البريطانية لهم بالسفر إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح الذى سوف ينعقد بها بتسوية الأوضاع العالمية بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى، وذلك لإعلان المطالب المصرية بجلاء بريطانيا عن الأراضى المصرية، وتحقيق الحرية والسيادة للبلاد، وما كان من رفض المندوب السامى البريطانى لهذا المطلب، وما أعقب ذلك من تداعيات، أدت إلى تفجر الثورة. ومنذ ذلك الحين، اعتبر هذا اليوم 13 نوفمبر من كل عام عيداً للجلاء، عيداً تحتفل به القوى الوطنية كل عام. وكانت جموع الشعب تتجمع فى مواكبها، لتتوجه إلى بيت الأمة "منزل الزعيم سعد زغلول" وضريحة المقام على مقربة منه، لإحياء ذكراه، ولإعلان التمسك بمبادئه، وفى مقدمتها الجلاء التام عن مصر والسودان.
 وكان الطلبة فى الجامعة والمدارس العليا، والمدارس الثانوية حريصين على المشاركة الإيجابية فى إحياء الذكرى، وكان منهم طلبة مدرسة شبرا الثانوية.
بعد انتهاء طابور الصباح، وإنشاد النشيد الوطنى، والهتاف ثلاثاً بحياة مصر، تقدم ثلاثة من طلبة السنة الخامسة، وكانوا من الزعماء المعروفين، فهتفوا: يحيا الإضراب، تحيا ذكرى سعد زغلول.
وكان الدكتور أحمد رياض مازال واقفاً فى مواجهة الطابور، وحوله كثير من الأساتذة، فرقع صوته هاتفاً هو الآخر: تحيا ذكرى سعد زغلول، تحيا مصر، ثم أضاف: أما الإضراب عن الدراسة فهو لا يخدم قضية الوطن، ولا يتفق مع المبادئ التى كان سعد زغلول يجاهد من أجلها ويكفى أنكم عبرتم عن مشاعركم الوطنية هنا داخل المدرسة، ومشاعركم موضع احترامنا وتقديرنا، وإنى باسم مصلحة مصر، ومصلحتكم أنتم، أدعوكم إلى فض هذا الإضراب، والتوجه إلى فصولكم، واستئناف دراستكم.
وما أن أنهى الناظر الجليل كلماته، حتى وجدنا الطلاب الثلاثة يتقدمون إليه لمصافحته، وإذا بهم -ثلاثتهم، يتناوبون أثناء المصافحة فى تقبيل يده. وإذا به يهتف: تحيــا مصــر. تحيــا مصـــر. تحيـــا مصـــر. رددها ثلاثاً، ورددها جميع التلاميذ، الألفان، خلفه بقوة وحماس ارتجت لهما أرجاء المدرسة، وتجاوبت أصداؤها فى الحى كله. ثم انفض التلاميذ كلهم إلى فصولهم، وقد ازدادوا حباً وتقديراً لناظرهم الحكيم.
 على أنه لم تكد تمضى إلا أسابيع قليلة، حتى ترامت إلى المصريين أنباء مثيرة عن اعتداءات القوات الفرنسية التى كانت تحتل سوريا ولبنان على الشعب السورى، وضربها للعاصمة السورية دمشق بقنابل مدفعيتها. وسقوط شهداء كثيرين من الأشقاء السوريين. وكانت مصر قد ارتجت لهذه الأحداث، غضباً منها، وتضامناً مع شعب سوريا الشقيقة.
وفى اليوم التالى لورود تلك الأنباء، وفى نهاية طابور الصباح، تقدم الطلبة الثلاثة -الزعماء- ومعهم طلبة آخرون الطابور، وتعالى هتافهم: عاش نضال الشعب السورى، عاشت دمشق الباسلة، تسقط فرنسا المجرمة، يسقط الاستعمار الغاشم.
ومرة أخرى تقدم الدكتور أحمد رياض نحو الطابور، وأشار بيده إلى الطلبة فكفوا عن الهتاف. وتكلم الرجل الجليل فقال: أبنائى الأعزاء: أشكركم جزيل الشكر على مشاعركم الوطنية الفياضة. وأؤكد لكم أننى، وجميع أساتذة المدرسة والعاملين بها، نشاطركم هذه المشاعر. والآن: ماذا تريدون؟ فأجابوا:
- نريد العلم. وأجاب الرجل العظيم:
- نعم، سوف أعطيكم العلم، فليتقدم ثلاثة منكم إلى حجرتى لاستلامه، على أن يكونوا مسئولين أمامى عن المحافظة عليه، وعلى صيانته، وعلىسلامة جميع الطلاب الذين سيخرجون به.
وأضاف: لا أريد أى إتلاف أو عدوان، ولا إلقاء أحجار. فلتكن مظاهرتكم مظاهرة أناس متحضرين يعبرون عن مشاعر ومواقف متحضرة. وتساءل: مفهوم؟ فأجابوا بهمهمة واضحة: مفهوم يا فندم. واستدرك الناظر فقال: فليبق الطلبة صغار السن بالمدرسة، أما الطلبة الكبار -ثالثة ورابعة، وخامسة، فليخرج كل من يريد منهم فى المظاهرة، وليعودوا إلينا، وإلى عائلاتهم سالمين. ثم هتف:
- عاشت سوريا حرة، وعاشت مصر حرة. ردد الهتاف ثلاث مرات، وردده كل التلاميذ بالطابور من بعده. ثم انصرف إلى مكتبه، ووراءه الطلبة الثلاثة، الذين عادوا بعد هنية وهم يحملون العلم. وكان علماً أخضر اللون كبيراً مكوناً من قطعة كبيرة مستطيلة من القطيفة الخضراء، مثبته فى حامل علوى من الخشب الجوزى اللون، ومحمولة على حامل طويل من الخشب، بنفس اللون، وقد نقش على القماش الأخضر اسم المدرسة: مدرسة شبرا الثانوية للبنين، مكتوباً بحروف كبيرة، وبطريقة التطريز بخيوط ذهبية اللون.
منذ ذلك اليوم، عرفت أن عبارة: نريد العلم، تعنى أن الطلبة يريدون القيام بمظاهرة، لا بمجرد إضراب.
وفتح الباب الرئيسى للمدرسة، المواجه لحى شبرا، وتدفق منه أغلب الطلبة، وهم يرددون الهتافات الحماسية المنددة بفرنسا، وبالاستعمار، والمشيدة بنضال الشعب السورى، وبدمشق الحبيبة. وظل هتافهم يتردد بعد أن خرجت المظاهرة بمدة طويلة، إلى أن ابتعدت فى طريقها إلى قلب العاصمة.
وبقيت أنا مع صغار التلاميذ بالمدرسة.
ومرت بعد ذلك عدة أسابيع فى سلام وهدوء، وكانت منزله الدكتور أحمد رياض تزداد ارتفاعاً فى نفوسنا. ولكن السعادة لا تدوم. فقد فوجئنا ذات يوم بنبأ عن صدور قرار مفاجئ بنقل الرجل العظيم من مدرستنا إلى ديوان الوزارة، ولم نعرف لذلك سبباً. ونزل علينا النبأ كالصاعقة. وحل علينا الكدر، والغضب. واقترح بعض الطلبة أن تقوم المدرسة غداً بالإضراب احتجاجاً على هذا القرار، وتعبيراً عن تمسكنا، بناظرنا المحبوب، وفى فسحة الضحى توجه عدد من الطلبة، كنت منهم، إلى حجرة الناظر، ودخل إليه بعض الطلبة الكبار وسألوه عما حدث، فأكد لهم أن الخبر صحيح وأنه سوف يقوم بتنفيذ النقل اليوم وفقاً للقرار. ثم اعترض بشدة على اقتراحهم بالإضراب احتجاجاً عليه، وخرج معهم إلى بهو المدرسة حيث كنا واقفين -بعض مئات من الطلبة- وألقى فينا كلمة قال فيها:
- أبنائى الأعزاء، أشكركم كل الشكر على مشاعركم النبيلة وأؤكد لكم أننى لست مستاء من قرار نقلى من هذه المدرسة العزيزة، وإن كنت سأفتقدكم بعد أن تغيبوا عن ناظرى. ولكن تلك هى طبيعة الحياة، ونحن كلنا لسنا إلى جنوداً فى خدمة وطننا العزيز، ويسعدنا أن نؤدى واجبنا  فى أى مكان. فأشكركم وأرجوكم بشدة أن تعدلوا عن أى عمل طائش تقومون به، وثقوا بأن مثل هذا العمل لا يرضينى، بل سوف يسئ إلى أشد الإساءة. أشكركم كل الشكر، وأتمنى لكم أطيب الأمنيات، مع السلامة، وأراكم على خير.
وأنهى الرجل كلامه، وأشار لنا بالتحية، ثم دخل إلى مكتبه، بينما انصرفنا نحن، وفى عيوننا الدموع، إلى فصولنا.
فى اليوم التالى، حضر إلى المدرسة ناظر آخر، ولم نعد نرى الدكتور أحمد رياض فى طابور الصباح مرة أخرى.
 ولكن الأيام لم تقف عن جريانها. وبعد أسابيع قليلة، انتهى العام الدراسى، وأجريت لنا الامتحانات، فنجحت وأصبحت منقولاً إلى السنة الثانية الثانوية.
وأمضيت عطلة الصيف فى قريتى "الزاوية" فى منزل عمتى "هانم" وكانت حالتى المعنوية قد ارتفعت كثيراً عن السنة الماضية. فاستطعت أن استمتع بالعطلة، وأن أتذوق مزايا الحياة فى القرية، فى قلب الطبيعة، ومع الأهل والأحباب.
غير أنى علمت أنى لن أعود فى السنة القادمى إلى مدرسة شبرا الثانوية، وأنه قد تقرر إلغاء القسم الداخلى بها، وأن جميع طلابه سوف يحولون إلى مدرسة حلوان الثانوية منذ بداية العام الدراسى القادم.
لم أحزن كثيراً لهذا النبأ، إذ أن عدم وجود الدكتور أحمد رياض بمدرسة شبرا، قد خفف كثيراً من وقع انتقالى منها إلى مدرسة أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق