ذكريات شاعر مناضل: 25- لو رشح الوفد حجراً لانتخبناه

25- لو رشح الوفد حجراً لانتخبناه


"لو رشح الوفد حجراً لانتخبناه"، كانت هذه هى المقولة التى نسبت إلى جماهير الشعب المصرى، عند صدور الدستور المصرى سنة 1923، وإجراء أول انتخابات سياسية سنة 1924، وقد جاء سلوك هذه الجماهير، وخاصة العمال والفلاحين، مصدقاً لتلك المقولة، فقد اكتسح مرشحو الوفد تلك الانتخابات إلى درجة تقترب من الإجماع، وبلغ الأمر درجة يكاد لا يتصورها العقل، إذ أن رئيس الوزارة التى أجرت تلك الانتخابات، وهو يحيى إبراهيم باشا، والذى كان قريباً من السراى، وموضع رضا الإنجليز، قد سقط فى تلك الانتخابات التى أجراها هو بنفسه، وفى عهد رئاسته للحكومة، فى دائرة منيا القمح بالشرقية، وفاز عليه فيها، واحد من الأفندية الذين رشحهم الوفد، هو أحمد أفندى مرعى (والد السيد مرعى، الوجه السياسى المعروف فى عهد الثورة).
كان الوفد منذ نشأ فى أحضان ثورة 1919، هو حزب الأغلبية الساحقة من المصريين، من الفقراء أبناء العمال والفلاحين، كما كان بالمثل هو حزب الطبقة الوسطى، والممثل لأفكارها وتوجهاتها. وكان سعد زغلول فى حياته، وحتى بعد مماته، هو معبود الجماهير فى مصر، وقد ورث مصطفى النحاس (باشا) هذه الشعبية عن سعد بعد وفاته: لصلابته فى التمسك بالحقوق الوطينة، والدستورية، ولما تميزت به شخصيته من بساطة، وصراحة، وتلقائية، جعلته قريباً من قلوب المصريين البسطاء.
وقد كان والدى، اليوزباشى محمد توفيق على (1882 - 1937) ضابطاً وطنياً بالجيش المصرى، أمضى مدة خدمته كلها بالسودان، ثم استقال من الخدمة وهو فى ريعان شبابه (مثله فى ذلك مثل زميله وصديقة الشاعر حافظ إبراهيم، رفضاً لسيطرة الإنجليز على الجيش المصرى، واحتجاجاً عليها، كما كان شاعراً وطيناً، (أنظر ديوانه:  الأعمال الكاملة للشاعر محمد توفيق على، الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب سنة 1996)، وكان فلاحاً وطنياً من أسرة فلاحين وطنيين. وكان محباً للوفد موالياً له، على عهد سعد زغلول، وعلى عهد مصطفى النحاس. وكان انتماؤه إلى الوفد انتماء للمبادئ العامة، دون أن يؤدى ذلك إلى ارتباط تنظيمى حزبى بالوفد، إذ كان يرى انه -كشاعر- يجب أن يظل فوق الأحزاب والحزبية، وما يقتضيانه من قيود. وفى ذلك يقول:

أنا فوق الأحزاب أهتف والأغراض لا أستريح للتقييد

وقد عبر عن حبه وولاءه الفكرى والمعنوى للوفد فى العديد من أشعاره وقصائده، فعن سعد زغلول يقول:

على دين سعد فى محبة أوطانى
أموت، ويبقى سعد للوطن العانى

ويقول فى مناسبة أخرى:
إيه يا سعد كم تعيد وتبدى
فى جهاد وعناء كثير
إنهم يرهقون حزبك بالمطل
وطول التعطيل للدستور
وعسى الله أن يرد عليهم
كيدهم بالبوار والتدمير

 ويقول عن النحاس عندما أصبح رئيساً للوفد بعد وفاة سعد:
الشعب غير معلق أماله
إلا بذمة مصطفى النحاس

 ويقول عن النحاس فى مناسبة أخرى سنة 1930:
جرح سينوت وقى حامى الحمى
بحياة كحياة المرسلين
إيه يا نحاس كن نحساً على
دولة الفرد وحكم الجائرين
مر فما فى مصر إلا طاعة
لزعيم الوفد فخر الآمرين
كل شرع سنة الوفد لنا
هو دين القبط قبل المسلمين

-ولم يكن أبى منفرداً بهذه المشاعر والتوجهات، بل كانت الأغلبية الساحقة من المصريين، يدينون بها، وكان هذا هو سبب قوة الوفد، وسبب قدرته على الصمود. كما كان سبب خوف وكراهية خصومة منه، وسبب المواقف المعادية التى انتهجها الاستعمار والسراى. وأحزاب الأقلية، له على طول الخط.
وكان بديهياً أن تتضافر هذه القوى على إبعاد الوفد عن الحكم أطول وقت ممكن،  سواء على عهد سعد زغلول أو على عهد مصطفى النحاس، مستخدمين فى ذلك أكثر الوسائل مجافاة للدستور والقانون، ومجافاة للحق والعدل، أو لإزاحته عنه عن طريق وضع العراقيل فى طريقة، وبث الفتن والدسائس فى طريقة. والثابت أنه رغم أن الوفد كان هو حزب الأغلبية الشعبية دون منازع، وصاحب الأغلبية النيابية فى كل الانتخابات الحرة النزيهة التى أجريت فى البلاد منذ صدور الدستور فى سنة 1923، رغم ذلك كله، فإن الوفد لم يتمكن من الحكم إلا بعد حوالى خمس سنوات، وكان ذلك من أسباب تعويق نهضة مصر بعد ثورة 1919 التى كانت تبشر بنهضة أعظم بكثير. وكان الوفد قد أقصى عن الحكم بإجراء تعسفى وغير دستورى فى أواخر سنة 1937، ولم يعد إليه إلا فى 4 فبراير 1942، فى الظروف الإجبارية التى تقدم ذكرها.
-وقد استقبل مصطفى النحاس عهد تكليفه بالحكم بعزم أكيد على انتشال مصر من الأحوال المأساوية التى كانت قد وصلت إليها من قبل، ومن الكوارث المحيقه بها من جراء الحرب الضروس الدائرة حولها وفوق ترابها، وعلى إصلاح أحوالها وأحوال الشعب على قدر ما وسعه الجهد.
-وبدأت مشكلة التموين وارتفاع الأسعار تخف حدتها، وصدر قانون بإلغاء السخرة التى كانت وصمة عار فى وجه مصر، وذلاً مقيماً على الفلاحين بصفة خاصة، وأنشئت وزارة للوقاية من الغارات الجوية، وتقررت مجانية التعليم الابتدائى والثانوى العام والصناعى والتجارى، كما تقرر التوسع فى مجانية التعليم الجامعى، وأنشئت جامعة الإسكندرية وجامعة إبراهيم بالقاهرة، وتقرر رفع أجور العمال، كما تقرر تخفيض الأموال الأميرية، واستجلبت لأول مرة الآلات لإنشاء المصانع الجديدة، وتدعيم المصانع القائمة، وإلغاء صندوق الدين الذى كان سبباً فى ضياع استقلال البلاد.
-وكانت كل هذه الإصلاحات والإنجازات تتم فى وجه حرب شعواء، وتهديدات لا تنتهى بإقالة الوزارة، وحملات متواصلة من الإشاعات والتشهير.
-وجاءت الطعنه الكبرى للوفد فى صورة الانقسام الذى دبره وحرض عليه الملك ورجاله، فى صفوف الوفد، والذى قادة وتزعمه السكرتير العام للحزب -مكرم عبيد، والذى انتهى بخروجه من الحزب ومعه ثلاثة من الوزراء، وعدد من الأعضاء، وقيامهم بإنشاء حزب جديد هو حزب الكتله الوفدية، الذى كانت مهمته هى الكيد للوفد والعمل على أضعافه، والذى كان يلقى الدعم والتحريض من الملك وأعوانه، ومن أحزاب الأقلية المعادية للوفد.
-والذين عرفوا ظاهرة الانقسامات الحزبية، أو مروا بها، يعرفون مدى ضراوة الصراعات والحروب النفسية التى تصاحبها، والتى تلحق أفدح الضرر بكيان الحزب وسمعته اعتباره. وقد بدأ انقسام الكتله بحملة من أنصار مكرم للطعن فى الوفد وزعيمه والتشهير بهم، وإطلاق الشائعات والاتهامات بالانحرافات المالية، والاستثناءات التى يغدقها على أنصاره، والعقوبات التى يوقعها على معارضية، ووصلت إلى الطعن فى عرضه.
-ثم أصدر مكرم -كتابه المعروف "الكتاب الأسود فى العهد الأسود".
وقدم النسخة الأصلية -بخط اليد- إلى السراى فى 31 مارس سنة 1943، وأرسل الملك صورة منها إلى النحاس بعد عشرة أيام، وعليها تعليق ينم عن الشماته، ويلوح بإجراءات ضد الحكومة الوفد. ثم بدأ أعوان مكرم فى طبع الكتاب وتوزيعه سراً فى مختلف أنحاء البلاد. وتطورت الأمور إلى قيام استجواب للنحاس تقدم به مكرم فى مجلس النواب، وقد ظل مكرم يشرح للمجلس الاتهامات التى وجهها فى كتابه إلى النحاس، على مدى ثلاثة جلسات، فى ثلاثة أيام متتالية، وبعد ذلك ألقى النحاس بياناً فى المجلس يرد فيه على اتهامات مكرم، وجاء فى ختامه قول النحاس:
"يحكى أنه كان فى مصر شخص يسمى مكرم عبيد، بلغ من الشهرة أقصاها، ومن المنزلة منتهاها، قربه رئيسه وعظمه زعيمه، حتى إذا بلغ القمة وظن أن لا أحد بعده، أخذه الغرور، وزين له الشيطان الغرور، فسقط من حالق محطم العقل مزعزع الفكر مضطرب أوضاع الحياة. كان فى مصر شخص يسمى بهذا الأسم، فانمحى من الوجود السياسى ذلك الاسم. رحمة الله".
-كان ذلك كله بعد عام واحد من قيام وزارة الوفد التى أعقبت حادث 4 فبراير سنة 1942، وقد أعلن فصل مكرم من الوفد، ومن الوزارة هو ومن كان معه من الوزراء. ثم اعتقل مكرم لمدة 6 شهور فى عام 1944، وكان قد أسس حزبة "الكتلة الوفدية"، ثم أقيلت وزارة النحاس فى أكتوبر 1945، وشكلت وزارة أحمد ماهر، واشترك فيها مكرم ووزراء آخرون من حزبه، وكان هذا هو أبلغ دليل على أن السراى كانت وراء انقسام مكرم على الوفد.
-وهكذا لم تمكث حكومة الوفد هذه إلا لمدة سنتين ونصف السنة.
...
على أن وزارة النحاس باشا هذه لم تسقط إلا بعد أن قامت بإنجاز عمل جليل آخر، وهو إقامة الجامعة العربية. ومهما قيل عن أن إنجاز هذا العمل إنما حدث بعد مبادرة بريطانية أطلقت الضوء الأخضر لها، وذلك بالتصريح الذى أدلى به إيدن، وزير خارجية بريطانيا فى مجلس العموم والذى قال فيه: "إن إنجلترا لا تعارض فى أن يكون للعرب جامعة تجمعهم" ورغم ذلك، فقد كان للنحاس دوره الأساسى الذى لا يمكن إنكاره أو جحده فى إقامة هذه الجامعة، ويبدو أن فكرة الجامعة كانت فى ذهنه، ولذلك فإنه التقط فرصة تصريح إيدن، وأسرع فى اتخاذ الخطوات التى كانت لازمه لإقامتها. وقد تم له ما أراد قبل إقالته، إذ تم التوقيع رسمياً على ميثاق الجامعة من الدول التى شاركت فيها يوم 8 أكتوبر سنة 1944، ثم أقيلت الوزارة بعدها مباشرة فى 10 أكتوبر، مما أعطى الانطباع وقتها بارتباط هذه الإقالة بهذا الإعلان.
...
ولا يمكننا أن ننهى الحديث عن هذه الفترة من التاريخ المصرى، إلا بأن نشير إلى أنها قد شهدت بدأ انشغال الولايات المتحدة الأمريكية واهتمامها بمصر وأهميتها ووضعهان وذلك منذ أوائل سنة 1942، وسعيها لاستخلاص إرث بريطانيا فى مصر وسط لهيب الحرب. بدأ الأمر بتمركز القوة الجوية الأمريكية التاسعة وإعداد كبيرة من دبابات شتيرن، وافتتاح السلاح الجوى الأمريكى لواحد من أكبر المطارات الجوية فى العالم خارج الولايات المتحدة تنفيذاً لمبدأ الإعارة والتأخير، وإقامة تكثيل عسكرى أمريكى خاص فى مصر، على غرار وزارة الدولة لشئون الشرق الأوسط البريطانية. ولاشك أن الهدف الأساسى من ذلك كان هو التمهيد والتبرير لفرض السيطرة الاقتصادية فى النهاية.
كذلك فقد بدأ منذ ذلك الوقت اهتمام أمريكا بأوضاع القوات المسلحة المصرية اهتماماً كبيراً، بما فى ذلك بدأ التجسس على الجيش المصرى.
...
وهكذا انتهت مرحلة من مراحل العمر، ومرحلة من حياة مصر. ولا يمكننى أن أودع تلك المرحلة إلا بأن أزجى إليها أصدق مشاعر الولاء.
فسلام على تلك الأماكن الذهبية التى عشنا فيها وعاشت فينا، وسلام على ذلك الزمان الذى صحبناه وصاحبنا، سلام عليه بحلوه ومره، وسلام على كل الأهل، وكل الأساتذة، وكل الزملاء والأصدقاء الذين عرفناهم وعاشرناهم وألفناهم. سلام على من لا يزال منهم على قيد هذه الحياة، وعلى كل من سبقنا إلى لقاء وجه ربنا الكريم، سلام عليهم فى الأولين، وسلام عليهم فى الآخرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق