ذكريات شاعر مناضل: 66- لعنة منتصف مارس

66- لعنة منتصف مارس

بدأ شهر فبراير سنة 1954 وحركة الجيش تبدو مثل الرجل المريض، تعانى من حالة ضعف عام، وكان لجوء محمد نجيب إلى الاستقالة قد جاء بعد أن صبر طويلاً على تحمل الإساءات والجاوزات من مرءوسيه من مجلس قيادة الثورة. والواقع أنه لا يمكن إعفاء نجيب من مسئولية المشاركة الإيجابية فى كل ما اتخذته حركة الجيش من قرارات ضد الحرية والديموقراطية، وهو الذى وقع بيده قرارات الاعتقال، وإعدام خميس والبقرى، وإصدار قوانين إلغاء الدستور وحل الأحزاب، وتشكيل محكمة الثورة.
ولم يصدر قرار قبول الاستقالة بإجماع مجلس قيادة الثورة، إذ اعترض عليه عبد اللطيف البغدادى وخالد محيى الدين.
وظهرت الجرائد فى صباح يوم 25 فبراير وهى تعلن عن صدور قرارات هامة لمجلس الوزراء: -قبول استقالة محمد نجيب من جميع الوظائف التى يشغلها -تعيين جمال عبد الناصر رئيساً للوزراء -منصب رئيس الجمهورية يظل شاغراً حتى تعود الحياة النيابية إلى البلا. وقد أذيعت هذه الأخبار ومعها بيان يتضمن الطعن على محمد نجيب وعلى دوره فى الثورة.
وما أن ذهب محمد نجيب إلى منزله بعد تقديم استقالته، حتى فوجئ بأن تليفونه لا يعمل.
وكان إعلان قبول استقالة محمد نجيب صدمة للجماهير، التى كانت شخصية محمد نجيب تنال تعاطفها، وهو الذى تصدر الحركة منذ بدايتها. وعمدت سلطات الثورة إلى الحيلة فى استبدال حرس محمد نجيب بحرس آخر من أعوانها، فأصبح محمد نجيب معتقلاً فى منزله.
ونشط صلاح سالم -وزير الإرشاد- فى إصدار البيانات والتصريحات التى تتضمن الإساءة إلى محمد نجيب. ولكن كل هذه التصريحات والحملات لم تلق أذناً صاغية لدى الجماهير، بل أثارت سلسلة من ردود الفعل فى مختلف المواقع، داخل الجيش، وفى الشارع، وفى مصر والسودان.
أقوى ردود الفعل وأسرعها كان ما حدث فى سلاح الفرسان، حيث كانت الأفكار الديموقراطية تجد مجالاً خصباً لوجود خالد محيى الدين وثروت عكاشة، وخلال الفترة السابقة لم تخمد تطلعات أفراد السلاح إلى الديموقراطية، وإلى رفع قبضة مجلس القيادة عن الجيش.
وكان اليوم التالى لإعلان استقالة محمد نجيب يوم الجمعة، ومع ذلك فقد دعا ضباط سلاح الفرسان إلى اجتماع عام، لم يحضره خالد محيى الدين ولا ثروت عكاشة (الذى كان قد عين ملحقاً عسكرياً فى باريس). وحضر حسين الشافعى، فطالبه الضباط بعودة محمد نجيب، وبالحياة الديموقراطية. ولما عجز عن إقناعهم حضر جمال عبد الناصر.
وعرض جمال عبد الناصر فى هذا الاجتماع خطوات الثورة وما قامت بتحقيقة، ولكنه فوجئ بنقد قاس من الضباط موجه إلى تصرفات مجلس القيادة وتصرفات بعض أعضائه الشخصية، المادية والنسائية. وتحول الهجوم إلى عاصفة شديدة لم يستطع جمال عبد الناصر أن يوجهها، فطلب تعليق الاجتماع والعودة إلى المجلس لاستشارته والحضور مرة أخرى.
وكان خالد محيى الدين قد وصل إلى مبنى القيادة بعد عودته من حفلة السوارية بإحدى دور السينما، وروى لهم جمال عبد الناصر ما حدث فى اجتماع السوارى، ودارت مناقشة حسمها جمال عبد الناصر باقتراحات محددة هى تولى خالد محيى الدين رئاسة الحكومة والعمل بسرعة على عودة الحياة الدستورية، وذلك لفقدانهم الثقة فى محمد نجيب وعدم رغبتهم فى التعاون معه. واعترض خالد على الاقتراح، ولكن المجلس وافق عليه بعد تحذير كمال الدين حسين لخالد من تحويل البلد إلى الشيوعية، وبعد قبول عبد الحكيم عامر للبقاء مع خالد محيى الدين لفترة محدودة يستقبل بعدها أيضاً.
وذهب جمال عبد الناصر مع خالد محيى الدين إلى ضباط السوارى، الذين لم يغمض لهم جفن طوال الليل، وكانت الساعة قد بلغت الثالثة صباحاً تقريباً.
وأعلن جمال عبد الناصر أن المجلس قد وافق على ما يأتى:
1- حل مجلس قيادة الثور.
2- عودة محمد نجيب رئيساً لجمهورية برلمانية.
3- يشكل خالد محيى الدين حكومة انتقال لمدة سته شهور.
4- تجرى الحكومة انتخابات لجمعية تأسيسية لتضع دستوراً دائماً.
5- يعود أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى وحداتهم.
وضجت القاعة بتصفيق حاد، وخرج جمال عبد الناصر من صلاح الفرسان مع خالد محيى الدين. وتوجه خالد محيى الدين مع اليوزباشى شمس بدران وضابط آخر إلى منزل محمد نجيب لإبلاغة بقرارات مجلس قيادة الثورة، ورحب محمد نجيب بالقرارات ترحيباً شديداً، وكانت علاقته بخالد قد أصبحت وثيقه على خلاف علاقته ببقية أعضاء المجلس.
ولكن عندما عاد خالد محيى الدين إلى مقر القيادة كانت معالم الصورة تتغير تدريجياً. إذ ظهرت فى الصورة عناصر أخرى، هى ضباط الصف الثانى المحيطين بمجلس القيادة، والذين كانوا قد بدأوا يشاركون فى نفوذ السلطة وطيباتها. ولذلك فقد هبوا وقد تملكتهم حالة هيستيرية يعارضون إنهاء الأوضاع القائمة، ويعارضون عودة الجيش إلى ثكناته. وكان يحمل لواء هذه المعارضة مجموعة منها أحمد أنور -قائد البوليس الحربى، ومجدى حسنين، ووجيه أباظة، وكمال رفعت، وحسن التهامى، ومحمد أبو الفضل الجيزاوى وسعد زايد، وغيرهم من الصاغات واليوبازشية الذين خرجوا عن حدود الصواب والانضباط وبدأوا يهاجمون أعضاء المجلس الذين اتخذوا هذه القرارات. بل إن بعضهم تمادوا فى ثورتهم إلى درجة إشهار السلاح والتهديد بإطلاق النار على معارضيهم.
وبعض ضباط الطيران أخرجوا الطائرات التى أخذت تحلق فوق سلاح الفرسان، وبعض ضباط المدفعية أخرجوا مدافع الماكينة وصوبوها نحو سلاح الفرسان. وقام البوليس الحربى بإيقاف أوتوبيسات صلاح الفرسان واعتقال من بها من الضباط.
بل إن اليوزباشية كمال رفعت وداود عويس اتجها إلى منزل محمد نجيب لاعتقاله، دون أوامر، وسمح لهم صلاح نصر، قائد الحرس الذى كان قد عين عليه بالدخول، وكان الوقت فجراً ومحمد نجيب فى فراشه، ولكنهما دخلا عليه وأمراه بأن يرتدى ملابسه للخروج معهما، واعترض نجيب وأبلغهم بأن القرارات الجديدة قد أبلغت إليه. وطلب الاتصال تليفونياً بالقيادة، ولكن كمال رفعت رفض ذلك. وخرج محمد نجيب من داره مرغماً، واقتيد إلى مبنى المدفعية بألماظه ووضع فى إحدى الغرف المغلقة حتى لا يشاهده الجنود. وظل الوضع على ما هو عليه حتى أرسل عبد الحكيم عامر اليوزباشى حسن التهامى للإفراج عن محمد نجيب وإعادته إلى منزله. ووصل محمد نجيب إلى منزله سالماً بعد يوم عصفت فيه بنفسه التوقعات المختلفة، وكسرت فيه قواعد الاحترام لرئيس الجمهورية، وتمزقت فيه نهائياً وحدة الضباط الأحرار.
ولم يكن رد الفعل الوحيد لاستقالة محمد نجيب قاصراً على ما حدث فى سلاح الفرسان، إذ تعددت ردود الفعل هذه فى عدة مواقع داخل الجيش وخارجة.
فى الإسكندرية تمرد ضباط المنطقة الشمالية وعقدوا اجتماعاً حافلاً للتعبير عن غضبهم فى نادى الضباط، واجتمع بهم حسن إبراهيم موفداً من مجلس القيادة، وحاول الإساءة إلى محمد نجيب بأحاديث شخصية، فاعترض عليه أحد ضباط الفرسان، اليوزباشى آمال المرصفى -عضو قسم الجيش فى حدتو سابقاً، وأيده جميع الحاضرين بالتصفيق. وكان موقف أغلبية ضباط الإسكندرية حاسماً فى تأييد محمد نجيب.
وتفجرت المظاهرات فى شوارع القاهرة تهتف بحياة محمد نجيب منذ الصباح الباكر. كما عمت المظاهرات شوارع الخرطوم وبعض مدن السودان الأخرى وهى تهتف: لا وحدة بلا نجيب. وكان نجيب قد أصبح رمزاً لوحده مصر والسودان.
وأحاطت قوات من الجيش بسلاح الفرسان، وجرى اعتقال حوالى أربعين من ضباطة. وعقد اجتماع فى مجلس الثورة اقترح فيه صلاح سالم وجمال سالم، وحسن إبراهيم، وكمال حسين، وأنور السادات إخراج محيى الدين من المجلس واعتقاله، وطالب البعض بتحديد إقامته، بينما طلب عبد الحكيم عامر نفيه للخارج. ولكن جمال عبد الناصر حسم المناقشة بقوله إن المسألة ليست مسألة خالد محيى الدين، ولكنها مسألة محمد نجيب، فإذا تقررت عودة محمد نجيب فلابد من عودة خالد أيضاُ.
وبدأت مناقشة موضوع محمد نجيب من جديد. وكان قد تقرر تشكيل محمكة من جمال سالم، وأنور السادات، والصاغ أحمد عبدالله لمحاكمة ضباط الفرسان المعتقلين، والذين نقلوا إلى مقر البوليس الحربى فى محطة مصر. غير أنه أثناء الاجتماع اتفصل أحد ضباط الفرسان -يوزباشى محمود حجازى- بعبد الحكيم عامر وأبلغه أنه إذا لم يفرج عن كل الضباط المعتقلين، فإن الدبابات المحاصرة ستوجه نيرانها إلى مبنى القيادة.
وكانت المظاهرات تزداد انتشاراً فى شوارع القاهرة وهى تهتف: لا ثورة بلا نجيب، إلى السجن يا جمال، إلى الجن يا صلاح. وظلت مناقشات مجلس القيادة عن مصير محمد نجيب مستمر. وعند الساعة الثالثة بعد الظهر كان الإرهاق قد استبد بأعضاء المجلس، فقرروا رفع الجلسة للنوم أربع ساعات. وطلب عبد الناصر منهم تفويضاً بالتصرف إذا ساءت الأمور خلال هذه الساعات، فوافقوا على ذلك، وكان هو الوحيد الذى بقى فى مقر القيادة بعد أن ذهب الجميع للراحة. وكانوا خلال هذه الفترة لا ينامون فى منازلهم.
ووصل البكباشى صلاح مصطفى من الإسكندرية حاملاً موقف ضباطها، تأييداً لنجيب. ثم عاد صلاح سالم من الخارج إلى مقر المجلس وقد صدمة منظر المظاهرات التى تملاً الشوارع أمام قصر عابدين وهو فى طريقه إلى منزله. وروى ذلك لجمال عبد الناصر، الذى ظل صامتاً وقد وضع رأسه بين يديه. وتابع صلاح سالم حديثه، بينما ظل عبد الناصر صامتاً. وقال صلاح: سأبلغ الخبر للإذاعة. ولكن جمال ظل صامتاً. ولم يجد صلاح سالم بدأ من تبليغ الإذاعة بخبر عودة محمد نجيب. وفوجئ أعضاء المجلس، فى منازلهم ببيان تذيعه الإذاعة فى الساعة السادسة مساء 27 فبراير يقول:
-حفظاً على وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة الرئيس اللواء محمد نجيب رئيساً للجمهورية، وقد وافق سيادته على ذلك.
وهكذا عاد محمد نجيب رئيساً للبلاد، تحت وطأة التمزق الذى حدث فى صفوف الجيش، والتأييد الشعبى الجارف فى مصر والسودان، وعجز مجلس القيادة عن اتخاذ قرار أمام تتابع الأحداث. وبقى خالد محيى الدين عضوا فى مجلس القيادة.
عاد محمد نجيب عودة المنتصر، أو هكذا كان يفترض أن يكون الأمر، ولكن محمد نجيب أثر أن يكون مسالماً كريم الأخلاق، فأذاع فى صباح 28 فبراير بياناً على الصحف، قال فيه وكأنه يدير خد الأيسر لمن يسيئون إليه:
"أرى من واجبى أن أبين لإخوانى وأبنائى المصريين والعرب، أننى استقلت من منصبى بمحض إرادتى مقتنعاً بأن مجلس الثورة هو الهيئة التى تركزت فيها غاياتنا العليا، ورسمت أهداف الثورة السابقة التى ترمى إلى رفعة الوطن واستقلاله، وما أقدمت على هذه الاستقالة إلا لكى أتيح لإخوانى أعضاء المجلس الفرصة للعمل على تحقيق هذه المبادئ. والعمل على طرد الغاصب الذى مازال يحتل جزءاً من أرضنا الطاهرة، وإنى أهيب بالمصريين المخلصين والعاملين أن يتحدوا صفاً خلف إخوانهم وإخوانى أعضاء مجلس قيادة الثورة، يعملون معهم جاهدين لتحقيق الأهداف السابقة".
ولم تلبث تطورات الأحداث أن أثبتت أن محمد نجيب كان "على نياته"، وأن مسلكه هذا لم يكن إلا خطئاً كبيراً آخر فى سلسلة أخطائه التى دفع ثمنها غالياً فى المستقبل القريب، والتى ألحقت بالبلاد أضراراً فادحة.
وبدأ محمد نجيب يومه الأول بعد العودة بالذهاب إلى قصر عابدين، حيث تدفقت المظاهرات رغم بيان المجلس الذى تكررت إذاعته مراراً، وحدث اصطدام بينها وبين البوليس أدى إلى إصابة 13 متظاهراً، حمل المتظاهرون قمصانهم الملوثة بالدماء يلوحون بها إلى محمد نجيب الذى خرج يخطب فيهم من شرفة القصر.
 وعندما لمس نجيب هياج الجماهير وارتفاع هتافات الاحتجاج ضد الاعتداء عليهم، استدعى إليه فى الشرفة عبد القادر عودة أحد زعماء الإخوان المسلمين ليهدئ من ثائرة المتظاهرين، وخطب فيهم قائلاً إنه لم يقبل العدول عن الاستقالة إلا من أجل الحرية والديموقراطية والانتخابات البرلمانية. وكنت أنا هناك وسط هذه المظاهرة فى ميدان عابدين، وأذكر أننى كنت أشعر بعدم الرضا من موقف محمد نجيب وكلامه، وكان هذا أيضاً موقف معظم المتظاهرين الذين بدت عليهم خيبة الأمل. وأبلغ محمد نجيب النائب العام للتحقيق فى حادث الأعتداء على المتظاهرين.
وفى اليوم التالى -أول مارس 1954 أعلنت الصحف أخبار القبض على 118 شخصاً بينهم عبد القادر عودة، وأحمد حسين، كما تقرر إيقاف الدراسة فى الجامعات الثلاثة إلى نهاية الأسبوع، حيث كانت المظاهرات قد اجتاحتها. وسافر نجيب إلى السودان ضمن وفد، ثم عادوا سريعاً لحدوث اضطرابات شديدة. وبعد عودة نجيب استمرت حركة الاعتقالات، وفى يوم 3 مارس قم اعتقال 45 من الإخوان، 20 من الحزب الاشتراكى، 5 وفديين، 4 شيوعيين، وصدر قرار باستمرار إغلاق الجامعة لمدة أسبوع آخر.
وكان هذا كله دليلاً على أن عودة محمد نجيب قد استغلت من جانب الطرف الآخر، كفرصة لالتقاط الأنفاس، ومعاودة الهجوم من جديد.
وطالب محمد نجيب بإطلاق سراح المعتقلين، ثم عاود الحديث -صحفياً- عن الديموقراطية والانتخابات.
وعقد مجلس القيادة اجتماعاً لم يحضره نجيب ولا خالد محيى الدين، ووجد المجلس أن الموقف لم يعد فى صالحه، وأن جميع القوى السياسية متربصه به رغم اعتقال زعمائها، واقترح جمال عبد الناصر ضرورة العمل على اتخاذ قرارات تؤدى إلى التنفيس عن الضغط، حتى تتاح لهم الفرصة للبقاء فترة فى هدؤ. ولذلك صدرت القرارات المسماة بقرارات 5 مارس 1954، والتى أعلنها جمال عبد الناصر فى بيان جاء فيه:
-قرر مجلس قيادة الثورة اتخاذ الإجراءات فوراً لعقد جمعية تأسيسية منتخبة بطريقة الاقتراع العام المباشر على أن تجتمع خلال يوليو 1954 ويكون لها مهمتان.
1- مناقشة مشروع الدستور الجديد وإقراره.
2- القيام بمهمة البرلمان إلى الوقت الذى يتم فيه عقد البرلمان الجديد وفقاً لأحكام الدستور الذى ستقره الجمعية التأسيسية.
-وقرر المجلس أيضاً إلغاء الرقابة على الصحف، وإلغاء الأحكام العرفية قبل إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية، على أن يكون لمجلس الثورة سلطة السيادة لحين اجتماعها، كما أن تنظيم الأحزاب سيكون متوقفاً على الدستور الجديد.
 وصرح جمال عبد النار بأنه ينوى الإفراج عن المعتقلين، أما الذين لم يحاكموا بعد، فلن يقدموا للمحاكمة.
وقال: "سأنسى" الإساءة التى لحقت بى، وسأنظر للجميع على اختلاف ألوانهم باعتبارهم مواطنين يعملون جميعاً لصالح الوطن، كما أننى سأنسى كل ما أصابنى، وسأنظر فى بناء مصر على أسس ديموقراطية صحيحة".
- وصرح جمال عبد الناصر بأن "هذه القرارات اتخذها مجلس الثورة من أجل مصلحة الوطن العليا".
ولكن قرارات 5 مارس لم تكن النهاية فى قضية الصراع بين محمد نجيب وخالد محيى الدين وبين أعضاء مجلس القيادة، وبدأ كل فريق يتحرك ضد الآخر بأساليب مختلفة.
- طلب محمد نجيب أن يعود رئيساً للوزراء بعد أن كل جمال عب الناصر قد تولى هذا المنصب واستمر فيه حتى 7 مارس، إلى أن عاد محمد نجيب فى اليوم التالى رئيساً لكل من الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة.
وواصل كل من الطرفين الاعتماد على أسلوبه المفضل. محمد نجيب على شعبيته وإهماله لأية احتياطات أو تدابير لحماية موقفه وتأمينه، ومجلس القيادة على الاعتماد على القوات المسلحة، فأفرج عن ضباط المدفعية الذين كانوا قد حوكموا فى بداية سنة 1953، وأقام عبد الحكيم عامر مأدبه عشاء فى نادى الضباط حضرها 1350 ضابطاً وخطب فيها محمد نجيب وأعضاء المجلس فى محاولة للإيحاء بموقف التهدئة.
وبدأت مرحلة جديدة من المناورات بهدف احتواء نتائج الانتخابات المقررة والسيطرة عليها. وبدأت بعض الحف تنشر مواد تندد بالعسكريين. وكانت الحلقة تضيق حول مجلس القيادة، وبدأ رجال الصف الثانى فى الثورة يتنمرون للدفاع عن أوضاعهم. وبدت القوى السياسية كلها تتخذ موقف العداء لمجلس الثورة ومعها جماهيرها، وبدت هيئة التحرير أضعف من أن تحقق شيئاً.
وفى يوم 19 مارس انفجرت أربعة قنابل فى أنحاء متفرقة من القاهرة، وفى صباح 20 مارس كان هناك اجتماع للمؤتمر المشترك (بين مجلس الوزراء ومجلس الثورة)، وأثيرت قضية الانفجارات وطلب جمال سالم وزكريا محيى الدين اتخاذ إجراءات صارمة للضرب على أيدى هؤلاء المخربين، وقال لهم محمد نجيب فى تلميح واضح: "لا يوجد صاحب مصلحة فى التخريب إلا هؤلاء الذين يبتغون تعطيل مسار الشعب نحو الديموقراطية". وقد ثبت فيما بعد، أن جمال عبد الناصر -باعترافه هو- كان وراء إلقاء تلك القنابل.
كان الوقت يمر سريعاً من صدور قرارات 5 مارس، وكنا -أنا وزملائى فى حدتو- وزملائى فى اللجنة التحضيرية للجبهة- نستشعر قلقاً متزايداً من مرور هذا الوقت، والحال على ما هو عليه من اليموعه وعدم الحسم، وكنا نشعر يقيناً أن الطرف الآر يستغل هذا الوقت فى جمع قواته وتدبير مؤامراته لتفجير الموقف وفرض سيطرته مرة آخرى، وكنا نفكر فى القيام بعمل حاسم ينهى هذا الوضع المائع، ويرجع كفة التحول الديموقراطى- بصورة حاسمة، واتفق رأينا على أن صدور بيان علنى يعلن تأسيس الجبهة الوطنية الديموقراطية، ويعلن عن مبادئها، هو الطريق الأساسى لحسم الموقف، وإلحاق الهزيمة بالقوى الدكتاتورية- العسكرية وغير العسكرية.
وكلفت بصياغة نص البيان، فقمت بكتابته باذلاً فيه أقصى جهدى، وكان يعبر عن إحساس القوى الوطنية والديموقراطية بضرورة التجمع ولتآليف لتأمين طريق التطور الديموقراطى للبلاد، وذلك بتشكيل جبهة وطنية ديموقراطية تجمع كافة القوى الوطنية والديموقراطية فى البلاد، وتوحد جهودها من أجل تأمين طريق التطور الديموقراطى فيها، وتعرض برنامجا واضحاً محدد المعالم لتحقيق هذه الأهداف، وتدعو كل القوى والفئات والعناصر المؤيدة لهذا الاتجاه إلى التجمع والتعبير عن إدارتها نحو تحقيق هذا التحول الحاسم فى حياة البلاد. ثم ذيلت هذا المشروع بأسماء الجهات والأفراد الموقعين عليه. وكانوا: اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس قيادة الثورة، القائمقام يوسف صديق عضو مجلس قيادة الثورة سابقاً ورئيس اللجنة التحضيرية للجبهة الوطنية الديموقراطية، فلان: عن حزب الوفد المصرى، فلان.. عن جمعية الإخوان المسلمين، فلان.. عن الحزب الاشتراكى، محمود توفيق المحامى- عن الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى.
كتبت هذا البيان، وعرضت مشروعه على الزملاء أعضاء اللجنة التحضيرية للجبهة الوطنية الديموقراطية، فنال رضاهم وقاموا بنسخة وإعداد عدد وافر من النسخ منه. ثم بدأت محاولاتنا للحصول على موافقة الأطراف الأخرى للجبهة وتوقيعاتهم عليه.
أما يوسف صديق، فقد حملت إليه نسخة من البيان فوافق عليه، ورحب به، وقام بالفعل بالتوقيع عليه. والواقع أن يوسف لم يكتف فقط بالموافقة على البيان وتوقيعه، وإنما نشط فى تلك الأيام لإعلان رأيه فى الموقف فى الصحف، وتحديد مقترحاته للخروج من الأزمة. فى 24 مارس 1954 نشرت جريدة المصرى -التى كانت ماتزال تصدر- موضوعاً ذكرت فيه أن يوسف صديق قد أرسل إلى الرئيس اللواء نجيب رسالة يذكره فيها بموافقة من قضية الديموقراطية داخل مجلس قيادة الثورة، وهوما أدى إلى خلافه مع بقية أعضاء المجلس واستقالته منه، وينتهى إلى تحديد اقتراحة للخروج من الأزمة القائمة بضرورة تأليف وزراة ائتلافيه تمثل التيارات السياسية القائمة فعلاً فى البلاد، وهى: الوفد، والإخوان المسلمون، الاشتراكيون، والشيوعيون، تشرف على إجراء انتخابات للبرمان فى أسرع فرصة حتى تختار البلاد حكامها الشرعيين ويعود الجيش إلى ثكناته ليستعد للقيام بواجبة فى تحقيق أهداف الشعب..
ولقيت هذه الرسالة استجابة شعبية واسعة، وإن كانت قد لقيت من نجيب، ومن الأطراف الأخرى، الإهمال. وعمد مصطفى أمين إلى الرد عليها بمقال له بجريدة أخبار اليوم نشر فى 25 مارس، وصف فيه اقتراحات يوسف بأنها: سلاطة روسى!.
وفى 26 مارس 1954 نشرت جريدة المصرى أيضاً تحقيقاً صحفياً عن يوسف صديق، شرح فيه آراءه وأفكاره ودافع عنها.
وفى 29 مارس 1954 نشرت مجلة روز اليوسف موضوعاً عن يوسف صديق شرح فيه موافقة وآراءه فى نفس الاتجاه.
كان هذا موقف يوسف صديق من مجريات الأحداث. أما الآخرون فقد جاءت مواقفهم مخيبة للآمال.
أما محمد نجيب، وكنا قد أرسلنا له نسخة من البيان، مع الضابط محمد رياض، رئيس حرسه، فقد امتنع عن التعقيب عليه. أو إبداء رأى فيه. ولاحظنا بعد ذلك أنه بدأ يبتعد عن اللجنة التحضيرية للجبهة، بل ويستغل صلته بها فى إقامة اتصال منفرد مع الإخوان المسلمين، عن طريق لقاء محمد رياض مع صالح أبو رقيق، من وراء ظهر اللجنة.
وأما الوفد والإخوان، فقد تملصوا من إبداء رأيهم أو تحديد موقفهم من البيان، ومن ثم تهربوا من التوقيع عليه.
وأما الاشتراكيون، فالواقع أننا لم نواصل مطالبتهم بتوقيع البيان، بعد انسحاب محمد نجيب، والوفد، والإخوان -من الجبهة، ولم يبق فيها إلا يوسف صديق، والشيوعيون (حدتو). إذ أن ذلك قد بدا لنا طلباً غير مقبول.
أصابنا بخيبة أمل كبيرة، وشعرنا بان الكارثة سوف تحل بالبلاد لا محالة، وليس فى يدنا أى شئ يؤدى إلى وقفها. وكنت أنا أشعر فى تلك الأيام بشعور شخص يداهمة قطار سريع إكسبريس وهو لا يملك إيقافه أو الخروج عن طريقة.
ووقع حادث مؤسف آخر، تعرض له زميلنا صلاح عبد الحفيظ، الذى كان عضواً أساسياً فى اللجنة التحضيرية للجبهة، وكان ضابطاً بالجيش. إذعن له -فى سبيل تعزيز نشاط اللجنة فى مجال الجيش، أن يضم إليها واحداً من أقرب أصدقائه الضباط إليها، هو الصاغ صلاح سعده، ولكن النتيجة كانت كارثية. وقد روى صلاح سعده هذه القصة بنفسه فى حديث صحفى له مع جريدة العربى الناصرية بعد ذلك. قال لا فض فوه:
- أزمة مارس معروفة للجميع، وكان اللواء محمد نجيب هو أساس الخلافات بعد أن تجمع حوله الرجعيون والشيوعيون والوفديون والإخوان المسلمون وحاولوا بالفعل عمل انقلاب ينفرد بعد محمد نجيب بالحكم ويتم إقصاء جمال عبد الناصر. وقد قمت بدور مهم جداً فى كشف هذا المخطط، فقد كنت فى الفتره على خلاف مع المشير عامر وقدمت استقالتى من القوات المسلحة ولزمت منزلى عدة أيام، فى أثناء ذلك زارنى فى منزلى صديقى -توأم روحى- ودفعتى صلاح عبد الحفيظ، وكان شيوعياً من مجموعة يوسف صديق، ولما علم باستقالتى زارنى وهنأنى على موقفى وشجعنى على الاستمرار فيه وقال لى "دول ناس مايتعاشروش، وعلى العموم سنتخلص منهم قريباً". سألته انتم مين؟ قال: لن أقول لك إلا إذا انضممت لنا. قلت: خلاص، أنا معاكم. قال نحن الشيوعيون والوفديون والإخوان المسلمين مع محمد نجيب".
ويقول صلاح سعدة: بعد هذا الحديث مباشرة ذهبت للمشير وقلت له ما حدث.. وخرجنا من منزله إلى منزل عبد الناصر، وسمع منى ما سبق أن قلته للمشير، فقال جمال:
-"هذا إذن هو حل اللغز، فمنذ شهرين ونحن لا نفهم محمد نجيب، فإذا قلنا له شرق قال غرب، وإذا قلنا له شمال قال يمين. الآن عرفت هو مسنود على إيه".
بعد ذلك مباشرة عين صلاح سعدة قائداً للحرس الجمهورى، أما صلاح عبد الحفيظ، فألقى فى السجن، وفصل من الجيش، ثم ذاق عذاب البطالة والتجويع والتشريد إلى أن مات، بفضل توأم روحه صلاح سعدة. وهذا ما حل بحسن الدسوقى، ويوسف صبرى، زميلاه فى اللجنة التحضرية أيضاً. أما أنا- فإن لى حديثاً آخر.

حين حل بنا هذا من محمد نجيب، ومن الإخوان المسلمين، ومن الوفد، شعرت الخذلان المرير، ولكنى أدركت بعدها أن ما حدث كان أمراً طبيعياً. فقد أدت المكاسب الموهومة، التى جاءت بها قرارات 5 مارس، إلى إعادة فرز مواقف كل هذه الأطراف. التلويح بانتخابات قريبة وانفراجة ديموقراطية واسعة، حمل كلاً منهم على إعادة حساباته. فمحمد نجيب أصبح شبه متأكد من أنه سيكسب الموقف كله وسينفرد بالحكم وحده، فما حاجته إلى التحالف مع الآخرين، ومع الشيوعيين بصفة خاصة؟ كل ما يحتاج إليه، هو بعض المساندة من جانب الإخوان المسلمين، وها هو قد أخذ يقيم العلاقات الودية من وراء ظهورنا، أو يستأنف إقامة تلك العلاقات. وأما الإخوان، فهم أيضاً ليسوا فى حاجى إلى التحالف مع الوفدين، ومع الشيوعيين بصفة خاصة. وأما الوفديون، فهم أيضاً -قد أصبحوا قاب قوسين، من الحكم، مادامت سوف تكون هناك انتخابات، وهم أصحاب الأغلبية الشعبية.
تلقيت فى تلك الأيام صدمة أشعر بدوار الإفاقة من الوهم، أو من البنج الكلى، وأتلقى درساً تاريخياً فى السياسة مؤداه، أنه لا يوجد فى السياسة شئ مجانى، أو حتى بثمن زهيد.
وكان مجلس الثورة أيضاً يحس باهتزاز الموقف تحت أقدامه، وسعياً إلى حسم الأمور، اجتمع المجلس يوم 25 مارس بحضور محمد نجيب وخالد محيى الدين حيث دارت مناقشات عاصفة. بدأت باقتراح عبد اللطيف البغدادى بإلغاء قرارات 5 مارس، وتمسك خالد محيى الدين بها. وبعد مناقشة استمرت خمس ساعات، انتهى الأمر إلى إصدار قرارات جديدة سميت بقرارات 25 مارس وكانت تنص على:
1- يسمح بقيام الأحزاب.
2- مجلس قيادة الثورة لا يؤلف حزباً.
3- لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير على الانتخابات.
4- تنتخب الجمعية التأسيسية انتخاباً مباشراً دون تعيين أى فرد، ويكون لها السيادة والسلطة الكاملة، وتكون لها سلطة البرلمان كاملة، والانتخابات حرة.
5- حل مجلس الثورة فى 24 يوليو باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلى الأمة.
6- تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها.
أحسست بالخديعت والمهانة وأنا أقرأ هذه القرارات، وأنها لا تعنى شيئاً فى الحقيقة سوى التراجع عن قرارات 5 مارس، إذ أنها لم تضف إليها شيئاً، وإنما عملت على تمييعها.
وكان واضحاً لى أن هذه القرارات إنما تهدف إلى كسب بعض الوقت، ريثما يتم تدبير مؤامرة ما تهدف إلى ضرب الحراك الديموقراطى والقضاء عليه. وسرعان ما حققت الأيام القليلة التالية سئ ظنى.
حتى العبارة الواردة فى تلك القرارات، والتى تشير إلى انتهاء الثورة، كانت هى المحور الذى تدور حوله عملية التآمر المزمع القيام وبدأ الصدام يأخذ شكلاً حادا، نقابة الصحفيين طلبت إلغاء الأحكام العرفية فوراً وتشكيل وزرارة قومية، ونقابة المحامين تعلن الإضراب، والصحف تموج بالأنباء المتضاربة عن أوضاع لمعتقلين. والقائمقام أحمد شوقى الذى كان له دور كبير فى الثورة، والذى حددت إقامته يوم 8 مارس يرسل خطاباً للصحف يطالب فيه بعودة الحياة النيابية. وهيئات التدريس وطلبة الجامعات يطالبون بنفس المطالب.
ثم تبلور موقف الإخوان المسلمين، الذى كان متأرجحاً فى الفترة السابقة، فصدرت عنهم تصريحات تفيد أنهم لا يؤيدون عودة الحياة النيابية، وأنهم آثروا الموقف السلبى والوقوف على الحياد فى الصرعات الدائرة.
وكنت أقول عن ذلك: سيدفع محمد نجيب، والإخوان، والوفدن، وكل على قدر مسئوليته، الثمن باهظاً عن كل ما يحدث، ولن يلوموا إلا أنفسهم. ولم يمض إلا وقت قصير حتى تحقق ظنى هذا.
وفى يوم 27 مارس أخذت خطوط المؤامرة تتضح، إذ استطاعت هيئة التحرير، التى تعمل فى خدمة جمال عبد الناصر، أن تستقطب بعض زعماء النقل المشترك، وأن ترشو رئيسهم صاوى أحمد صاوى، بمبلغ تافه من المال (عشرة آلاف جنية) مقابل قيامه بدعوة هؤلاء العمال إلى الإضراب والاعتصام فى مقر هيئة التحرير بعابدين، وإلى الهتاف بحياة الثورة، وسقوط الحرية والديموقراطية والأحزاب. وقد رأيت هذا المشهد بنفسى، كما شاهدت هؤلاء العمال وهم يلتفون حول صوانى الكباب التى كانت تحضر لهم من محلات الكباب المنتشرة فى حى عابدين. ثم يقومون من على الأكل لمواصلة الهتافات. وأعلن مؤتمر نقابات العمال الدعوة إلى إضراب عام يوم 29 مارس حتى يستجيب مجلس الثورة لهم بالعدول عن قرارات 5 مارس، 25 مارس. وأعلن الإضراب وتوقف جميع المواصلات والقطارات فى البلاد كلها.
وأسقط فى يد محمد نجيب، فأستسلم لمجلس قيادة الثورة خلال اجتماع تم فى ليلة 28 مارس. ثم سقط فى المطار مغشياً عليه بعد أن شارك فى توديع الملك سعود الذى كان فى زيارة للقاهرة، ثم نقل إلى منزله مريضاً حيث بقى فيه لعدة أسابيع، وقد انتهى أمره تماماً من الناحية العملية، كما توقعت له.
وفى الساعة السادسة والنصف مساء يوم 28 مارس أذاع صلاح سالم القرارات الآتية:
1- ارجاء تنفيذ قرارات 5، 25 مارس حتى نهاية فترة الانتقال.
2- يشكل فوراً مجلس وطنى استشارى..
اشترى صاوى أحمد صاوى فى قريته -قمن العروس- مركز الواسطى، المجاورة لقريتى -زاوية المصلوب- خمسة عشر فداناً، دفع ثمنها بالنقود التى أخذها كرشوة من الطحاوى وطعيمة فى هيئة التحرير. ولكنه مع ذلك قد لقى بعض العقاب على جريمته، فقد اعتدى عليه أحمد أنور بعد ذلك بوقت قصير بالضرب المبرح فى مطار القاهرة أمام المودعين، أثناء سفر عبد الناصر لباندونج، ولم يسمع عنه شئ بعد ذلك.
وفى يوم 29 مارس أيضاً وقعت الحادثة الشهيرة بحادثة مجلس الدولة، وهى اعتداء رجال البوليس الحربى - بملابس مدنية، على عبد الرزاق السنهورى، وعلى مستشارى مجلس الدولة بالضرب، بقيادة حسين عرفة، لعلمهم بأن هؤلاء كانوا يعتزمون عقد اجتماع للجمعية العمومية للمجلس، لإصدار بيان يؤيد المطالب الديموقراطية، ولكن هؤلاء المعتدين، أجبرهم على نفى هذه النية، وأجبروهم على إصدار بيان عكسى، يؤيدون فيه مجلس الثورة. وكنت قد علمت بقرار عقد الجمعية العمومية لمجلس الدولة لإصدار قرارات بشأن الأزمة،فتوجهت إلى هناك منذ الصباح، ومن ثم فقد شهدت سائر أحداث ذلك اليوم.
وكانت تلك هى خاتمة المطاف فى مأساة أحداث مارس 1954. وما من مرة تذكرت فيها كل هذه الأحداث، حتى رنت فى ذاكرتى عبارة العراف فى مسرحية شكسبير الشهيرة -يوليوس قيصر: "حذار من لعنة منتصف مارس". أتذكر هذه العبارة، وأتمثل ما حل بالكثيرين، بل وما حل بمصر كلها من البلاء بسبب لعنة مارس 1954.
آخر هذه البلايا، ما حدث مع يوسف صديق، فقد علمت من سهير بعد ذلك بيومين، أن يوسف قد جرى اعتقاله فى أول أبريل، واقتيد إلى سجن الأجانب وبعد ذلك إلى السجن الحربى، بينما كانت هى وليلى أبنتنا، تقيم معه فى منزل والديها بحلمية الزيتون.
وهكذا انتهت قصة مارس 1954.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق