ذكريات شاعر مناضل: 53- ثورة تتأرجح

53- ثورة تتأرجح

كانت سهير قد بلغت السابعة عشرة من عمرها - إلا قليلاً، وكانت فى ريعان الصبا، ولكن كانت مازالت تحتفظ بقدر من شقاوة الطفولة. وقد سرنى منها روحها الفكاهية المرحة، وقدرتها على إدخال المرح والتسلية على حياتنا المنعزلة فى هذا الريف النائى. فكانت تتابع برامج الراديو المسلية من جهاز راديو (بالبطارية) كانت قد أحضرته معها من القاهرة، مثل برنامج (على الناصية)، "وما يطلبه المستمعون" وغيرها، وهى برامج لم أكن أعرف أنا عنها شيئاً. وكانت قد أحضرت معها علبة ورق كوتشينه، لنتسلى بها - أنا وهى- فى أوقات فراغنا وراحتنا. فكانت بذلك نعم الجليس ونعم السمير.
غير أنها أدهشتنى بحسن تصرفها كربة منزل، رغم أنها فى منزل والدها ووالدتها، لم تكن تضطلع بشئ من تلك الأعباء. كانت تشرف -بمقدرة- على عمل الطاهى- عبد العزيز، وعلى أعمال الخادمة -أم صابر، الت حضرت لخدمتنا من البلدة. وكانت سهير هى التى تقوم بإعداد المائدة، فتحسن إعدادها بصورة حسنة وجذابة. غير أننى كنت ألاحظ عليها أعراض السأم والملل، عندما تضطرنى الظروف إلى الخروج من المنزل مساء، لسبب من أسباب العمل، كحضور تحقيق فى النيابة فى إحدى قضايا الجنايات، أو اجتماع فى النادى الذى كنت قد انتخبت سكرتيراً له، أو لحضور مناسبة اجتماعية فى القرية، كمجلس صلح، أو فى مناسبة عزاء. ولذلك - وتقديراً منى لمشاعرها، كنت اصطحبها لقضاء عطلة نهاية الأسبوع لدى والدها ووالدتها بالقاهرة، حيث كانت تأتنس بلقياهما، ولقيا إخوتها، وحيث كنا نختلف إلى بعض دور السينما، لنشهد بعض الأفلام.
كانت أياماً جميلة، عرفت فيها معنى السعادة، ومعنى الأنس بالحبيب، وكنت كثيراً ما استحضر فى ذهنى، بيت الشاعر ابن زيدون الأندلسى القائل:
وإذا هصرنا غصون الأنس دانية
قصوفها - فجنينا منه ما شينا..
وفى رحلاتنا الأسبوعية إلى القاهرة، كنت ألقى يوسف صديق طبعاً، وكنا نجلس سوياً كلما أتيحت الفرصة، ليسمع منى عن أحوال إقامتنا -أنا وسهير- بالزاوية، وعن أخبار عملى بالمحاماة فى الواسطى، وبنى سويف، فيطمئن علينا من كلتا الناحيتين.
وكنت أسمع منه تطورات وضعه فى مجلس قيادة الثورة، وتطورات أداء هذا المجلس لمهامه. وبدأت ألاحظ عليه أمارات الاستياء وعدم الرضا عن مجريات الأمور بصفه عامة. ويمكن القول إجمالاً أن يوسف، قد بدأ يلاحظ بعدم ارتياح عدداً من الظواهر التى أذت تتزايد، كلما استقرت أوضاع السلطة فى يد العسكريين، ومجلس قيادة الثورة بصفة خاصة.
فمن ناحية أسلوب العمل، بدأت الروح الجماعية تتراجع بين أعضاء مجلس القيادة، لتحل محلها الروح الفردية، والرغبة فى الاستئثار بالسلطة، والأساليب الشللية والتآمرية التى كان يلجأ إليها العديد من أعضاء المجلس.
لاحظ هو ذلك فيما يتعلق به هو، من تحويل اجتماعات المجلس التى كان يحضرها هو -والجميع- إلى اجتماعات شكلية، بينما القرارات والأمور الهامة، تتم مناقشتها والاتفاق عليها، فى اجتماعات جانبية، تتم بين أفراد الشلة التى تسعى إلى الاستئثار بالسلطة، وهو أسلوب تآمرى معروف، كنت قد عرفت الكثير عنه فى مرحلة الانقسامات فى الحركة الديموقراطية.
وذكر لى يوسف، أن محمد نجيب نفسه قد شكا إليه من هذه الظاهرة التى تحدث معه هو الآخر، والتى أصبح يشعر معها أنه يتحول يوماً بعد يوم إلى مجرد طرطور، وليس رئيساً حقيقياً لمجلس القيادة، أو حتى للوزارة.
كان جمال عبد الناصر يواصل سيره حثيثا نحو الاستئثار بالسلطة، على حساب نجيب من ناحية، وعلى حساب المجلس كله من ناحية أخرى، وكان يؤازره دائماً عبد الحكيم عامر، وأنور السادات، وحسين الشافعى، وكمال الدين حسين. وكانت تتكون من هؤلاء شلة أو كتلة تزداد تماسكاً يوماً بعد يوم.
وكانت هناك شلة أو كتلة أو أخرى، هى شلة الطيران، يتزعهما عبد اللطيف البغدادى، ومعه جمال سالم، وحسن إبراهيم، ومعهم فى كثير من الأحيان صلاح سالم. وكان محمد نجيب يقف وحيداً لا يناصره إلا يوسف صديق حيناً، وخالد محيى الدين حيناً آخر، أو جمال عبد الناصر ومن معه فى بعض الأحيان، لأسباب تكتيكية.
وكان تنظيم الضباط الأحرار قد كف عن الوجود علمياً، وتركزت كل السلطات فى يد مجلس القيادة، ومن ثم فى يد الشلل المسيطرة عليه، أو الزاحفة إلى هذه السيطرة. وانعكس ذلك على معنويات الضباط، الأحرار، وغيرهم، الذين بدأوا يشعرون بالعزلة وعدم الرضا، مما تجسدت آثاره بعد قليل فى صورة حركات تمرد بين قمع واعتقال لهم، وإحالة الكثيرين منهم إلى محاكمات عسكرية صورية. خاصة وقد بدأت تنتشر الأقاويل عن بعض مظاهر الفساد لدى بعض أعضاء مجلس القيادة (صلاح سالم).
إلى جانب كل ذلك، فقد بدأت مواقف قيادة الثورة تتأرجح فى اتجاهاتها وقراراتها، بين خطين أحمدهما الخط الوطنى والتقدمى، والثانى هو الخط الرجعى واليمينى المعادى للشعب.
فعلى الجانب الوطنى والشعبى، كانت الحركة قد سجلت لنفسها موقفاً عظيماً حين خلعت الملك ونفته خارج البلاد فى 26 يوليه 1952. ثم سجلت لنفسها موقفاً إيجابياً آخر، عندما أصدرت قانون الإصلاح الزراعى فى 10 سبتمبر 1952، وكذلك حين أعلنت فى 11 أغسطس 1952 عن قرارها بإجراء انتخابات حرة فى فبراير 1953، وهذه القرارات والمواقف الإيجابية، هى التى أدت إلى التفاف الجماهير والقوى الوطنية والشعبية حول الثورة، وإلى عزل القوى والأحزاب اليمينية والرجعية عن النفوذ.
ولكن الثورة عادت فتأرجحت فى مواقفها، وانتكست فى علاقتها بالجماهير حين انتهجت خطوات عكسية صدمت مشاعر الجماهير وخيبت آمالها، بدأت هذه الخطوات بالمواقف المعادية للشيوعيين، الذين كانت أكبر وأهم منظماتهم -وهى الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى- قد قدمت لهم مساعدات جليلة على إنجاح حركتهم، كما قامت عناصرها بالمساهمة الأكثر فعالية فى انتصار تلك الحركة، فيما تمثل فى دور يوسف صديق البطولى الحاسم فى نجاحها، وفى الأدوار الأخرى الفعالة التى قام بها خالد محيى الدين، وأحمد حمروش، وغيرهما من الضباط. وتمثل ذلك فى قيام حدتو بإصدار بيانتها بتأييد حركة الجيش فى اليوم الأول لحدوثها، وفى استمرار دفاعها عن الحركة بعد ذلك، مما ساعد على تأمين خطواتها الأولى.
فى مقابل ذلك، عمد مجلس القيادة إلى اتخاذ موقف معاد للشيوعيين بما فيهم حدتو، وذلك برفض الإفراج عن 17 من المعتقلين الشيوعيين الذين كانوا قد اعتقلوا قبل الثورة، فى حين قررت الإفراج عن سائر المعتقلين السياسيين الآخرين، وقد قيل فى تفسير هذا الموقف، إنه كان لإبقاء هؤلاء المعتقلين السبعة عشر فى المعتقل، كخميرة لاعتقال الشيوعيين فى المستقبل، وكتعبير عن موقف فكرى وسياسى لأغلبية القيادة، هو موقف العداء المضمر للشيوعية، ابتغاء مرضاة الأمريكان، والقوى اليمينية الداخلية. وقد تأكد هذا الموقف بعد ذلك مرة ثانية، عندما صدر قانون العفو الذى أصدرته حكومة محمد نجيب فى 16 أكتوبر 1952، وكان يقتضى بالعفو عن المسجونين السياسيين والمتهمين فى قضايا سياسية فى الفترة من توقيع معاهدة 1936 إلى 1952، ورغم أن فتحى رضوان -وزير الإرشاد فى ذلك الوقت قد أعلن أن القضايا الشيوعية تدخل ضمن القرار، إلا أنه استثنى من تطبيقه الشيوعيون، بدعوى أن القضايا الشيوعية ليست موجهة ضد النظام السياسى، ولكن ضد النظام الاقتصادى والاجتماعى للدولة، وهو قول بالغ الركاكة والتلفيق، وتم العفو بموجب ذلك القانون عن 943 شخصاً، لم يكن أحد منهم من الشيوعيين. وحين أقام هؤلاء دعاوى للتظلم من هذا القرار أمام مجلس الدولة، امتنع المجلس عن نظرها، بحجة أن القرار يعتبر من أعمال السيادة، التى يمتنع على المجلس التعرض لها، وكانت تلك حجة دفاع الحكومة.
وكانت أخطر هذه السقطات، هو موقف مجلس القيادة من أحداث كفر الدوار، أو القضية المشهورة بقضية خميس والبقرى، والتى اتخذ فيها مجلس الثورة موقفاً بالغ الخطأ والسؤ، حتى أن بعض الكتاب قد وصفوه بالهمجية. وتخلص أحداث هذه القضية فى أن عمال شركة مصر للغزل والنسيج الرفيع بكفر الدوار وعددهم عشرة آلاف عامل، قاموا فى يومى 12 ، 13 أغسطس بإضراب للمطالبة ببعض الحقوق المالية لدى الشركة، وكان يمكن أن يمر ذلك الإضراب بهدوء شأن الكثير من الإضرابات، ولكن البوليس تعرض للإضراب بشكل استفزازى مما أدى إلى حدوث اشتباكات أدت إلى اشتعال بعض الحرائق، واستنجدت إدراة الشركة بقوات الجيش التى نزلت إلى ساحة الأحداث، وتصادمت مع العمال، مما أدى إلى مصرع ثلاثة جنود، وثلاثة عمال، وإلى إصابة 28 شخصاً بجراح. ورغم أن احتمال المؤامرة من جانب العناصر اليمينية فى إدارة الشركة كان راجحاً، إلا أن حركة الجيش، التى لم يكن قد مر على قيامها سوى ثلاثة أسابيع، قد تصرفت برعونة بالغة، تحت وهم أن هذه المظاهرة هى بداية أعمال مضادة لحركة الجيش. وقررت الحركة إخماد حركة العمال بعنف بالغ، فأرسلت قوات كبيرة من الجيش بالدبابات لقمع العمال، ثم قامت بتشكيل مجلس عسكرى، تطوع لرئاسته عبد المنعم أمين -عضو مجلس القيادة (المشهور بميوله اليمينية المتطرفة، والمعروف بعلاقته بالسفارة الأمريكية)- واشترك فى عضويته حسن إبراهيم، عضو مجلس القيادة، وأحد أفراد مجموعة الطيران اليمينة، وضباط آخرون، منهم الضباط جمال القاضى الذى اشتهر بعد ذلك بعنفه البالغ فى مواجهة المسجونين والمعتقلين من نزلاء السجن الحربى. وكما حدث فى محاكمة دنشواى الشهيرة، والتى أقامها الجيش الإنجليزى لفلاحى دنشواى، جرت محاكمة عمال كفر الدوار، على عجل، وفى موقع الأحداث بكفر الدوار، وجرى فيها انتهاك واضح لحقوق الإنسان وحقوق الدفاع، وحرم المتهمون من الاستعانة بمحامين للدفاع عنهم، كما حرموا من حقهم فى طلب شهود على براءتهم. وكلفت المحكمة الصحفى موسى صبرى -الذى كان حاضراً الجلسة بصفته الصحفية بالدفاع عن مصطفى خميس، بحجة أنه حاصل على ليسانس الحقوق.
وتمت المحاكمة فى جو من الإرهاب والترويع، وأخيراً صدر الحكم على عجل قاضياً: بإعدام كل من العاملين مصطفى خميس، ومحمد حسن البقرى، وبالسجن على بقية المتهمين -ومنهم عامل لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، لمدد مختلفة. وقد قرر عبد المنعم أمين فيما بعد، بأن خميس قد ترافع عن نفسه مرافعة عظيمة لمدة نصف ساعة (رغم وجود موسى صبرى الذى كلفته المحكمة بالدفاع عنه)، كما قرر أن المجلس العسكرى قد خالف قانون المحاكم العسكرية، وأن الحكم بالإعدام لم يصدر بإجماع الآراء كما ينص القانون. ثم عرض الحكم على مجلس قيادة الثورة للتصديق عليه، فصدقت عليه اغلبية المجلس، واعترض عليه كل من جمال عبد الناصر، ويوسف صديق، وخالد محيى الدين. أما محمد نجيب فقد كان متردداً فى التصديق على الحكم، واستدعى إليه مصطفى خميس لمحاولة مساعدته إذا قدم إليه معلومات مفيدة عن أسماء أشخاص قد يكونون قد حرضوه على هذا الإضراب. وقد قال محمد نجيب فيما بعد: إن مصطفى خميس كان رجلاً شجاعاً، ولم يعترف على أحد، ولم يوجه اتهاماً ظالماً لأحد، لأنه لم يكن مدفوعاً من أحد. ومه ذلك فقد إنحاز نجيب إلىرأى الأغلبية الظالمة، فصدق على الحكم بإعدام رجلين لم يرتكبا جرماً يستحقان عليه، الإعدام، فأصبح بذلك -أمام التاريخ- شريكاً فى قتلهما. وعندما جرى تنفيذ حكم الإعدام، وقف خميس صارخاً بأعلى صوته: أنا برئ ومظلوم، وأريد إعادة محاكمتى. ولكن صرخته كانت صرخة فى واد، ذهبت أدراج الرياح، وإن كانت قد سجلت فى سجل التاريخ.
وكانت هذه المواقف المعادية للشيوعيين، وللعمال، هى نواة الموقف الذى صاحب حركة الجيش، والتيار اليمينى فيها، والذى ظل ينمو باستمرار، حتى ارتكب الكثير من فظائع التعذيب وجرائم القتل فيما بعد، والذى يشكل -مع غيره من المواقف المعادية للديموقراطية، الوجه المظلم من وجوه ثورة يوليو.
وعلى الجانب الآخر، فقد عادت قيادة الثورة فتنكبت الكثير من المواقف والمبادئ التى كانت قد أعلنتها على طريق الديموقراطية. ومن ذلك:
كان البيان الأول للثورة قد ذكر أن حركة الجيش سوف تسير فى طريقها، "فى ظل الدستور" وهى العبارة التى أضافها محمد نجيب بخط يده على مشروع البيان الذى كان قد أعده جمال حماد وآخرون ليذاع فى صبيحة يوم الثورة. ولكن الثورة عادت فتنكبت طريق الدستور، فقد كان محمد نجيب نفسه هو الذى أعلن فى يوم 1952/12/10 "باسم الشعب" سقوط دستور 1923 بدعوى أن به ثغرات. وكانت الحركة قد نشرت ووزعت من قبل الملصقات القائلة: نحن نحمى الدستور، ولكنها عادت فأعلنت فى 1953/1/13 تشكيل لجنة من 50 عضواً لوضع دستور جديد، وكانت اللجنة برئاسة على ماهر -العدو العتيد للدستور، وللحياة النيابة، وكان معظم أعضائها من حاملى رتبة الباشوية والبكوية القدامى، وهى الرتب التى كانت الحركة فد ألغتها فى مستهل عملها. ثم عادت الثورة فعدلت عن السير فى طريق الدستور الجديد، وأصدرت فى 10 فبراير 1953 دستوراً مؤقتاً، أعلن عن فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات، يتولى خلالها مجلس القيادة أعمال السيادة.
وبعد فترة قصيرة فى ظل الثورة، بدأت الخطوات السياسية والقانونية والعملية لمحاصرة وجود الأحزاب. ففى 7 سبتمبر -عقب تولى محمد نجيب رئاسة الوزارة مباشرة، بدأت عملية محاصرة الأحزاب، بإصدار قانون تنظيم الأحزاب، بهدف احتوائها وتصفيتها. وكانت قيادة الثورة قد وجهت نداء إلى كافة الهيئات والأحزاب للقيام بتطهير نفسها أسوة بما استهدفه الجيش بحركته فى 23 يولية. وكان شعار تطهير الأحزاب لنفسها هو إشارة البدء فى الهجوم على الأحزاب، وخاصة حزب الوفد، الذى كان هو أقرب الأحزاب إلى حماية الدستور والحياة الديموقراطية. وفى 1953/1/17 أصدر القائد العام للقوات المسلحة، اللواء محمد نجيب بياناً بحل جميع الأحزاب، ثم فى 23 يناير أى بعدها بأيام قلائل أعلنت قيادة الثورة عن تشكيل هيئة التحرير، بهدف أن تكون هذه الهيئة هى الإطار الوحيد للعمل السياسى فى البلاد، بديلاً عن سائر الأحزاب.
وهكذا كان يسير الزحف الحثيث، خطوة بعد خطوة، لاستيلاء العسكر، ممثلين فى قيادة الثورة، على كل السلطات فى البلاد.
ثم تلا ذلك إبتهاج الثورة طريق القمع والإرهاب لكل المعارضين لعملية انفرادها بالسلطة، وبدأ ذلك بضباط الجيش، الأحرار، وغير الأحرار. وفى 15 يناير 1953 تم اعتقال عدد كبير من ضباط المدفعية، الذين سيقوا إلى سجن الأجانب برتبهم وبملابسهم العسكرية، وهى سابقة لم يحدث لها مثيل فى مصر من قبل، ثم أحيل الكثير منهم إلى المحاكمات العسكرية، حيث صدرت ضد الكثير ين منهم أحكام بالسجن، وصلت إلى حد الحكم بالإعدام على أحدهم (حسنى الدمنهورى) وبالأشغال الشاقة المؤبدة على آخر (هو رشاد مهنا- الذى كان عضواً فى لجنة الوصاية على العرش التى كانت الثورة قد شكلتها).
وبعد ضباط المدفعية، حل الدور على ضباط الفرسان، فاعتقل عدد كبير منهم، وسجنوا وحوكموا وصدرت ضد الكثيرين منهم أحكام لمددة مختلفة.
وبعد العسكريين، بيوم واحد، تم اعتقال عدد كبير من السياسيين المدنيين، كان منهم 48 شيوعياً، كنت أنا أحدهم، بالإضافة إلى 144 حزبياً من غير الشيوعيين.
كانت تلك هى الأحداث التى صدمت يوسف صديق بعد أن وقعت، أو التى لم تكن قد حدثت بالفعل، ولكنها كانت على وشك الحدوث، والتى استشعرها هو بإحساسه المرهف، وهو ما حدا به إلى التوجس والتشاؤم، وتوقع الغدر من زملائه، حتى هؤلاء الذين أنقذ رقابهم من حبال المشانق، وأجلسهم على مقاعد السلطة والنفوذ، فقد بدأ يستشعر أن الكثيرين منهم لن يتوقفوا عند حد فى سعيهم الحثيث إلى الاستئثار بالسلطة، وما تجلبة السلطة من منافع. كان ذلك هو الشعور الذى بدأ ينتاب يوسف، وإن كان لم يفقده الثقة فى صواب ما عمله من أجل الثورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق