ذكريات شاعر مناضل: 78- مفتاح الفرج

78- مفتاح الفرج

  جرى ترحيل معظم الشيوعيين من عنبر ج فى سجن مصر إلى سجون أخرى، ولم يبق معى هناك سوى حوالى العشرين سجيناً، وفى أواخر عام 1958 قامت إدارة السجن، لا أدرى لماذا بنقلنا إلى عنبر (ب) بالسجن، وقيل إن عنبر ج الواقع على الشارع يتيح لمن فيه فرصة إرسال واستقبال الرسائل والإشارات مع العالم الخارجى، فى حين يفترض أن يكون الشيوعيين فى عزلة تامة، ولم أقتنع بهذا السبب، خاصة وأننى أمضيت فى عنبر ج عامين كاملين، وكان الشيوعيون به قبلى بمدة طويلة. ولكننى استنتجت أن هذه الخطوة لابد أنها مرتبطة بأمر أكبر، وعرفت بعد ذلك أنه قد أقيم سجن جديد بالواحات الخارجية - بجهة المحاري، وكانت النية تتجه إلى القيام بحملة اعتقالات واسعة للشيوعيين، وتخصيص قسم كبير من ذلك السجن لهم.
على أى حال تم نقلى أنا والعشرين المتبقين، إلى عنبر ب، المحصور فى وسط السجن، وتك إنزالنا فى عدد من الغرف بالدور الثانى بهذا العنبر، ونزلنا - انا والدكتور شريف حتاتة، وألبير آرييه فى غرفة واحدة، وكانت كل الغرف فى هذا الدور صغيرة لا تتسع الواحدة إلا لسرير واحد، ذى ثلاثة أدوار. وكان معنا الرفاق الثلاثة الشيوعيون\ الإخوان الذين احتلوا غرفة، وأسكن الآخرون فى عدد آخر من الغرف المتجاورة، أما باقى غرف الدور، فكانت مخصصة لأخلاط مختلفة من المسجونين - غير الخطرين - تزوير - اختلاس - نصب .. ألخ.بدأت زيارات سهير والأولاد تأتينى، ولكنها كانت تتم فى إحدى غرف الإدارة بمكتب نائب المأمور- البكباشى فاروق مصطفى، وكان رجلاً جدعاً وشهماً، وكان يجلس معه أحياناً- أو يحل محله ضابط آخر، هو اليوزباشى حسين كامل، وعلمت أنه شقيق للأستاذ أنور كامل، زعيم التروسكيين فى مصر، وكان حسين رجلاً شهماً مهذباً هو الاخر.وعلمت أن الأوامر باستمرار الزيارة الأسبوعية الخاصة بى وبحسن أداء الإدارة لها مازالت قائمة رغم تغير الظروف. وكالعادة، كانت زيارة سهير والأولاد لى، تجلب إلى نفس السرور والسعادة، ولكن مكان الزيارة وملابساتها لم تكن مريحة لنا، وللأولاد. ولكنى حمدت الله على كل حال.ولم أر اليوزباشى إبراهيم مصطفى بعد ذلك فى سجن مصر، وعلمت أنه رقى إلى رتبة الصاغ- ونقل إلى موقع أخر، فسررت لترقيته، وأسفت لنقله، وافتقدت شهامته ودماثته التى كانت تتفق مع كونه ابن بلد، وأنه نشأ فى حى سوق السلاح الذى كانت لى به صلات وذكريات. ووما يذكر - والشئ بالشئ يذكر- أننى لم أر إبراهيم مصطفى إلا بعد ستة عشر عاماً، وكان قد أصبح لواء، ومديراً لمنطقة أبى زعبل، ولليمان أبى زعبل، حين أودعت به مع زملاء آخرين فى عام 1975، فى قضية شيوعية أخرى، فى عهد الرئيس أنور السادات، وكان واقفاً يستقبلنا- نحن النزلاء لديه- وكان معنا المستشار مصطفى طاهر - رئيس نيابة أمن الدولة العليا الذى حضر بنفسه لتسليمنا إلى السجن، وإعطاء التعليمات اللازمة بشأنا. وعندما رآنى إبراهيم مصطفى، اللواء إبراهيم مصطفى، بعد هذا الزمن الطويل، وأنا مسجون لديه مرة أخرى، صاح فى دهشة:-محمود؟ مش معقول، بعد العمر ده كله، ثم تقدم مندفعاًنحوى، ليعانقنى ويسلم على. وقد بقيت- أنا ومن معى فى ضيافته بليمان أبى زعبل أربعة شهور، لقينا منه - كالعادة- كل شهامة ومروءة وإنسانية. ولى معه فى هذهالفترة أيضاً ذكريات ومواقف لاتنسى.بدأت تترامى إلينا الأخبار، عن التوترات المتصاعدة بين الشيوعيين- وخاصة زملاء التكتل، وبين نظام عبد الناصر، كما أخذت تنهال علينا النذر السيئة، باستمرار عملية الانقسام، وتفاقمها، بما يؤكد أنه انقسام بلا رجعة، وبلا علاج.ثم أقبل عام 1959، فدخل علينا مداهماً كأنه قطار الإكسبريس.فى ليلة رأس السنة، من ذلك العام، جرت أكبر حمله اعتقالات للشيوعيين فى التاريخ المصرى، لم أعف على وجه الدقة عدد الذين ألقى القبض عليهم فى تلك الليلة،ولكنى أذكر أنهم كانوا عدة مئات، من كوادر وأعضاء الحزب، بجناحيه. المناوئ لعبد الناصر، والموالى له، وبدا واضحاً أن من يفرقهم الانقسام، سوف تجمعهم أعماق السجون.ثم بدأت تترامى إلينا أخبار مزعجة عن أعمال تعذيب للمسجونين والمعتقلين الشيوعيين، تحدث فى سجون ومعتقلات مختلفة، فى أبو زعبل، والقناضر، والفيوم، ثم تفاقم الأمر فبدأت الأخبار تصلنا عن وفاة بعض هؤلاء الرفاق تحت وطأة التعذيب. سمعنا أولاً عن وفاة الدكتور فريد حداد شهيداً تحت وطأة التعذيب الوحشى فى سجن أبى زعبل، ثم بعدها سمعنا عن وفاة الزميل محمد عثمان تحت وطأة تعذيب قام به أحد كبار ضباط الشرطه شخصياً له فى حجز قسم شرطة طنطا حيث كان محجوزاً به على ذمه قضية شيوعية، وكان محمد مريضاً بالقلب، وكان الضابط الكبير - واسمه يوسف القفاص يعرف حالة محمد الصحية، ومع ذلك فقد ظل يركله فى صدره بحذائه حتى مات، وتم دفنه سراً فى مكان مجهول، ولم يعرف له قبر حتى الآن. وقد كتبت عنه فى حينها قصيدة رثاء بعنوان ألف زهرة-جاء فيها:ألف زهرة .. كلها عطر ونضرة ..للذى نجهل قبره ..للذى أعلت يد الجلاد قدره ..حين ظنت أنها تحجب أمره ..او توارى عن عيون الناس قبره !ألف زهرة .. وكان محمد عثمان زميلاً لنا فى الحزب الموحد، بينما كان الدكتور فريد حداد عضواً فى التكتل. وهكذا جمع الموت بينهما، بعد أن فرقهما الانقسام.سادت الكآبة جو السجن، ولكن هذه الكآبة فجرت عندى ينابيع الشعر، فقد كتبت فى هذه الفترة عدة قصائد، هى: - ألف زهرة - التى ذكرتها سابقاً، - نور عينيك، وقد أهديتها إلى زوجتى فى عيد ميلادها. وجاء فيها:حينما تشتد حولى يا سهير ..ظلمات للأسى لا تتجلى ..مثل أستار ضباب زاحف ..أو كأمواج محيط هائل ..يتراءى وجهك الباسم لى ..كصباح مشرق بالأمل .. ألخ - فى طرق الهوى، وقد كتبتها لسهير وعنها أيضاً، وجاء فيها: فى طريق الهوى وقفت أراعيك ..وأرنو إلى صباك المنعم ..حين أقبلت باسماً تتهادى ..وكأن الوجود حولك يبسم .. ألخ - اليوم السعيد، وهى قصيدة فلسفية مطولة، عن معنى السعادة. جاء بها : حدثتنا عنه فى المهد قلوب الأمهات ..وشفاه رددت خفق القلوب الحانيات ... إلخ - ثم قصيدة- رثاء فنانة. وكانت لهذه القصيدة قصة تحكى، فقد كتبت فى رثاء الفنانة العظيمة أم كلثوم التى كانت ما تزال حية ولم تمت إلا بعد ذلك فى عام 1975 (وكنت فى السجن أيضاً) أما حين كتبت تلك القصيده، فكنت قد سمعت خبراً- غير صحيح- عن وفاة أم كلثوم، وظللت فى عزلة السجن، تحت تأثير هذا النبأ الأليم، بضعة أيام، وجدت فيها وجدانى يتدفق بتلك القصيدة التى عبرت فيها عن مشاعرى نحو ام كلثوم، وعن خواطرى عن الموت. وجاء فيها :سكت القلب الذى كان صداه ..بهجه الدنيا وأفراح الحياة ..والذى رف على الحب هواه ..فاستعاد الحب أحلام صباه .. إلخ .. ومما يذكر ان أغلب هذه القصائد قد كتبت فى السجن فى وقت كان ممنوعاً علينا فيه الحصول على الأوراق والأقلام، فتعلمت وقتها أن أنشى الشعر بلا قلم ولا ورقة، بل أن أسجله وأحفظه فى ذاكرتى. وأصبحت هذه المقدرة تلازمنى بعد ذلك، حتى وأنا خارج السجن. وفى معظم الأحيان، بعد أن يكتمل إنشاء القصيدة وحفظها فى وجدانى، أعمد التى كتابتها فى أول فرصة لاحقة.فى هذا الجو الملبد بالأحزان، حدث لى حدث سار.بعد افتقادى للضابط الشهم إبارهيم مصطفى، سرى عنى أن ضابط عنبر ب الذى نقلنا إليه، كان هو اليوزباشى حسن الخبيرى، وكان ضابطاً شهماً، ولاعب سلة ممتاز هو الأخر، وكان شاباً من أصل نوبى، وسمعت أنه كان يمت بصلة قرابة إلى زميلنا - زكى مراد. ذات يوم من تلك الأيام الكئيبة، كنا معه فى مكتبه، انا والزميل ألبير آرييه، ففاجئنا بقوله: - أنا ها أعزمكم على فسحة كويسة، وقد كان.كان حسن الخبيرى قد شكل فى سجن مصر، من بعض المسجونين فريقاً لكره السلة، كان هو يقوده ويقوم بتدريبه، وكان مقرلااً ان يأخذ هذا الفريق، إلى سجن ليمان طره، ليلاعب فريق ذلك السجن لكرة السلة.
لم نصدق نفسنا ولكنه حصل وركبنا سيارة ترحيلات من داخل فناء سجن مصر، مع باقى المسجونين - أعضاء فريق كرة السلة. وخرجت تلك السيارة من الباب الخلفى للسجن - تحت مسئوبية الضابط حسن الخبيرى، فوجدنا أنفسنا - ننظر من نوافذ تلك السيارة- المغطاة بالسلك، فنرى شوارع القاهرة، وبأوامر من حسن الخيبرى، سارت بنا السيارة إلى كورنيش النيل، ووصلت إلى فندق الهليتون، الذى كان قد بنى حديثاً، فرأيناه لأول مرة- نحن أيضاً. ثم سرنا إيابا على الكورنيش، إلى سجن ليمان طره، ونزلنا مع الفريق، ولم نلعب فى المباراة، ولكننا تفرجنا عليها.بعدها بأسابيع قليلة، نقل حسن الخبيرى من سجن مصر، ولم أعد آراه هو الآخر، وجاء بعده ضابط آخر يسمى الملازم أول "على"، كان على عكس حسن الخبيرى على طول الخط. شخص سخيف، طويل عريض، مرتفع الصوت إلى حد الإزعاج، لا يكف عن الصياح طول الوقت، بسبب وبلا سبب، بحيث كنت لا أطيق مجرد صوته. ولم يكن هناك أى وسيلة لتلافى هذا التعذيب بصوته.كان يأتى إلينا-فى عنبر ب بعض الزملاء من حين إلى آخر، ليقيموا معنا أياماً لأسباب مختلفه، للعلاج فى مستشفى السجن أو مستشفى القصر العينى، أو للعرض على النيابه فى قضايا خاصة بهم، ثم يرحلون، ويأتى غيرهم، فنستقبلهم ونرحب بهم، ونكرم وفادتهم سواء كانوا من فريقنا، أو من الفيق الآخر.ثم فجأة حضرت مجموعه كبيرة من زملاء التكتل، فأقاموا معنا فى عنبر ب حوالى أسبوع، وكانوا قادمين من سجن المحاريق، وذاهبين إلى الإسكندرية، حيث كانت ستجرى محاكمتهم أمام محكمه عسكرية ستنعقد هناك برياسه اللواء هلال عبدلله هلال. كان منهم الدكتور فؤاد مرسى، والدكتور إسماعيل صبرى، وعدد كبير آخر من قادة التكتل. وقابلناهم، وقدمنا لهم ما نسطيعه من المساعدة، ولكنه كان لقاء غرباء.عند ترحيلهم فى الليل، جاءت قوة كبيرة من ضباط الشرطة، لتشرف على عملية الترحيل، وحين جرى إخراجهم للترحيل، كان هناك باقياً بعض الزملاء من التكتل، وأراد هؤلاء أن يحيوا قادتهم المرحلين، فأخذوا يرددون هتافات معادية لنظام، وذلك فى حضور ضابط الداخلية الكبار، مما أحرج إدارة السجن ووضعها فى موقف لا تحسد عليه.فى الصباح الباكر، فتحت علينا الزنازين مبكراً قبل الموعد المعتاد لفتحها. وأمرنا بالنزول، ثم أمرنا بتشكيل طابور، ثم أخذنا فناء خلفى للسجن، وكان يقود هذه التحركات، الضابط لى بصوته المزعج الذى لا يكف عن الصياح.فى الفناء، وجدنا مأمور السجن، لعقيد عبد الحميد حلمى واقفاً وحوله كل ضباط السجن، وما أن وصل طابورنا حتى بدأالضابط على، فى إعطائنا طابوراً رياضياً عنيفاً: -خطوة تنظيم، شمال يمين، شمال يمين،.. إلخ.ثم تمارين أخرى، وقوفا، وعلى الأرض، وتمارين ضغط، وهكذا لمدة تكاد تبلغ الساعة، حت أن الضابط على نفسه، وكان قوياً كالحصان، أخذ يتصبب عرقاً. وهنا أشار عبد الحميد حلمى له بالتوقف، ووقفنا نحن بدورنا فى الطابور مرة أخرى. وبدأ عبد الحميد حلمى يلقى علينا خطبة سخيفة، ثم قال: -نحن فقط نريد أن نبلغكم رسالة، أننا نحن أيضاً نستطيع إتعابكم. وأنا الآن أريد أن أطلب من الذين هتفوا الليلة الماضية، أن يخطو خطوة للأمام-خارج الطابور يللا ..ولكن ووقف ينتظر تنفيذ أمره. ولكن أحداً لم يتحرك. فصاح بنا: -اللى هتف امبارح يطلع خطوة لقدام. يللا..ولكن أحداً لو يتحرك.وهنا بدا الغيظ على وجهه. فقال بصوت مرتفع: -ال - أنا كنت فاكر أن الشيوعيين ناس شجعان. ولكن يا خسارة .. ومع ذلك فأنا بقول لكم لآخر مرة: -اللى هتف امبارح يطلع خطوة لقدام ..يللا.وفجأة وجدتنى أنا أخطو للأمام . فأنتظر لحظة لعل أحداً آخر يفعل مثلى، كنا حوالى مائة، معظمنا من التكتل، والآخرون من الموحد هز عبد الحميد حلمى رأسه أسفاً وقال: -مفيش غير محمود توفيق .. ثم أضاف:  -إنما انا متأكد أنه ما هتفش.امر عبد الحميد حلمى بإعادة الجميع إلى العنبر، ماعدا انا، فقد أخذنى الشاويش إلى المكاتب، وجاء عبد الحميد حلمى. ومعه عدد من الضابط، ثم توقف أمامى وهو يقول: -يا محمود أنا احى شجاعتك، ولكنى عاوز أحذرك. انتم لا تعرفون شيئاً عن الظروف الراهنه. ونحن هنا فى هذا السجن نعاملكم بالحسنى، ولكنكم لا تعلمون ما يحدث لزملائكم فى السجون الأخرى. أرجو ألا تضطرونا إلى اللجؤ للشدة، أتفضل، خده يا شاويش.وأنصرف عبد الحميد حلمى ودخل إلى مكبه. ووجدت البكباشى فاروق مصطفى، نائب المأمور، يقبل نحوى ويقول لى هامساً: -سيبك منه، ده ابن كلب.وفى الواقع أن عبد الحميد حلمى لم يكن شخصاً سيئاً، كل ما فى الأمر أنه كان موظفاً، ويحاول أن يحافظ على نفسه.بعد رحيل فوج زملاء التكتل بأسابيع، وفد إلينا فى عنبر ب عدد من زملائنا أعضاء الحزب الموحدـ قادمين من سجن المحاريق بالواحات، وعلمنا أنهم سيمكثون معنا قليلاً، ثم يرحلون هم أيضاً إلى الإسكندرية، ليمثلوا بدورهم أمام المحكمة العسكرية.استقبلناهم بالترحيب المعتاد. وكان منهم شهدى عطية، ومبارك عبده فضل، وإبراهيم عبد الحليم، وآخرون.  فى اليوم التالى لمجيئهم، كان موعد زيارتى الأسبوعية، وفى الزيارة، فوجئت بحضور شقيقتى عليه، مع سهير والأولاد، وقالت لى عليه: -ها أقول لك حاجه كويسة، إنما أرجو أنها تكون كويسة بالنسبة لك انت كمان. قلت لها: -اتفضلى.ذكرت لى بصوت خفيض، أن يوسف قابل جمال عبد الناصر أول أمس، وتطرق حديثهما إلى وضع الشيوعيين بصفه عامه، وخاصة المؤيديين له وطلب منه النظر فى أمر الإفراج عنهم ولكنه لم يجد منه استجابه، فانتقل يوسف بالحديث إلى وضعى انا، وكان قد مضى على خمسة سنوات فى السجن، كما أنى لم أشارك ف الصدام الأخير بين الشيوعيين وبين عبد الناصر، وبدا على عبد الناصر الاقتناع فقال. -أنا أقدر أفرج عنه حالاً، إنما إيه الفايده، ها افرج عنه النهارده، وأمسكه بكره. لا هو ها يبطل نشاط، ولا هو هايبطل نشاط، ولا أنا هابطل أقبض على اللى بيعملوا النشاط الشيوعى. إذا كنت انت تضمن لى إذا أفرجت عنه إنه ما يعملش نشاط تنظيمى، فأنا مستعد أفرج عنه حالاً. قلت إيه؟شكره يوسف على موقفه، وقال له -محمود إذا قال شيئاً فهو يلتزم به. وأنا هابعت أسأله، ثم أبلغك بإجابته. ثم قالت عليه:  -ودلوقت يوسف بيسألك، رأيك ايه؟ كانت المسأله واضحة فى ذهنى كل الوضوح، وكنت بالطبع دائم التفكير فى الوضع المأساوى الراهن، وفى كيفية تجاوزه والخروج منه. كان الوضع كارثياً من كل النواحى فالحزب-بجناحيه، قد جرى تخريبه بالانقسام الذى مزقه شر ممزق، ثم جرى سحقه بضربة الاعتقالات التى ألقت بكل قيادته، ومعظم عضويته، إلى أعماق السجون، وهذا كله- بفضل القيادات التاريخيه لجناحى الحزب. التى أساءت التقدير والتصرف فى كل الأمور. وتؤكد المعطيات جميعاً أن هذا الوضع سوف يستمر لأمد لا يعلم إلا الله مداه. وفضلاً عن ذلك، فإن المواقف الوطنية لعبد الناصر، بصرف النظر عن نقاط الخلاف، تجعل المعارضة له موقفاً خاطئاً سياسياً، ووخيم العواقب، لأنه يلقى على المعارضين له شبهة العمالة للاستعمار. هذا فى الوقت الذى يمثل قبولى فيه للعرض المطروح على، بارقة أمل، ولو صغيرة، فى الخروج من المأزق الراهن - ولو على المدى الطويل. فى حسن أن الرفض لهذا العرض، يعتبر موقفاً خاطئاً سياسياً، كما أنه موقف أحمق علمياً، وهو مجرد عناد على حساب المستقبل، مستقبلى أنا، مستقبل أسرتى، زوجتى وأولادى، وربما، مستقبل القضية كلها. كانت القضية جاهزة لإصدار الحكم فيها - كما يقول رجال القضاء. ولذلك قلت لسهير، ولشقيقتى عليه: -أنا موافق. فبدا عليهما الارتياح، وقالت عليه: -ألف مبروك. وانصرفوا، سهير وعليه، ومعهما الأولاد. دخلت إلى العنبر وأنا أشعر بحالة تشبه الدوار. وطافت بذاكرتى أشرطة عديدة من الذكريات، المرة، عن كل ما حدث لى منذ إلقاء القبض على، أنا وزملائى، فى بيت عبد الجابر خلاف، كما تمثلت لى الأيام الكريهة المظلة التى تحيط بى الآن، ووجدتنى رغم هذا أردد الحكمة القائلة: -اشتدى أزمة تنفرجى. عدت إلى العنبر، وأخبرت زميلى فى الزنزانة، شريف حتاتة، وألبير أربيه، بما حدث، فكادا يطيران فرحاً. ثم قال شريف بالتؤدة المعروفة عنه: -اعتقد أن ذلك سوف يكون مقدمة لتطورات هامة أخرى مبروك ليك، ومبروك لينا إحنا كلنا. ثم ذهبت إلى الزملاء القياديين، شهدى عطية، ومبارك عبده فضل، وإبراهيم عبد الحليم، فاختليت بهم، ونقلت لهم الخبر،فابتسمت أساريرهم، وقالوا مثل ما قال شريف حتاته: -هذا قد يكون تطوراً هاماً فى الموقف كله، ويبدو أن عبد الناصر - هو الآخر مهتم بالتفكير فى إيجاد طريق لحل الأزمة القائمة بينه وبين الشيوعيين. وقد يكون ما يفعله معك هو تجربة أولية لمثل هذا الحل. سألتهم: -يعنى أوافق؟ فأجابوا جميعاً: -بلا أى تردد. بعد يومين حضرت سهير إلى السجن، وتركت لى فى مكتب نائب المأمور حقيبة بها ملابس مدنية، بدلة وقميص ورباط عنق. وأرسل البكباشى فاوق مصطفى فى طلبى. وأبلغنى بذلك، وفهمت أنه علم بالموقف، وهنأنى بحرارة. ثم قال لى إن الملابس ستظل عنده لحين إتمام الإجراءات. فى خلال يومين، لا أكثر، تمت الإجراءات، وما أسرع دوران العجلة، حين تشاء الدولة، وحين تشاء المقادير، وحين يشاء الله سبحانه وتعالى. استدعيت إلى مستشفى السجن، فوجدت الدكتور إبراهيم زكى - وكان صديقاً للشيوعيين، ومعه الدكتور عزمى مرقص، مدير الإدارة الطبية بمصلحة السجون، وقالا لى إنهما لجنة مكلفة بإثبات حالتى الصحية. فحصانى على عجل، وحررا محضراً بحالتى الصحية - كما قدراها. واثبتا أننى مستحق للعفو الصحى عنى سريعاً. ثم هنآنى. بعد يوم واحد، دعانى فاوق مصطفى، وسلمنى الحقبية وبها البدلة، ثم قال لى: -مبروك مرة أخرى، وردت الإشارة بالإفراج عنك فوراً، إلبس البدلة، وبعد نصف ساعة تيجى، وسأعمل إجراءات الإفراج، وتتفضل من غير مطرود. صعدت إلى زنزاتنى، فحلقت ذقنى، وليست البدلة تاركا ملابس السجن للسجان، وودعت زملائى وداعاً حاراً. ثم ذهبت إلى الزملاء القياديين، وأنا ألبس ملابس الإفراج. فودعونى وقالوا لى: -لن نوصيك بأى شئ، فأنت تعرف كل شئ، ولا تحتاج لأى توصية. قلت لهم: -لن أقوم بأى نشاط تنظيمى، فالتنظيم غير موجود، ولن أعمل على إعادة التنظيم، فهى مهمة تفوق قدرة أى فرد فى الظروف الحالية، وأنا أعرف أننى سوف أكون موضوعاً تحت ألف مجهر. ولكننى سوف أعمل سوف أعمل كل مافى وسعى من أجل القضية. ثم ودعتهم وانصرفت. ختم لى نائب المأمور على ظاهر يدى بختم الإفراج، وأرسل معى أحد الضباط الصغار ليوصلنى إلى مقر المباحث العامة فى المبنى المجمع بميدان التحرير، ليسلمنى إليها، وهناك وجدت العقيد حسن المصيلحى، رئيس مكتب مكافحة الشيوعية ومعه بعض الضباط فى انتظار وصولى. هنأونى بالإفراج، وتمنوا لى التوفيق ثم تركونى أنصرف حراً طليقاً. وحين خرجت إلى الشارع، وبيدى حقيبتى الصغيرة، كان الظلام قد حل، وكنت قد أكملت فى السجن خمسة أعوام، ونصف شهر. فقد كان اليوم هو يوم 29 ديسمبر سنة 1959، وكنت قد ألقى القبض على يوم 14 ديسمبر 1954. نظر إلى يوسف وليلى باستغراب، وهما يشاهدانى لأول مرة وأنا أرتدى ملابس كالتى يرتديها بقية الناس، خلاف ملابس السجن. وظلت ليلى ملتصقه بى، وكأنها تخشى أن أعود مرة أخرى إلى السجن. أما يوسف - فبقى معنا قليلاً، ثم غلبه النعاس فحمل إلى فراشه. كان يوسف قد بلغ الخامسة من عمره، وكانت ليلى قد بلغت السادسة والنصف. وشعرت بإرهاق شديد، وبأننى قد قلبت صفحة من كتاب حياتى، صفحة عمرها .عدة أعوام، وربما عدة قرون، وأننى استشرف زمناً آخر، أو حياة أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق