ذكريات شاعر مناضل: 23- شهامة الرجال

23- شهامة الرجال


كنا فى آخر العطلة الصيفية لعام 43 - 1944 الدراسى، وكاد ما حدث لى فى العام السابق أن يتكرر فى هذا العام أيضاً، وكانت أوراقى ما زالت فى القسم العلمى من السنة الخامسة بمدرسة حلوان الثانوية للبنين. كاد ذلك أن يحدث لولا أن تداركتنى عنايه الله، وشهامة زميلى وصديقى كمال عبد الحليم. ذهبت إلى كمال فى منزلة، منزل أسرته فى حى بين السرايات خلف جامعة القاهرة فى يوم من الأيام الأخيرة للعطلة، وشرحت له الموقف وأنا لا أتوقع منه سوى المشورة، غير أننى فوجئت بكمال يقول لى، أنتظرنى دقيقتين، ودخل إلى حجرته بالمنزل، ثم عاد وقد غير ملابسه وأرتدى بدلته. ثم قال لى: يللا بينا.. وسألته: على فين؟ فأجانبى: هانروح مدرسة شبرا الثانوية.
وكان كمال قد أمضى بها العام السابق بعد أن التحق بها بالقسم الأدبى، ونجح، وها هو قد قبل هذا العام بكلية الحقوق بينما كنت قد تركت بالقسم العلمى بحلوان غارقاً فى اللوغاريتمات وجاوجتا، وظاوظتا. وقال لى كمال سنذهب لمقابلة ناظر مدرسة شبرا ونطلب منه حل المشكلة، وهو يعرفنى من العام الماضى.
لم أصدق ما سمعته من كمال، وأن المشكلة يمكن أن تحل بهذه السهولة. ولكننى قلت لنفسى: لعل وعسى. ولم تكن لكمال فيما أعلم أى واسطة، أو أى سلطة من أى نوع. كل مافى الأمر أنه كانت له أسرة، أم وأخوان شقيقان، أكبر منه سناً، تراعاه وتهتم بأموره.
دخلنا إلى مدرسة شبرا الثانوية من بابها الرئيسى الذى يفتح على جهة شبرا. وقال كمال للبواب أننا نريد مقابلة الناظر لأمر هام، فأدخلنا.
وقفنا بالبهو الكبير أمام حجرة مكتب الناظر، وطلب كمال من فراش المكتب الواقف ببابه، أن يستأذن له الناظر قائلاً: قل له كمال عبد الحليم الطالب بكلية الحقوق. ودخل الرجل ثم عاد سريعاً وهو يقول لكمال: أتفضل...
طلب منى كمال أن أنتظره، ثم دخل إلى مكتب الناظر، وطال انتظارى له بعض الشئ: ووجدت رجلاً فى أواخر سنوات الشباب، قادماً إلى حجرة المكتب من أحد جانبى البهو، ورآنى واقفاً أنتظر، فسألنى: عايز حاجة يا ابنى؟ شرحت له الموقف باختصار، فتمعن فى قليلاً ثم سألنى: هل كان لك أى نشاط آخر فى مدرسة حلوان، غير الدراسة؟ قلت له: نعم أنا كنت رئيس فريق التمثيل بالمدرسة.. أبدى الرجل اهتماماً وسألنى: وماذا مثلت؟ قلت له: مثلت دور أحمس طارد الهكسوس فى مسرحية أحمس، على مسرح حديقة الأزبكية العام الماضى. انفرجت أسارير الرجل، وقال لى: إن سعادة الناظر مهتم جداً بهذه الأنشطة، وهو يرحب بالطلبة الذين يمكن لهم تقوية أى نشاط فى المدرسة. ثم تركنى الرجل وأنصرف داخلاً إلى مكتب الناظر وهو يقول لى: أنتظر.
تبين لى فيما بعد، أن الرجل كان هو الأستاذ "إبراهيم العفيفى" مدرس أول اللغة الإنجليزية بالمدرسة، والمشرف على فريق التمثيل بها. بعد هنيهة وجدت باب مكتب الناظر يفتح، ويخرج منه الأستاذ العفيفى، وزميلى كمال، وهما باسمان متهللان.
قال لى العفيفى: مبروك يابنى.. أتقبلت فى القسم الأدبى بالمدرسة . وأضاف كمال متهللاً: وفى الداخلية كمان. ابط ياعم.
لوقال العفيفى: اذهب إلى مدرسة حلوان اليوم، واسحب أوراقك، وأحضرها لى بكرة الصبح، وهات ملابسك وأشياءك الأخرى. وإذا صادفتك أى مشكلة، تعال إلى، أنا عمك إبراهيم العفيفى.
خرجنا أنا وكمال وأنا مندهش من السهولة والسرعة اللتين تم بهما حل مشكلتى المستعصية.
كانت مدرسة شبرا الثانوية كعهدى السابق بها، وكذلك كان القسم الداخلى بها، كان قد أعيد تشغيله منذ سنوات، بعد أن كان قد ألغى لعدة سنوات سابقة. وسررت إذ وجدت إنه قد أنضم إلى المدرسة، وإلى الداخلية، أثنان من زملاء حلوان جاءا هما أيضاً للالتحاق بالقسم الأدبى، وهما : الزميل السودانى الشاعر، ولاعب الكرة المتميز: عمر محمد الطاهر، والزميل الشرقاوى: محمود نديم عبد المعطى.
وما لبثت أن طاب لى المقام بالمدرسة، وبالداخلية. وكانت الدراسة تمضى بالنسبة لى بلا أى منغصات، فلا لوغاريتمات، ولا جاوجتا، ولا ظاوظتا، بل مواد سهلة سلسة شيقة، لا صعوبة فيها ولا تعقيد. وسرنى أن الأستاذ إبراهيم العفيفى، المدرس الأول للغة الإنجليزية كان هو أستاذى فى تلك اللغة، كما كان الأستاذ حن علوان، المدرس الأول للغة العربية، هو مدرسى لتلك المادة.
وكان ناظر المدرسة هو الدكتور سامى عاشور، من الرعيل الأول للنظار المصريين الذين قام على أكتافهم صرح التعليم. كان من خريجى جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، ومن عشاق التعليم والتربية الحقيقية، ومن رواد حركة بناء الإنسان المصرى. كان نحيلاً أسمر اللون معتدل القامة، أنيق الملبس، لا يفارق البايب فمه. وكان يسكن هو وأسرته فى منزل صغير يقع فى ركن من أركان الفناء الذى يقوم فيه ملعب كرة القم، له باب داخلى على ذلك الملعب، وباب خارجى يفتح على شارع جانبى يفضى إلى شارع روض الفرج، وبذلك فقد كان متفرغاً لأعمال وظيفته آناء الليل وأطراف النهار.
وكان نشيطاً خفيف الخطى سريع الحركة. كنا نراه فى الفناء فى الصباح الباكر، وفى طابور الصباح، ونفاجأ به أثناء الدراسة يدخل إلى قاعة الدرس أثناء الحصة، يدخل خفيف الحركة صامتاً بعد أن ينقر الباب ويأذن له المدرس بالدخول، فيجلس فى أى مكان خال فى آخر الفصل. ويستمر المدرس فى إلقاء درسه وممارسة عمله، وسامى عاشور صامت لا يتدخل ولا يتكلم، وكأنه أحد الطلبة، حتى تنتهى الحصة ويدق الجرس، عندئذ ينهض واقفاً ويتقدم نحو المدرس فيصافحه فى أدب، ويشكره، ثم ينصرف بينما نحن نشيعه بالتصفيق. وكان يفعل ذلك فى كل الحصص أيا كانت، وكأنه يستمتع بحضور الدروس فى كل المواد، وكنا نراه فى مطعم المدرسة أثناء تناولنا للوجبات، حتى فى وجبه الإفطار أو العشاء للقسم الداخلى، ينظر إلى المطعم وموائدة ومقاعده ليعرف مدى نظافتها، وقد يجلس معنا على إحدى الموائد فيتناول الوجبة معنا. وقد يدخل إلى مطبخ المدرسة الملحق بالمطعم فيقوم بالتفتيش على كل شئ فيه. وفى المساء كان يفاجئنا بالظهور فى غرف المذاكرة، فيتفقدنا ونحن نستذكر، وينظر إلى الكثيرين منا ليعرف فيما يقرأون، أو ماذا يكتبون. كل هذا وهو هادئ صامت إلا فى أحيان قليلة يتكلم فيها بما هو ضرورى من التوجيهات، وكان إذا تكلم يتكلم بصوت خفيض ولكنه قاطع.
ذات يوم ونحن فى أوئل العام الدراسى، كانت عندنا حصة لغة انجليزية، للأستاذ إبراهيم العفيفى، وقبل نهاية الحصة أقبل على الأستاذ عفيفى ومال نحوى وأخبرنى بالحضور إلى مدرج الجغرافيا فى فسحة الغداء لحضور اجتماع لفريق التمثيل. وفى الاجتماع أخبرنا الأستاذ عفيفى أنه من المقرر أن نقيم حفلاً سنوياً فى أواخر السنة، يقوم الفريق فيه بتقديم مسرحية: مجنون ليلى، وأننا سنقوم اليوم بعمل بعض الاختبارات لاختيار من سيقومون بتمثيل الأدوار الرئيسية. وقام الأستاذ بتوزيع نسخ مطبوعة من المسرحية، وقال لنا إن كل طالب سوف يقرأ بصوت عالى جزءاً من نصوص المسرحية. وبدأ الطلاب فى أداء ما يطلب منهم، إلى أن جاء الدور على، فطلب منى العفيفى أن أقرأ نص المونولوج الذى يلقية قيس بن الملوح على جبل التوباد، وكنت أحفظه من قبل عن ظهر قلب. وألقيه إلقاء شاعر كلام شاعر. واندمجت فى الدور حتى جئت إلى نهاية النص:

كلما جئتك راجعت الصبا
فأبت أيامه أن ترجعا
قد يهون العمر إلا ساعة
وتهون الأرض إلا موضعاً
وتوقفت، فأنفجر الجميع بالتصفيق، وكان قبل ذلك يجلسون وقد خيم عليهم الصمت. ورأيت الأستاذ العفيفى وقد أغرورقت عيناه بالدموع، ثم تركنا وهرول مندفعاً إلى مكتب الناظر، وقال له -كما أخبرنى هو فيما بعد: حضرة الناظر.. لقد وجدته. وسأله الناظر: وجدت من؟ فأجاب: وجدت قيس، بلحمة وشحمه. وروى له ما حدث. واستمرت اجتماعات الفرقة، وأحضر لنا العفيفى مدرباً للتمثيل كان هو  الأستاذ: عبد المنهم شكرى المخرج السينمائى المعروف فيما بعد، والذى أصبح صديقاً لى بعد ذلك لسنوات طويلة. واستمرت التدريبات حتى أواخر العام، ولكن للأسف لم تقم المدرسة ذلك العام بإقامة الحفل السنوى -لظروف مالية خارجة عن إرادتها، وبالتالى لم تقدم المسرحية على المسرح.
فيما عدا مظاهرة واحدة قمنا بها فى هذا العام، وهى المظاهرة المعتادة بمناسبة عيد الجهاد الوطنى، حيث خرجنا بالعلم ونحن نردد الهتافات المعتادة، فذهبنا إلى ضريح سعد زغلول، وانضممنا إلى الجماهير الغفيرة التى أحاطت بالضريح. وفيما عدا ذلك، لم تحدث أية مظاهرات أو إضرابات أخرى.
تذكرنى سوء الحظ مرة أخرى عدة مرات خلال تلك السنة فأصبت بعدة أمراض وإصابات، أصبت بالدوسنطاريا، ثم بالتهابات جلدية، ثم أصبت فى حادث ترام حين تصادم الترام الذى كنت أيتقله فى يوم عطلة أسبوعية، مع سيارة نقل للجيش الإنجليزى، وأصبت بكدمات وجروح بالغة فى ساقى اليسرى، ولولا لطف الله بى لقطعت ساقى أو لمت فى هذا الحادث، ولكننى أسعفت ونقلت إلى مستشفى الهلال الأحمر، وتلقيت هناك علاجاً جيداً، ثم نقلت إلى منزل شقيقتى بهيجة لاستكمال علاجى.
وأخيراً وأنا فى زيارة لمنزل شقيقتى "عليه"، بالقلعة، فى العطلة الأسبوعية فوجئت بأعراض نزلة برد شديدة، وأحضروا لى طبيباً هو الدكتور سيد نجا، الذى قال بعد أن فحصنى، إننى مصاب بالحصبة، ووصف لى علاجاً أهم ما فيه أن ألزم الراحة التامة، وأن أجلس فى غرفة مظلمة بعيداً عن أى إضاءة، حتى لا يصاب نظرى بالضرر. وكان هذا العلاج يستلزم وقتاً طويلاً، فى حين أن موعد الامتحان قد أقترب. ولاح لى شبح بغيض، هو ضياع هذه السنة الدراسية أيضاً.
هو ما كنت مهدداً به بصورة خطيرة، لولا أن تداركتنى رحمة الله مرة أخرى، وشهامة زوج شقيقتى -وابن عمتى، يوسف صديق.
كان يوسف صديق وقتها ضابطاً فى الجيش برتبة صاغ، وكان فى أجازة مرضية طويلة لإصابته بمرض فى العمود الفقرى. وكان يوسف من النوع الذى وهبة الله القدرة على إيجاد الحل لأى مشكلة من أقرب طريق. ولذلك حين أتضح لنا الموقف، قال ببساطة: ستذاكر هنا، وستذاكر فى الظلام، دون أن تقرأ شيئاً!.
وقد كان. أحضرنا جميع الكتب، وقرر يوسف أن أرقد أنا فى الحجرة المظلمة، بينما يجلس هو فى صالة الشقة المضاءة، وراء الباب الموارب، ويقرأ لى بصوته القوى الواضح كل الكتب، واحداً بعد الآخر، فى كل المواد. اللغة العربية، اللغة الإنجليزية، اللغة الفرنسية، التاريخ، الجغرافيا، الفلسفة، المنطق، علم النفس. وكان يوسف شاعراً، وأديباً، ومحباً للثقافة، وفوق ذلك، فقد كان هو أيضاً، من أنصار القسم الأدبى، لأنه هو نفسه كان فى حينه، فى القسم الأدبى. وتضافرت كل هذه العوامل، فى الوصول إلى النتيجة المرجوة، وحين شفيت من مرضى، قبل الامتحان بأسبوعين، كنت مستعداً للامتحان إلى درجة لا بأس بها.
 وكنت قد أخذت إجازات مرضية يبلغ مجموعها عدة شهور من السنة الدراسية، بسبب ما ألم بى من أمراض وإصابات. ولذلك فحين عدت إلى المدرسة، قابلنى الناظر -الدكتور سامى عاشور- فى مكتبه، وسألنى ماذا أنوى أن أفعله بالنسبة للامتحان، هل سأدخلة، أم أعتذر عنه؟ وأجبته بثقة: أطمئن سعادتك، سأدخل الامتحان، وسأنجح، وسأحقق نتائج طيبة. أبتسم سامى عاشور وقال: على بركة الله.
وحققت وعدى له، ونجحت لمجموع جيد. وأنهيت الدراسة الثانوية بعد كا هذه المآزق، وبعد الجهد الجهيد.
وفيما بعد، بعد ربع قرن، كنت أشغل وظيفة هامة فى مجال السينما، رئيساً لمجلس إدارة إحدى الشركات الكبرى بمؤسسة السينما، وهى شركة كوبروفيلم للإنتاج والتوزيع السينمائى العالمى.
وذات يوم، بينما كنت فى مكتبى إذ دخل على سكرتيرى وقال: واحد أسمة الأستاذ سامى عاشور عاوز يدخل. ووجدتنى أنتفض واقفاً وأقول للسكرتير: أنتظر. ثم خرجت إلى الغرفة الخارجية، ورأيت الدكتور سامى عاشور لا كما كنت أراه قبل ربع قرن، ولكننى رأيته وقد وخط الشيب رأسه، وبدت عليه علامات الشيخوخة. ولم يعرفنى الرجل، ولكنه مده يده ليصافحنى، فقد علم صفتى. وتناولت يده، ووجدتنى أنحنى عليها لأقبلها.
وأخبرته بمن أنا، وبأننى أفخر بأن أكون لا أحد تلاميذه فقط، بل أبناً له. ولم يتذكرنى رغم ذلك، وإنما اكتفى بأننى أحد الآلاف من أبنائه. وعرفت منه أنه بعد أن أحيل إلى التقاعد، أصبح يعمل مستشاراً ثقافياً لسفارة الهند بالقاهرة، وقد جاء لأمر يخص عمله ذاك وأسعدنى أن أسهل له إنجاز عمله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق