ذكريات شاعر مناضل: 19- فى لهيب الحرب

19- فى لهيب الحرب


فى أول أكتوبر سنة 1940 عدت إلى مدرسة حلوان، لبدء الدراسة، معيداً للسنة الثالثة بعد أن اخلفت عن الامتحان السابق فيها. وأخذت مكانى فى القسم الداخلى بها، وبدأ العام الدراسى وسارت الأمور فيه سيرتها المعتادة. غير أن الدنيا كانت قد تغيرت كثيراً عما كانت عليه فى العام السابق.
فعلى المستوى الدولى كانت بريطانيا وفرنسا قد أعلنتا الحرب على ألمانيا فى 1939/9/3 وكانت رحى الحرب تزداد ضراوة وعنفاً، وكانت ألمانيا قبل ذلك قد اجتاحت النمسا دون أية مقاومة منها أو من الدول الغربية المعادية لألمانيا، وكذلك الحال فى تشيكوسلوفاكيا. كما كانت قد اجتاحت ألبانيا بعد ذلك بقليل.
 وفى أوائل أبريل سنة 41 قامت ألمانيا بغزو الدانيمارك واحتلالها، وفى مايو قامت بغزو واحتلال هولندا وبلجيكا، وفى يونية بدأت ألمانيا غزو فرنسا، وما لبثت أن احتلت باريس، وانشطرت فرنسا إلى شطرين، شطر تحتله ألمانيا، وشطر يحكمه المارشال بيتان الموالى لها، وأعلن الجنرال ديجول من لندن تشكيل حكومة فرنسا الحرة، وأنه سيواصل الحرب لتحرير فرنسا.
وفى 7 ديسمبر هاجمت اليابان أمريكا فى المحيط الهادى، مما أدى إلى اتساع ساحة الحرب لتشمل العالم كله.
أما إيطاليا فكانت قد أعلنت الحرب إلى جانب ألمانيا وبدأت تحشد قواتها فى ليبيا لغزو مصر.
أما فى داخل مصر، فقد كانت الأوضاع تهتز وتتأرجح على إيقاع الأحداث العالمية وتحت وطأة التهديد الإيطالى الداهم.
فمنذ أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب فى 1939/9/3 على ألمانيا، أخذت بريطانيا تضغط على مصر لإعلان الحرب بدورها، ولكن وزارة على ماهر -التى كانت قائمة حينذاك، رفضت ذلك، وأعلنتالحياد، وفقاً لسياسة تجنيب مصر ويلات الحرب، واستمرت بريطانيا تضغط على مصر فى هذا الشأن وقتاً طويلاً، إلى أن كفت عن ذلك بعد أن اقتنعت أن فى تلك السياسة ما يحقق مصالحها.
وبعد ذلك كلف حسين سرى باشا بتشكيل الوزارة، فألفها وزارة محايدة، وأعلن التزامة بسياسة الحياد، وكان على ماهر قد أعلن وفى أول ديسمبر سنة 39 الأحكام العرفية، كما أعلن قطع العلاقات مع ألمانيا.
وكانت انتصارات ألمانيا الكاسحة فى أوروبا، تبعث فى نفوس أغلب المصريين الشعور بأن إنجلترا سوف تهزم لا محالة فى الحرب، وكانت سياسة الحياد تلقى استجابة من أغلب الناس، ربما كانعكاس لهذه المشاعر. كذلك كانت سرعة التغييرات الوزارية التى تحدث فى البلاد، تعطرر شعوراً بعد استقرار الأوضاع السياسية، خاصة مع طول استبعاد حزب الوفد من الحكم، وهو حزب الأغلبية، وذلك بسبب الخلاف الدائم، والصراع الذى لا ينتهى بينه، وبين الملك فاروق.
وكانت هناك مظاهرات عديدة تحدث فى شوارع القاهرة والإسكندرية للتنديد بالاستعمار البريطانى، وخاصة تلك المظاهرة الحاشدة التى قام بها طلاب الأزهر ضد الإنجليز، والتى سارت من الأزهر إلى السفارة البريطانية وهى تهتف: إلى الأمام يا روميل، وحذاء الملك فوق رأس جورج (ملك بريطانيا). والتى قام أثنائها المتظاهرون بالاحتكاك بالسفارة البريطانية والسفارة الأمريكية المجاورة لها.
وكانت الغارات الجوية قد بدأت على القاهرة، وعلى الإسكندرية. وأخذت تزداد وتشتد وطاتها باستمرار، وكانت قوات المحور بقيادة روميل تزيد من ضغطها على القوات البريطانية ويزداد توغلها فى الصحراء الغربية وهى تقترب نحو الإسكندرية، وحين كانت تتوقف فى زحفها لبعض الوقت، كانت الغارات الجوية تتضاعف وطأتها وشدتها.
 وكانت حلوان قد أصبحت قاعدة أساسية للقوات البريطانية، ولها فيها مستشفى عسكرى كبير، ومطار حربى، ومعسكرات عديدة، وكانت المدينة تعج بآلاف مؤلفة من الجنود البريطانيين من مختلف الجنسيات، من إنجلترا، ومن استراليا، ومن نيوزيلندا، ومن كندا، ومن جنوب إفريقيا، جنود مختلفوا الأشكال والألوان واللغات، يجمعهم الزى العسكرى، وتميز بينهم الشارات المختلفة التى تبين البلاد التى ينتمون إليها، ولذلك كانت حلوان بدورها هدفاً دائماً للغارات الجوية، التى كانت دائماً ما تقع فى ظلام الليل، صفارات إنذار، دوى القنابل والصواريخ المتساقطة، هدير المدافع المضادة للطائرات، وميض الأنوار الكاشفة. وكنا نحن فى القسم الداخلى للمدرسة نسرع إلى النزول للمخبأ الكبير، الذى كان مقاماً فى بدرون المبنى، وتطفأ جميع الأنوار بالمدرسة، ماعدا فوانيس تضاء بالكيروسين، وزجاجها مطلى بطلاء أزرق. هنالك نجلس على الدكك الخشبية المرصوصة بجوار الجدران ننتظر انتهاء الغارة. ولكن بعض الطلاب كانوا لا ينزلون إلى المخبأ، ويفضلون البقاء بالحديقة، ليراقبوا الأنوار الكاشفة فى حركتها العصيبة الباحثة عن الطائرات المغيرة، وما يدور بينها وبين تلك الطائرات من حيل ومناورات. وتظل الغارة دائرة لمدد تطول أو تقصر، حتى تنتهى، وتنطلق صافرات الأمان.
عانت البلاد كثيراً من جراء التهديد الماثل فى الغزو العسكرى المحدق ومن جراء عدم استقرار الحكم، ثم من المصاعب المعيشية المتزايدة، الناجمة عن ظروف الحرب. فمئات الألوف من الجنود البريطانيين كانوا لا يجدون سبيلاً للحصول على الطعام إلا من مصر، ومن ثم كانت السلطات البريطانية تستولى -بطرق شتى- على كل شئ يؤكل، الحبوب، الخضراوات، الفاكهة، وغيرها، حتى جاء وقت لم يكن فى البلاد من الغلال إلا ما يكفى لعشرين يوماً فقط. وازدادت حالة التموين والظروف المعيشية سوءاً، وارتفعت الأسعار، وشحت الأقوات، وانتهزت العناصر الانتهازية الظروف لجنى الثروات الطائلة من التلاعب فى الأقوات ومواد التموين وغيرها من الضروريات واشتدت أزمات الخبز، وكثرت المظاهرات والمشاجرات والمعارك من أجل الخبز.
وساءت أحوال الفلاحين فعجزوا عن سداد الأموال الأميرية فأخذت السلطات تقبض على الكثيرين منهم، وتلقى بهم فى السجون حتى يقوموا بسداد تلك الأموال، وفى أغلب الأحيان عن طريق بيع مواشيهم ومقتنياتهم القليلة الأخرى.
وبدأ الموسرون من الناس يسحبون أموالهم من البنوك خوفاً من زحف قوات المحور واستيلائها عليها.
باختصار، كانت مر ترتعد وتهتز، كريشة فى مهب الرياح. ولكننا كنا شباباً نجد دائماً ما يشدنا إلى الحياة، وما يربطنا بها، وكان أمامنا الكثير من هذه الأشياء.
كانت أمامنا الدراسة، وكانت أمامنا الرياضة البدنية، كرة القدم، والهوكى وكرة السلة، وما تحمله إلينا فى التدريبات والمباريات من تسلية ومتعة، وكانت هناك سينما كازينو حلوان وما تعرضه كل أسبوع من أفلام عربية أو أفرنجية شائقة، وكانت هناك الكتب الجميلة التى كنا نستعيرها من المكتبتين العربية والإنجليزية. وكان هناك المذياع والجراموفون والأسطوانات المتنوعة التى كانت تذاع منها، بواسطة السماعات المتصلة بها والمركبة فى شرفات القسم الداخلى، وفى ممرات حديقته، والتى كانت تذيع أجمل الأغانى، خاصة حين يكون المشرف على الداخلية هو الأستاذ عبد العزيز وصفى، مدرس المواد الإجتماعية، والذى كان محباً للفنون. كنا نسمع: ليه تلاعوعينى -لأم كلثوم، وفرق ما بيننا ليه الزمان، لأسمهان، وياما أرق النسيم -لليلى مراد، والصبا والجمال، لعبد الوهاب... وغيرها.. ولشدة حب الأستاذ عبد العزيز وصفى للغناء والطرب كان يروى عنه، أنه كان أثناء سيرة فى شوارع المدينة إذا سمع أغنية جميلة تذاع من راديو أى منزل أو محل، كان يجلس على الرصيف، ببدلته الأنيقة الكحلية اللون (وكان ابن ذوات) ليستمع إليها كاملة، ثم يقوم وهو ينفض التراب عن ملابسه، ليستأنف سيره. وقيل إن هذا المسلك قد أخذ عليه، وتسبب فى تأخير ترقيته إلى وظيفة الناظر عدة سنوات، ولكنه لم يكن يبالى.
وأخيراً، فقد كان لدينا جلسات سمرنا الخاصة. وكان لدينا زاد لا ينفذ من فنون السمر ومواهبه. ولكن نجم حفلات السمر كان هو إسكندر ثابت العدنى، وما أدراك ما هو، كان شاعراً، وموسيقياً، ومغنياً من طراز فريد، والشهرة الواسعة التى نالها بعد ذلك فى بلده "عدن" لم تأت من فراغ. كان شاباً وسيم الصورة، واسع العينين، فاحم الشعر، ناحل العود كأنه غزال من غزلان الجبال اليمنية.
وكان كثيراً ما تختتم به حفلات سمرنا. قبل أن تنتهى تلك السنة الدراسية، أقمنا حفلة سمر شائقة، وفى نهايتها تقدم اسكندر ثابت فتصدر المجلس وبيده عوده، فصفقنا له تحية وتشجيعاً. عزف على العود عزفاً شجياً  كنا نخال معه أن العود يتكلم ويحكى عن أشواقه ومواجعه. ثم غنى اسكندر بصوت كهديل اليمام قصيدة من شعر عمر بى أبى ربيعه، وتلحينة هو:
 نالت على يدها ما لم تتله يدى
نقشاً على معصم أوهت به جلدى
كأنه طرق نمل فى أناملها
أو روضة رصعتها السحب بالبرد
إنسية لو رأتها الشمس ما طلعت
من بعد رؤيتها يوماً على أحد
سألتها الوصل قالت لا تغر بنا
من رام منا وصالاً مات بالكمد
وأرسلت لؤلؤاً من نرجس وسقت
ورداً وعضت على العناب بالبرد

إلى أن قال:
والله ما حزنت أخت لفقد أخ
حزنى عليك .. ولا أم على ولد
 وكرر هذا البيت الأخير عدة مرات وهو يلون فى أداء اللحن بأشكال مختلفة، ثم توقف عن الغناء فجأة، ونظرنا إليه، فإذا عيناه تفيضان بالدموع. دموع غزيرة حرى، فاضت لها كثير من عيوننا بالدموع.
وكانت شوارع حلوان متاحة لنا بالنهار، فكنا نمارس فيها المشى، وركوب الدراجات، وغير ذلك من ضروب التسلية. وكان هناك دائما عم نصيف، بائع السندوتشات، وكان يحمل معه سبتين بهما بضاعته، واحد به أرغفة السميط بالسمسم، والثانى به أوعية للطعمية، وسلطة الطماطم، والبيض المسلوق. وكان يقف بهما على النواصى قريباً من مبنى الداخلية ويقدم لنا سندوتشاته الشهية ونحن جياع. سندوتش الطعمية بقرش صاغ، وسندوتش البيض بقرشين صاغ، فنلتهمها التهاماً.
وكان هناك الخواجة دكران، وهو يونانى أو أرمنى كان يطوف بتريسكل يحمل فى صندوقة علب الأيس كريم، ماركة جروبى، ويصيح منادياً: طوبى، طوبى. ويبيعنا العلبة بقرشين صاغ.
أما فى الليل، فكانت تلك الشوارع تكاد تكون محرمة علينا. أولاً: بسبب الغارات الجوية، التى كانت لا تحدث إلا ليلاً، وثانياً: وهو الأهم، بسبب الجنود والضباط الإنجليز الذين كانو يسرحون فى تلك الشوارع، ومع كل منهم صاحبة له من ممرضات المستشفى العسكرى البريطانى، أو من المجندات الإنجليزيات. كانوا يتمشون فى تلك الشوارع، ويقفون على نواصيها، ويأخذون حريتهم مع رفيقاتهم. وبالطبع لم يكن أحد يجرؤ على مضايقتهم فى تلك الحالات، وإلا كان وارداً أن يطلقوا عليه مسدساتهم. وقد حدث ذلك مراراً وتكراراً.
 وانتهت السنة الدراسية، وأدينا الامتحان، وصادفنى الحظ فنجحت فيه، ونقلت إلى السنة الرابعة، وهى حينذاك سنة شهادة عامة، هى شهادة الثقافة، وشددت الرحال إلى الزاوية قريتى، لقضاء العطلة الصيفية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق