ذكريات شاعر مناضل: 46- فى أتون الثورة

46- فى أتون الثورة


لم تستغرق جلسة الجنح بمحكمة كفر عمار الجزئية إلا وقتاً قصيراً، إذ كنا فى فصل الإجازة القضائية، وكان القاضى منتدباً، فاكتفى بإثبات حضور الأطراف والمحامين، ثم قرر تأجيل جميع القضايا لما بعد العطلة القضائية.
وهكذا قفلت راجعاً إلى القاهرة فى أول أوتبيس قام من كفر عمار إلى الجيزة. ومازلت أذكر مشاعرى وأنا أعود إلى القاهرة فى ذلك الوقت، مغموراً بمشاعر الابتهاج والسرور، بعد أن استمعت إلى البيان الأول الذى أصدره القائد العام للقوات المسلحة -اللواء أركان حرب محمد نجيب معلناً فيه قيام الجيش بحركته لتطهير نفسه من عوامل الفساد، وهو ما كنت أدرك جيداً أن هذه لن تكون إلا مجرد بداية لحركة ثورية شاملة ضد النظام القائم، شأنها فى ذلك شأن الحركة العرابية فى حينها. وكانت إذاعة هذا البيان -وبإسم اللواء محمد نجيب- قد أدخلت إلى نفسى قدراً كبيراً من الأطمئنان إلى بدء قيام الحركة، وإلى أن أمورها تسير على ما يرام. ولكن عدم معرفتى بالواقع الفعلى لمجريات الأحداث، تركنى فريسه للقلق، القلق على مصير الحركة، والقلق على مصير يوسف صديق، خاصة وأنا قد تركته  فى حالة صحية تدعو إلى هذا القلق.
نزلت من الحافلة فى ميدان محطة السكة الحديدية بالجيزة، وأخذت الترام رقم 15 فى طريقى إلى وسط القاهرة، ورغم أن الحالة بدت لى هادئة إلى حد بعيد، إلا أننى كنت أشعر بأن الناس تبدو عليهم الكثير من أمارات الارتياح، فتفاءلت خيراً. وعندما وصل الترام إلى منطقة الزمالك، ثم إلى منطقة أبو العلا. بدأت أشهد جموع الناس الجالسين على المقاهى، أو المتجمهرين أمامها وهم يستمعون إلى أجهزة الراديو فى اهتمام ظاهر. وعلمت فيما بعد، أن الراديو كان يعيد إذاعة البيان الأول لحركة الجيش من حين إلى آخر، كما كان يذيع نشرات أخبار متلاحقة.
وعندما وصل الترام إلى منطقة "الأسعاف"، رأيت بعض الدبابات واقفة هناك، وأخرى تقف فى شارع الملكة نازلى "رمسيس حالياً" على مقربة من مبنى السنترال العمومى، ورأيت جموعاً من المواطنين تحيط بتلك الدبابات، وهى تهتف فى سعادة، بحياة الجيش: عاش الجيش منقذ مصر. عاش الجيش مع الشعب. وعندما رأيت تلك المشاهد، وسمعت تلك الهتافات، أحسست بالطمأنينة تغمر نفسى.
نزلت من الترام رقم 15 فى شارع فؤاد، وأخذت الترام رقم 8 المتجه إلى شبرا، ولاحظت علامات الاهتمام والابتهاج التى تحيط بجموع المواطنين الذين كانوا يقفون أمام المقاهى والمحلات، ليستمعوا إلى نشرات الإذاعة.
وصلت إلى بيت يوسف صديق الواقع خلف سينما أمير بمنطقة دوران شبرا، فوجدت البيت غاصاً بالناس. كانت هناك شقيقتى "عليه" بالطبع، ومعها ابنها حسين ، وابنتها الصغيرة نعمت. كما كانت هناك شقيقتى "خيرية"، و"سعاد" ومعهما عد من أولادهما، كما كان هناك عدد آخر من الأقارب. وعلمت منهم أن يوسف قد اتصل تليفونياً ليطمئنهم على صحته وأحواله، ولكنه أخبرهم بأن الأوضاع لن تسمح له بالعودة إلى المنزل فى الظروف الراهنة.
ثم أبلغنى "محيى الأزهرى" ابن شقيقتى "خيرية" أننى مدعو للاجتماع فى الساعة السادسة مساء، عند رفيقنا "فتح الله" بشبرا، وكان محيى، الطالب بكلية الحقوق وقتها، عضواً فى تنظيم حدتو، وكان هو مندوب الاتصال بينى وبين "فتح الله" -مسئول الاتصال بلجنة قسم شبرا.
تابعت نشرات الإذاعة، وعرفت أن قيادة الجيش قد طلبت من السراى، إعفاء نجيب الهلالى من رئاسة الوزارة، وإسناد تلك الوزارة إلى على ماهر باشا، وعلمت أيضاً أن الملك قد وافق على ذلك، وكلف على ماهر بتشكيل الوزارة فعلاً. ثم علمت أن اختيار على ماهر لرئاسة الوزارة جاء بعد مناقشة الأمر فى مجلس القيادة، وموافقة المجلس على هذا الاختيار، وأن محمد نجيب قد ذهب إلى على ماهر بمنزله فى الجيزة، ومعه أنور السادات، حيث أبلغه بقرار المجلس باختياره لرئاسة الوزارة الجديدة، فوافق على ذلك، ولكنه اشترط أن يأتيه التكليف من الملك، باعتباره صاحب السلطة الشرعية. ثم ما لبث أن اتصل بنجيب بعد ذلك، وأبلغه بأن الملك قد اتصل به وأبلغه بالتكليف. وبذلك بدأت الأمور تسير فى طريقها لحل الأزمة.
ذهبت فى الساعة السادسة إلى منزل رفيقنا فتح الله، بشبرا، وهناك وجدت رفاق لجنة القسم على وشك الاجتماع، ومعهم الرفيق "بدر" -سيد سليمان رفاعى، سكرتير عام حدتو- وأن هذا الاجتماع ينعقد بصفة طارئة، لمناقشة الموقف من حركة الجيش.
وعرض بدر الموقف، وأعرب عن وجهه نظر قيادة التنظيم المتمثلة فى اعتبار حركة الجيش انقلاباً ثورياً يصب فى تيار الثورة الوطنية الديموقراطية، وأن القائمين به من ضباط الجيش، هم مجموعة من الضباط الوطنيين من أبناء الطبقة الوسطى، ومن فئات وطنية معادية للاستعمار والنظام الملكى، وألمح إلى أن قيادة حدتو، لديها معلومات كافية عنهم، بل ولديها اتصالات طيبة بهم، عن طريق زملائنا فى قسم الجيش. ولذلك فموقف المنظمة، هو تأييد تلك الحركة، والدفاع عنها، فى مواجهة المؤامرات التى سوف توجه إليها من جانب الاستعمار والسراى وأعوانهما، والدفع فى اتجاه تدعيم الاتجاه الوطنى الديموقراطى لتلك الحركة، وتعزيز مواقعه.
وكان بدر يعرف صلتى بيوسف صديق، ودور يوسف فى الحركة، فدعانى إلى الكلام، وأبديت فى كلامى تأييد وجهة نظر المنظمة فى تحديد موقفها من الحركة، وأضفت الكثير من المعلومات التى كانت لدى فى اتجاه تأصيل هذا الموقف، من الوجهة الواقعية، وقابل بدر كلامى بكثير من الارتياح والتأييد. وانتهى الاجتماع بإبلاغ بدر لنا، أن المنظمة سوف تصدر الليلة بياناً بتحديد موقفها من حركة الجيش على نفس الأسس التى تم عرضها فى هذا الاجتماع.
بعد الاجتماع، توجهت إلى مكتب الشلقانى، فوجدت الزملاء جميعاً هناك، ولا حديث لهم إلا عن حركة الجيش، وهم حائرون فى تفسير وتحليل تلك الحركة، ووجدتنى أقوم بإيضاح الموقف لهم، على ضوء معلوماتى وما عرفته عن موقف التنظيم من الحركة. وبدا لى أن هذا الموقف قد صاددف ارتياحاً واقتناعاً من جانبهم.
سلمت لعلى الشلقانى دوسيه قضية كفر عمار، وأخبرته بما تم فيها، وقبل أن أنصرف، سألنى على الشلقانى بوت خفيض: أنت كنت عارف عن هذه الحركة إمبارح. وعندما اجبته بالنفى -مبتسماً، بدا عليه عدم التصديق، وقالى لى: أصل إمبارح لما أديتك دوسيه القضية، كنت مرتبك ومش عايز تحضر فيها.
ومما يذكر أن على الشلقانى كان فى ذلك الوقت عضواً فى تنظيم حدتو، هو الآخر، وربما كان على عبد البارى عضواً بالتنظيم كذلك.
ظل مجلس القيادة فى شبه اجتماع مستمر يناقش الموقف بعد إذعان الملك لمطالب الجيش، وتقرر فى اجتمااع استغرق ليلة 24/23 يوليو عزل الملك، على أن يظل الأمر سراً حتى بالنسبة لعلى ماهر نفسه.
ولما كان الملك فى الإسكندرية، فقد أخذت الأنظار تتجه إليها، وخاصة بعد أن أستتب الأمن فى القاهرة، وحوصر قصر عابدين، وتم اعتقال كبار ضباط الجيش، والقلم السياسى، ومدير الأمن العام.
ولم تكد تهدأ الأوضاع فى القاهرة، حتى تقرر إرسال وحدات إلى الإسكندرية تمهيداً لعزل الملك، وكلف زكريا محيى الدين بوضع خطة لذلك، وكان هو الذى قام من قبل بوضع خطة تحريك القوات ليلة 23/22 يوليو. وكان تحريك القوات إلى الإسكندرية ضرورة تقتضيها الظروف حذراً من تصرفات الملك، الذى كان يبحث بلا شك عن أى طريقة للخروج من مأزقه. وقد عرف أن الملك استدعى جيفرسون كافرى سفير أمريكا لمقابلته فى سراى المنتزه يوم 7/23، وطلب منه أن يطلب من حكومته إقناع الحكومة البريطانية بحاجة الملك الشديدة لتدخل قواتها. وعلم بعد ذلك أن بريطانيا لم تستجب لهذا الطلب، كما أن أمريكا لم تستجب له أيضاً. وعلم أيضاً أن فاروق قد حاول، بمعونة حيدر باشا، تحريض القوات المصرية بالإسكندرية على الوقوف ضد الحركة، ولكن تلك القوات لم تستجب لذلك.
وكان على ماهر قد وصل إلى الإسكندرية يوم 7/24 وأقسمت وزارته اليمين القانونية، واستدعى إليه سليمان حافظ، مستشار رئاسة مجلس الوزراء المنتدب من مجلس الدولة ليعد له التشريعات المطلوبة بناء على طلبات محمد نجيب. وإذ علم على ماهر من سليمان حافظ أن فتحى رضوان يعتبر صديقاً لأنور السادات، وأنه معتقل فى هاكستب، أصدر قراراً فورياً بالإفراج عنه هو ويوسف حلمى وسعد كامل واستدعاه إلى الإسكندرية فوراً على متن طائرة حربية.
وفى صباح يوم 25 يوليو، وصل محمد نجيب إلى الإسكندرية ومعه يوسف صديق وجمال سالم وأنور السادات وحسين الشافعى وزكريا محيى الدين -واضع الخطة- الذى رأى تأجيل تنفيذها يوماً واحداً، حتى يستريح الجنود، إذ أن بعضهم لم ينم منذ ليلة 23/22 يوليو.
بقى يوم واحد على الموعد المحدد لعزل الملك، والإسكندرية فى حالة ابتهاج شديد وتلاحق مواكب الضباط بالهتاف. وأثار جمال سالم إشكالاً استغرق حله عدة ساعات، إذ أثار تساؤلاً عن مصير الملك بعد عزله، وانقسم الرأى فى ذلك إلى قسمين، جمال سالم وعبد المنعم أمين، وزكريا محيى الدين، يرون ضرورة محاكمته وإعدامه، بينما محمد نجيب ويوسف صديق وأنور السادات، وحسين الشافعى يرون الاكتفاء بعزله ونفيه من البلاد. ثم استقر الرأى على استطلاع رأى بقية أعضاء مجلس القيادة فى الأمر، وسافر جمال سالم إلى القاهرة فى منتصف ليلة 26/25 يوليو بالطائرة، وعاد منها فجراً حاملاً رأى بقية الأعضاء: جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، وخالد محيى الدين، وعبد اللطيف البغدادى، وكمال الدين حسين. وأيد هؤلاء الرأى المنادى بالاكتفاء بعزل الملك ونفيه من البلاد.
وفى صباح يوم 26 يوليو، توجه محمد نجيب لمقابلة على ماهر فى بولكلى، وقدم إليه نص الإنذار الذى طلب الجيش تويهه إلى الملك، بضرورة توقيع وثيقة بالتنازل عن العرش إلى ولى عهده، الأمير -الطفل- أحمد فؤاد، وذلك قبل حلول الساعة الثانية عشر من ظهر اليوم، على أن يغادر البلاد قبل الساعة السادسة مساء، وقد اهتز على ماهر للموقف، ولكنه رضخ له، ثم أخذ الإنذار وتوجه به إلى القصر الملكى فى رأس التين فوراً. وكانت كلمات الإنذار كالآتى:
من الفريق أركان الحرب محمد نجيب باسم ضباط الجيش ورجاله إلى جلالة الملك فاروق الأول:
إنه نظراً لما لاقته البلاد فى العهد الأخير من فوضى شاملة عمت جميع الموافق نتيجة سوء تصرفكم وعبثكم بالدستور، وامتهانكم لإرادة الشعب حتى أصبح كل فرد من أفراده لا يطمئن على حياته أو ماله أو كرامته -ولقد ساءت سمعة مصر بين شعوب العالم من تماديكم فى هذا المسلك حتى أصبح الخونة والمرتشون يجدون فى ظلكم الحماية والأمن والثراء الفاحش والإسراف الماجن على حساب الشعب الجائع الفقير، ولقد تجلت أيه ذلك فى حرب فلسطين وما تبعها من فضائح الأسلحة الفاسدة، وما ترتب عليها من محاكمات تعرضت لتدخلكم السافر، مما أفسد الحقائق وزعزع الثقة فى العدالة وساعد الخونة على ترسم هذه الخطى فأثرى من أثرى وفجر من فجر، وكيف لا والناس على دين ملوكهم.
لذلك قد فوضنى الجيش الممثل لقوة الشعب أن أطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولى عهدكم الأمير أحمد فؤاد على أن يتم ذلك فى موعد غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم (السبت الموافق 26 يوليو 1952 والرابع من ذى القعدة (1371) ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة مساء اليوم نفسه، والجيش يحمل جلالتكم كل ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج.
توقيع: الفريق (أركان حرب) محمد نجيب
وأبلغ على ماهر الملك شفاهة بالإنذار، ونصحة بقبوله استبقاء للعرش فى ذريته، فوافق الملك على الإنذار، وأبدى بعض طلبات لا تقدم ولا تؤخر، ولكنه طلب مقابلة السفير الأمريكى قبل سفره.
وكان الدكتور عبد الرزاق السنهورى -رئيس مجلس الدولة- قد أعد وثيقة التنازل عن العرش فحملها المستشار سليمان حافظ إلى الملك لتوقيعها قبل الساعة الثانية عشرة حسب نص الإنذار.
واهتزت أعصاب فاروق من صيغة التنازل، وحاول -محاولة واهية- إدخال بعض التعديلات عليها، دون جدور، وأخيراً اضطر إلى التوقيع على التنازل كما هو، وكانت صيغته كالآتى:
أمر ملكى رقم 65 لسنة 1952
نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان.
لما كنا نرغب رغبة أكيدة فى تجنيب البلاد المصاعب التى تواجهها فى هذه الظروف الدقيقة ونزولاً على إرادة الشعب.
قررنا النزول عن العرش لولى عهدنا الأمير أحمد فؤاد وأصدرنا أمرنا بهذا إلى حضرة المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس الوزراء للعمل بمقتضاه.
صدر بقصر رأس التين فى 4 ذى القعدة 1371 (26 يوليو 1952). وكان فى وداع الملك على المرسى بقصر رأس التين، فى الساعة السادسة مساء يوم السبت المذكور، كل من: على ماهر، رئيس الوزراء، وجيفرسون كافرى -السفير الأمريكى، وزوجا شقيقته فوزية وفايزة، إسماعيل شيرين ومحمد على رءوف، وبعض ضباط الحرس، والجميع فى وجوم شديد. وكانت الملكة ناريمان، ومعها ابنها ولى العهد، وبنات الملك فاروق، وبعض الوصيفات، قد سبقوا بالصعود إلى اليخت "المحروسة".
وعندما دقت الساعة السادسة عزفت الموسيقى السلام الملكى، وأنزل العلم الملكى من على ساريته وطواه ضباط الحرس الذى سلمه إلى على ماهر، فسلمه بدوره إلى الملك. وأطلقت المدفعية 21 طلقة، وأدى حرس الشرف التحية العسكرية. وصافح الملك مودعية بينما خدم القصر والمودعون يجهشون بالبكاء.
ولا يدرى المرء، هل كانت طلقات المدافع التى دوت إذ ذاك، لوداع الملك، أم لاستقبال عهد جديد.
كان من المقرر أن يشارك محمد نجيب فى وداع الملك، ولكنه تأخر فى الطريق إلى القصر بسبب المظاهرات الحاشدة التى اعترضت طريقه. وحين وصل كان الملك قد استقل المحروسة فى بداية رحلته إلى المنفى، وأصر محمد نجيب على اللحاق به لتوديعة، فاستقل لنشاً ومعه مرافقوه، القائمقام أحمد شوقى، وقائد الجناح جمال سالم، والبكباشى حسين الشافعى، واليوزباشى عبد المجيد فريد، اتجه بهم إلى المحروسة قبل إقلاعها. وصعدوا إليها، ثم أدى محمد نجيب التحية العسكرية للملك المعزول، وتصافحا باليد. ثم انعقد لسان نجيب عن الكلام برهة، تأثراً بالموقف، ولكنه تمالك نفسه وقال لفاروق:
إننى أريد أن أقول لك شيئاً... عندما اقتحمت الدبابات البريطانية قصرك فى 4 فبراير 1942، كنت أنا الضابط الوحيد الذى قدم استقالته احتجاجاً على هذا الاعتداء الشنيع على استقلال البلاد. فعلت هذا باسم الجيش كله وعبرت به من شعور هؤلاء الضباط الذين قاموا بالحركة اليوم.. وفى هذا ما يدل على مبلغ ما كان من ولائنا نحن رجال الحركة لك. أما الآن فقد تطورت الأحوال وانقلبنا نحن حماتك إلى ثوار عليك نتيجة أعمالك وتصرفات من حولك.
وفوجئ فاروق بهذا الحديث فقال:
على كل حال إننى أتمنى للجيش كل الخير.. وأننى أوصيك خيراً بالجيش المصرى فهو جيش آبائى وأجدادى.
ثم قال الملك وهو يصافحهم مودعاً بعد أن أدوا له التحية العسكرية:
انتم سبقتونى فى اللى عملتوه.. اللى عملتوه دلوقتى كنت أنا راح أعمله.
ما من مرة قرأت عن هذا المشهد، مشهد خروج فاروق من قر رأس التين، معزولاً من العرش، منفياً إلى خارج مصر، إلا وتذكرت ما قاله الشاعر البحترى فى وصف مشهد مماثل، هو ما حل بقصر اللؤلؤة، قصر الخليفة المتوكل، من خراب ونكبة، منذ أكثر من ألف عام، والقياس هو طبعاً -مع الفارق- ولكن الشئ بالشئ يذكر، قال:
ولم أنس وحش إذ ريع سربه
وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره 
وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت
على عجل أستاره وستائره
فأين الحفاظ الصعب حين تمنعت
بهيبتها أبوابه ومقاصره
وأين عميد الناس فى كل نوبة
تتوب، وناهى الدهر فيهم وآمره!!
كانت حركة 23 يوليو مجرد حلقة أولى فى طريق الثورة، أما الآن، فإنه يمكن القول بكل ثقة، إن تلك الحركة قد أصبحت بمثابة ثورة كاملة. ذلك إنه إذا صحت مقولة لنين بأن المسألة الحاسمة فى أى ثورة، هى مسألة السلطة، أى أن القبض على السلطة وانتزاعها من أيدى طبقة أو مجموعة حاكمة، إلى أيدى طبقة أو فئة أخرى، فإن عزل فاروق، ونفيه، ووضع السلطة فى يد القيادة الجديدة للجيش، قد حول تلك الحركة، إلى ثورة ناجزة. فالسلطة التى خلعت، وهى سلطة الملك فاورق، كانت هى السلطة الحاكمة فى النظام القديم، كما أنها كانت هى السند الأساسى للحكم الاستعمارى البريطانى، وللنظام الإقطاعى الرأسمالى المسيطر. ومن ثم فإن الجدل الذى ثار لمدة طويلة حول طبيعة حركة 23 يوليه، يصبح جدلاً بيزنطياً لا يستند إلى واقع صحيح، ولا إلى فكر نظرى سليم.
ولذلك، فقد كان إطلاق اسم الثورة على حركة 23 يوليه، بعد عزل الملك، هو التصوير الصحيح للوضع القائم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق