ذكريات شاعر مناضل: 21- مليككم أهين

21- مليككم أهين


أنقضى عام 1941، وبدأ عام 1942، وكانت رحى الحرب العالمية تزداد عنفاً على سائر الجبهات، وكانت جيوش المحور تتوغل فى صحرائنا الغربية وتقترب من الإسكندرية يوماً بعد يوم. وكانت الغارات الجوية تزداد شدتها على القاهرة -وطبعاً على حلوان- وبصفة خاصة على الإسكندرية.
ولم يكن يبدو أى أمل فى فرج قريب. غير أننا أصبحنا، فى صبيحة يوم 5 فبراير، فإذا نحن أمام مشهد جديد. فمنذ الصباح الباكر، وقبل ابتداء الدراسة، رأينا جموعاً من طلبة القسم الخارجى بالمدرسة وهم يتقاطرون على المدرسة، ويتجمعون أمام بابها الرئيسى. وحين حل موعد بدء الدراسة، وكان الناظر والمدرسون قد حضروا، سمعنا الهتافات تدوى فى أرجاء المدرسة وفى مدخلها:
-عاشت مصر حرة، عاش جلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان، تسقط بريطانيا، يسقط الاستعمار الغاشم.
وظل الهتاف يتردد وتزداد قوته وحرارته. ثم تحول الطلبة المتظاهرون إلى الهتاف المعروف:
نريد العلم .. نريد العلم. وعلمنا أن الأمر هو أمر مظاهرة، وليس مجرد إضراب عادى.
ودخل عدد من الطلبة إلى البهو الرئيسى للمدرسة أمام مكتب الناظر، وظلوا يرددون الهتافات، ثم هتفوا: نريد العلم، نريد العلم. وخرج الناظر ليسألهم عن الهدف من هذه المظاهرة، فأجاب أحدهم: نريد الذهاب إلى القصر الملكى، لتحية الملك المعظم. وسرعان ما سمح لهم الناظر بالدخول إلى غرفة مكتبه لأخذ العلم. وبدأت المظاهرة وكان على رأسها عدد من الزعماء: من القسم الخارجى: وحيد الدالى، وأحمد عزام، ومن القسم الداخلى: أحمد السيد حمد، ومحمد العشماوى، وكنا قد علمنا بسبب المظاهرة، وهو ما حدث فى مساء اليوم السابق 4 فبراير، من اقتحام الدبابات البريطانية للقصر الملكى، والإنذار الذى وجهه سفير بريطانيا للملك بعزل الوزارة القائمة، وزارة حسين سرى باشا، وتنصيب وزارة جديدة برئاسة مصطفى النحاس باشا، زعيم الوفد، وإلا فإنهم سوف يلزمونه بتوقيع تنازل عن العرش. وكان ذلك قمة أحداث الصراع القائم بين الملك وبين الإنجليز منذ وقت طويل، وهو صراع إرادة بين سلطة الملك وسلطة الاحتلال البريطانى. ورغم أن الحادث كانت له ملابسات وتفاصيل كثيرة، ورغم أن أغلبية الشعب المصرى، بما فيهم الطلاب، كانوا مؤيدين للنحاس ولحزب الوفد باعتباره ممثلاً للنضال المصرى الوطنى والديموقراطى، إلا أنهم انتفضوا غضباً على مسلك الانجليز، وعلى عدوانهم على حقوق وكرامة مصر كلها، ممثلة فى ملكها، وانتهاكهم لحرمة القصر. ومن أجل هذا تفجر الغضب الشعبى، وانطلقت المسيرات والمظاهرات فى كل مكان احتجاجاً على هذا الاعتداء الغاشم.
 سارت مظاهرتنا فى الشارع الرئيسى المؤدى إلى ميدان محطة حلوان، وهناك توقفنا، وتجمع حولنا عدد كبير من المواطنين، من عمال وفلاحين، وحتى بعض الطالبات والسيدات. وتبارى زعماء المظاهرة فى إلقاء كلمات حماسية غاضبة تندد ببريطانيا وبالاستعمار. وحملنى بعض الزملاء على أكتافهم فألقيت كلمة حماسية غاضبة، أعلنت فيها الغضب والتحدى للاستعمار الغاشم. ومما قلته فيها موجهاً الكلام للمستعمر: أيها المستعمرو الجبناء.. يا من تجاسرتم على ملكنا وعرشنا وكرامتنا.. ها هى صدورنا عارية فأطلقوا عليها رصاصكم الغادر، فانا والله لن نخاف ولن نتخاذل.
وحمل الطلبة زميلنا الشاعر كمال عبد الحليم، فألقى كلمة قال فيها مخاطباً المتظاهرين:
-مليكمم أهين... فماذا تنتظرون؟ كرامتكم ديست بالأقدام.. فهل تسكتون؟
ثم حملوا زميلنا الشاعر السودانى صادق عبد الله عبد الماجد، فألقى أبياتاً من قصيدة حماسية للشاعر شكيب أرسلان يقول فيها:
 ســيروا بنا عنقاً وشدا ... سيروا بنا ممسى ومغدى
ســيروا فرادى أو ثنى ... فـالجمع للغايات أجــــدى
لا يقعـــــدن بعزمــــكم ... يـــوم يرينا الهزل جـدا
 بــــالله يا وطنى أجـــب ... ما بــــال قلبك ليس يهدا
روح فؤادك واســترح ... فبنوك لا يألون جهــــــدا
ســـتراهمو كالسيف منصلتا ... يقــــــد الهــــام قــدا
ســـتراهمو كالأســـــد ... واثبة تــــــرد الخطب ردا
 ألقاها بصوت هادر رنان، فألهبت حناجر الجموع بالهتاف، وأكفهم بالتصفيق. وركبنا قطارا الديزل الواقف بالمحطة. فامتلأ بنا على آخره، ثم سار بنا إلى محطة باب اللوق، دون أن يتوقف على المحطات.
نزلنا بمحطة باب اللوق، وهناك عدنا نطلق هتافاتنا بحماس مضاعف، وتوقفنا فى الشارع المواجه للمحطة، وسرنا ونحن نهتف إلى ميدان عابدين، حيث القصر الملكى، فوجدناه غاصاً بالمتظاهرين، وظللنا نهتف معهم بحياة الملك العظيم، وبسقوط الاستعمار الغاشم، ردحاً من الوقت، حتى رأينا شفة الدور الثانى من القصر تفتح، ويظهر فها الملك وهو يلوح للجموع ويرفع يديه لهم بالشكر. ثم تقدم أحمد حسنين باشا، رئيس الديوان الملكى ملوحاً بيده لتسكت الجموع، فلما هدأت، تكلم بصوت هادئ فنقل إلينا تحية جلالة الملك وشكره لنا على مشاعرنا الوطنية الصادقة، وقال لنا إن الأزمة قد انتهت على خير والحمد لله، ثم رجانا أن ننصرف مشكورين إلى مدارسنا وأعمالنا، لنواصل الجهد فى سبيل رفعة الوطن. وعلى أثر هذه الكلمات عاد الملك إلى التلويح لنا بكلتا يديه. ثم انسحب هو ورئيس الديوان من الشرفة، متجهين إلى داخل القصر.
وتأهبنا للانصراف ونحن لا ندرى إلى أين، وإذا بواحد من المتظاهرين ينادى قائلاً: إلى مجلس الوزراء. واستجاب له الجمع، فاستدرنا ونحن فى طريقنا إلى ذلك المجلس، ونحن نردد الهتاف بحياة مصر حرة. وبسقوط الاستعمار الغاشم.
سرنا إلى شارع مجلس الشعب بناحية القصر العينى، فوجدنا كل هذه الشوار مليئة بالمظاهرات الهاتفه بحياة الوطن، وبحياة الشعب. ثم توقفنا أمام مبنى مجلس الوزراء، وقد ازداد هتافنا قوة وحماساً. ثم رأينا جمعاً من رجال المجلس يخرجون إلى شرفة الدور العلوى منه، ويشيرون لنا بالتحية، ويطلبون منا -بالإشارة أن نهدأ. فهدأنا. وإذا بمصطفى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد، ورئيس الوزراء يخرج إلى الشرفة وهو يلوح بيديه للمتظاهرين محيياً وشاكراً، ثم تقدم أحد مرافقيه وهو يشير لنا بالهدوء، لأن رفعة الرئيس الجليل سوف يلقى علينا كلمة. وتكلم مصطفى النحاس باشا فى صوت مبحوح قليلاً، ربما بسبب الإجهاد وكثرة الكلام. فقال: 
-أبنائى وأحبابى- أتوجه إليكم بخالص التحية ووافر الشكر على مشاعركم الوطنية الجياشة، وأطمئنكم إلى أن الأزمة قد مرت بسلام بحمد الله، وأن كل شئ سيوضع فى نصابه إن شاء الله. كل شئ.. كل شئ.. وأطمئنكم على صحة وسلامة جلالة الملك المعظم، وأننا سنمضى فى طريق الإصلاح، معتمدين على عون الله سبحانه وتعلى، وإلى تعاونكم وتعاون الشعب كله، ثم إلى تأييد جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه. والآن فإنى أدعوكم إلى العودة إلى دراستكم، وإلى أعمالكم بهدوء وسلام، فى حفظ الله ورعايته، ودعونا نعمل فى هدوء، فالوقت الآن وقت العمل وأداء الواجب.
وأشار لنا بالتحية ثم توجه فدخل من الشرفة إلى داخل مبنى مجلس الوزراء.
ولكننا لم ننصرف، بل بقينا واقفين، واستمرت هتافاتنا تتعالى فترة من الوقت، وبقى فى الشرفة بعض مرافقى الرئيس لتحية الجماهير، والإشارة لها بالانصراف. ولكن ما لبثنا أن رأينا النحاس باشا يخرج إلى الشرفة مرة أخرى، ومعه رجل طويل القامة جداً، عرفنا على الفور أنه مايلزلامبسون، السفير البريطانى فى مصر. وأشار لنا النحاس بالهدوء، فلما هدأنا، قال بصوت جهورى واضح:
-أبنائى وأحبابى .. اسمحوا لى الآن أن أزف إليكم نبأ ساراً، أزفه إليكم فى حضور السفير البريطانى، وهو أن السفير أبلغنى الآن، فى أول تولى حكومة الشعب أمور الشعب نبأ ساراً، هو أنه عند انتهاء الحرب لصالح الحلفاء إن شاء الله، ستجلو جميع القوات البريطانية عن مصر بلا قيد ولا شرط، ودون انتظار الموعد المحدد فى معاهدة 36.
ثم مد النحاس يده مصافحاً السفير البريطانى الذى رفه يديه تحية للجماهير، وهو يومئ برأسه مؤيداً ما قاله رئيس الوزراء. وارتجت الأرض والأجواء بالتصفيق والتهليل والهتاف بحياة الشعب، وحياة مصر حرة، وحياة النحاس باشا. وأشار النحاس للجماهير شاكراً، ثم انسحب هو ومن معه من الشرفة، داخلاً إلى المبنى، أما نحن فقد بدأنا نتحرك فى اتجاه الانصراف.
عدنا إلى حلوان، ونحن فى غاية التعب والإجهاد، فقد كان اليوم طويلاً وشاقاً. ولكننا كنا نشعر براحة نفسية عميقة، وكأننا ولدنا من جديد.
وفيما بعد، ولسنوات طويلة لاحقة، وربما حتى الآن، ظل الجدل والخلاف دائر حول حادث 4 فبراير 1942، وحول موقف النحاس وحزب الوفد فى تلك الأحداث. وانقسم الناس فى ذلك إلى فريقين، فريق ينحى باللائمة على مصطفى النحاس، ويتهمه بأنه قبل الوصول إلى الحكم على ظهر الدبابات البريطانية. بل ويذهب البعض إلى اتهامه بالتواطؤ مع الإنجليز على خلق هذه الأزمة واستغلالها. ويقف فى مقدمة هذا الفريق، أنصار السراى، وخصومة الوفد من أحزاب الأقلية. وفريق آخر ينفى عنه هذه الاتهامات، ويقول إنه تحلى فى هذا الموقف بمزيد من الوطنية والشجاعة، ويعتبر أن قبول النحاس رئاسة الوزارة فى تلك الظروف العصيبة، كان تضحية كبيرة منه لإنقاذ العرش، ولإخراج البلاد من أزمة كبرى، لأن مصر كانت وقتها فى حالة بؤس شديد. وكانت كل المرافق الحكومية شبه معطلة.
وكواحد ممن عاشوا تلك الأحداث، فإنى أشعر بأنه يتعين على أن أبدى رأياً فى هذا الخلاف.
ولقد كان لهذا الخلاف فى الرأى، وهذا الجدال بل والانقسام الذى حدث بسببه، عواقب وخيمة وآثار سلبية، انعكست على المناخ الفكرى والسياسى فى بلادنا لسنوات طويلة لاحقة. وأقدم رأيى هذا ملخصاً فيما يلى:
1- إن فى التاريخ الكثير من الأحداث الهامة المماثلة لحادث 4 فبراير، بل إن بعضها أكثر أهمية وأعظم تأثيراً فى تاريخ البلدان، بل وفى تاريخ العالم كله، وكانت كثير منها بطبيعتها وبنتائجها أحداثاً خلافية تثير الجدل والخلاف، بل والانقسام حولها. ومثل هذه الأحداث لا يمكن إعطاء رأى موضوعى وعادل وفاصل فيها إلا بعد مرور زمن طويل على وقوعها، زمن يخلص فيه الرأى من شوائب المصلحة أو التحيز، وحادث 4 فبراير فى مصر، هو دون شك واحد من تلك الأحداث.
2- إن الترجيح بين وجهتى النظر، أو وجهات النظر فى مثل هذه القضايا الخلافية، يتوقف أكثر ما يتوقف على مستوى الوعى السياسى والفكرى والتاريخى لدى من يتصدى لإبداء رأى فيها، ثم على مدى إدراكه لكل الظروف والملابسات التى أحاطت بهذاا الحث، ولأسبابه ومسبباته.
3- إن الحكم فى مثل هذه القضايا ينبغى أن يبتعد عن النظرة الجزئية أو السطحية، أو العاطفية، وأن يبنى على الجزم واليقين، لا على الظن والتخمين، كما يقول رجال القضاء.
4- إنه يندر أن تكون المسئولية عن أى حدث هام، محصورة فى طرف واحد من الأطراف المتصلة به، إذ غالباً ما تكون المسئولية مشتركة بين مختلف الأطراف المشاركة فى هذا الحدث.
وعلى سبيل المثال، فقد رأينا فيما تقدم، كيف قام الشاعر كمال عبد الحليم خطيباً فى المظاهرات التى أعقبت حادث 4 فبراير سنة 1942، يحرض المتظاهرين ويستثير مشاعرهم بقول: مليككم أهين.. فماذا تنتظرون؟ ثم إذا بنا نراه سنة 1948. أى بعد ست سنوات فقط يقول عن هذا "المليك":

وصوف على جسمه فوق صوف
ولكن هيكله يرتعش
وخمر لتنسيه وقع الصروف
وتنسيه سلطانه المنكمش
 ونار الرصاص، وطعن السيوف
وما طاش منها، وما لم يطش
ترى هل يعيش، وكيف يعيش
وعيد الجماهير إن لم يعش؟
وكنت أنا أقول فى هذه المظاهرات دفاعاً عن هذا الملك ونظامه:
أيها المستعمرون الجبناء، يا من تجاسرتم على ملكنا وعرشنا وكرامتنا...
ها هى صدورنا عارية فأطلقوا عليها رصاصكم الغادر، فإنا والله لن نخاف ولن نتخاذل.
فإذا بى أقول فى سنة 1946 فى قيدة لى نشرت فى مجلة الفجر الجديد عن هذا الملك ونظامه.

أيها الشعب تنبه للذئاب العاوية
صنعوا القانون صنعاً .. بالأكف الدامية
ومضوا بالشعب فى الظلمة نحو الهاوية
فانتفض يا شعب فالآفاق أضحت داوية
...
انتفض كالليث، واهبط كالعقاب الكاسر
نافذاً من بين أطباق الضباب الغامر
...
أيها المظلوم.. ولآلام بحر زاخر
وشقاء الشعب أنواء وموج هادر
فى غد يبدو على الأفق شعاع غامر
ويدك السجن والسجان شعب ظافر
الفرق بين ما قلناه، أنا وكمال فى سنة 1942 عن الملك ونظامة، وما قلناه فى سنة 1946 وسنة 1948، هو الفرق فى مستوى وعينا السياسى، وفى مستوى علمنا ومعرفتنا بالحقائق بين سنتى 1942، 1946، 1948.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق