ذكريات شاعر مناضل: 65- الفعل ورد الفعل

65- الفعل ورد الفعل

كان عام 1953 هو العام الذى تم فيه إرساء قواعد سلطة يولية، وقد تمثلت هذه القواعد فى أساسين، الأول: هو استئثار قيادة الثورة بالسلطة. وإقصاء كل القوى الأخرى عنها، والثانى: هو تركيز هذه السلطة فى يد جمال عبد الناصر، على خطوات، وإبعاد كل المعارضين أو المنافسين عليها من داخل مجلس القيادة، فى حركة طرد مركزى متوالية الحلقات والمراحل.
بدأت هذه الخطوات بإبعاد رشاد منها عن موقعة بصفته عضواً فى لجنة الوصاية على عرش الملك الطفل أحمد فؤاد، التى كانت قد شكلت فى الأيام الأولى بعد طرد فاروق ونفيه يوم 26 يوليو 1952. وكان رشاد منها قد تم اختياره لهذا الموقع، بصفته ممثلاً للعسكريين فى هذه اللجنة، وفى سبيل ذلك -وتمشياً مع القانون- كان قد عين وزيراً للمواصلات لمدة يوم واحد حتى يكون مستوفياً للشروط القانونية لمنصب عضو مجلس الوصاية.
ولم يكن رشاد مهنا أصلاً عضواً فى تنظيم الضباط الأحرار، ولكنه كان شخصية بارزة ومحترمة بين ضباط الجيش، مشهوداً له بالوطنية والجرأة والقوة، ولذلك كان تم انتخابه فى مجلس إدارة نادى الضباط -قبيل الثورة- ونال أكبر عدد من أصوات الضباط- بعد محمد نجيب. ولم يكن فى استطاعة مجلس قيادة الثورة تجاهله بعد الثورة، وحلاً لتلك المشكلة، تم الاتفاق داخل المجلس على اختياره عضواً فى مجلس الوصاية، على أمل أن يرضيه هذا المنصب، وأن يقنع به عن التدخل فى أمور السلطة الجديدة، ولكن ذلك لم يحدث، فرشاد كان صعب المراس، مستقل الرأى، وكان ينمتى أصلاً إلى حزب دينى يسمى "شباب محمد"، وهو حزب إسلامى متطرف، يقف على يمين تنظيم الإخوان المسلمين.
وكنت قد سمعت عنه، من قبل الثورة بكثير من يوسف صديق، الذى كان زميلاً له -من دفعته فى الخدمة العسكرية- وكان يحبه ويحترمه، وربما كان ممن زكوا ترشيحه للمنصب.
ثم سمعت من يوسف بعد ذلك طرفا من الخلافات التى بدأت تحدث بينه وبين الرئيس محمد نجيب، وأعضاء المجلس، وتدور كلها حول اعتداده كوصى على العرش، ومطالبته بسلطات شبيهة بسلطات الملك. سمعت مثلاً أنه قال لنجيب وبعض أعضاء مجلس القيادة وهو يدق بقبضة يده على مائدة أمامه: أنا مش زى الملك، يملك ولا يحكم، لا، أنا أملك أحكم!
ولهذا، فحين تفاقمت الخلافات بين رشاد وبين مجلس القيادة، لم أعجب حين علمت بأن المجلس قرر بالإجماع -بما فيهم يوسف صديق- إعفاء رشاد مهنا من منصبه فى لجنة الوصاية على العرش، وكان ذلك فى ديسمبر 1952، كما تقرر تحديد إقامته فى منزله، حتى لا يحدث منه عمل متهور من أعمال المعارضة.
الحلقة التالية فى مخطط تركيز السلطة والاستئثار بها، كانت هى عملية إبعاد يوسف صديق.
وكان يوسف صديق جندياً شجاعاً وضابطاً كفئاً. على ما سجله تاريخه العسكرى ودوره فى حرب فلسطين، كما كان شخصاً وافر الذكاء واسع الثقافة، وكانت وطنيته وإيمانه المطلق بالحرية والديموقراطية وحقوق الشعب، وبالعدالة الاجتماعية وانحيازه إلى الطبقات الشعبية، هى التى قادته فى النهاية إلى الاقتراب من الحركة الشيوعية المصرية، وإلى تنظيم حدتو بصفه خاصة، وإن كانت له بعض التحفظات على تلك الحركة، مثل موقفها من الدين، وشيوع الانقسامية بين صفوفها، وأسلوبها غير الفعال فى العمل الثورى. ومع ذلك فقد ظل دائماً قريباً من تلك الحركة، وموالياً لمبادئها ومواقفها الأساسية.
وكان يوسف قد انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار، فى صيف سنة 1951 على يد الضابط وحيد جودة رمضان -وبعد إطلاعه على مطبوعاتها ونشراتها، التى كانت تشى بمبادئها، وبعد لقائه بجمال عبد الناصر، وما أخذه من الانطباعات عنه، سواء عن أفكاره، أو عن قدراته كقائد للتنظيم، ثم بعد أن عرف يوسف أن محمد نجيب له دور رئيسى فى الحركة.
وكان يوسف رجلاً صادقاً وشجاعاً ومستقيماً كحد السيف، لا يعرف الخبث أو الكذب أو النفاق، ولا يقبل الأساليب الملتوية أو التآمريه، خصوصاً فى العلاقة بين الأصدقاء أو الزملاء أو رفاق النضال. وتلك هى الخصال التى أدت به إلى القيام بالدور البطولى الذى قام به ليلة الثورة، والذى أدى إلى نجاحها.
يوسف لم يكن رجل سياسة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، بل كان جندياً -وثورياً ورجل مبادئ، وتلك كانت هى الأسباب الحقيقة التى أدت إلى اختلافه السريع مع مجلس القيادة. أو بالأحرى، مع التيارات والكتل المتصارعة، الساعية إلى السيطرة عليه. لم تكن المسألة أنه كان شيوعياً أو يسارياً وهم ليسوا كذلك، فهو قد كان يقبل وجود مثل هذه الاختلافات فى المبادئ والآراء، ويقبل التعامل معها على أساسين، الأول: الأسلوب الديموقراطى فى معالجة الخلافات بالمناقشة والحوار، والعمل على الوصول إلى حل لها بالتوافق، أو بالأغلبية، والثانى: أن تكون هناك مرجعية عند الخلاف، وهى مبادئ الثورة وأهدافها المتمثلة فى منشوراتها وبرنامجها المسمى بالأهداف السته. باعتبارها الميثاق الذى اتفقوا عليه وانضموا إلى التنظيم وقبلوا العمل من أجل الثورة على أساسه.
ولكن يوسف أخذ يكتشف أن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة للأخرين، فمعظمهم لم يكونوا يعترفون بوجود هذه المرجعية، فهم لا يعترفون لا بالمبادئ السته ولا بالمنشورات، ومن ثم فهم لا يتقيدون بها، ولا يلتزمون -عملياً- بالمنهج الديموقراطى فى حل الخلافات بالمناقشات الموضوعية الصريحة، بل يعمدون إلى أساليب المناورة والتآمر فى الوصول إلى أهدافهم وتحقيق أغراضهم، اعتقاداً منهم بأن تلك هى السياسة ومقتضياتها، وهو ما يؤدى إلى انعدام الثقة وانهيار العلاقات الكفاحية والأخوية. وقد روينا فيما سبق مثالاً لهذا المنهج فى أسلوب جمال سالم فى المناقشات.
وكان يوسف يضيق بكل ذلك، ويشعر بأنه لا يستطيع الاستمرار فى التعامل بهذه الأساليب، بل كان يسمع من محمد نجيب الشكوى المرة من معاناته هو أيضاً منها. ولكن يوسف اكتشف أيضاً أن محمد نجيب لا يملك الصلابة الكافية لوضع حد لهذه الأمور، أو للوقوف فى وجهها موقفاً حاسماً.
ثم جاءت قصة القبض على الدمنهورى، وعلى ضباط المدفعية، وما تعرضوا له من بطش وتنكيل، ثم قصة القبض على عدد كبير من الشيوعيين والسياسيين -كنت واحداً منهم، ثم جاءت عملية إبعاده إلى أسوان، كل ذلك فى 15 يناير 1953 والأيام التالية، فوجد أن الكيل قد طفح لدية، ولم يملك إلا التقدم باستقالته من مجلس قيادة الثورة، معللاً ذلك بأن ضميره لا يستريح إلى البقاء عضواً فى مجلس يتصرف على خلاف المبادئ والقيم التى يؤمن بها.
ولم تكن هذه الاستقالة إلا تعبيراً عن شعوره بالرغبة فى إبعاده من جانب رفاق لم يشاركوا مشاركة فعلية فى تحقيق الثورة، ولكنهم يعملون الآن على السيطرة عليها، كما يعملون على فرض مواقف وسياسات منافية للمبادئ التى تقوم عليها.
الحلقة الثالثة فى المسلسل، كانت عملية إبعاد عبد المنعم أمين عن مجلس القيادة. ولم تكن هناك أسباب واضحة وصريحة لهذا الإبعاد، ولكن ما عرف منها هو تصرفاته الشخصية التى قيل إنها تعبر عن تطلعاته نحو السيطرة والنفوذ على السلطة. وكانت اتجاهات عبد المنعم أمين اليمينيه المتطرفة، وعدائه للطبقة العاملة، ولكل ما هو تقدمى أو ثورى من الأمور المعروفه عنه. وظهر ذلك فى دوره المعروف فى محاكمة عمال كفر الدوار، وطريقة إدارته لتلك المحاكمة، ثم أحكام الإعدام والأشغال الشاقة التى أصدرها على العمال.
والثابت تاريخياً أنه كان هو الذى تطوع لرئاسة تلك المحكمة، إلى جانب مواقف أخرى مماثلة.
ثم جاءت الحلقة الرابعة فى هذا المسلسل متمثلة فى قصة البكباشى محمد حسنى الدمنهورى، وهو ضابط بسلاح المشاة، قبض عليه يوم 17 يناير سنة 1953، بتهمة أنه دبر مؤامرة لقلب نظام الحكم، وبدأ التحقيق معه بواسطة لجنة من أعضاء مجلس قيادة الثورة برئاسة عبد اللطيف البغدادى، وعضوية كل من: عبد الحكيم عامر، وصلاح سالم، وزكريا محيى الدين، وكان يقوم بالحراسة عليه ثلاثة ضباط من رجال الصف الثانى هم: كمال رفعت، حسن التهامى، ومحمد أبو نار. وأثناء التحقيق معه وجه إليه صلاح سالم السباب، والاتهامات، والكلمات البذيئة، كما قام ضباط الحرس بضربه ضرباً شديداً، واستمر تعذيبه من الفجر حتى الساعة الرابعة مساء، وكان كل الذين اعتدوا عليه بالضرب والسب والتعذيب، ضباطاً أقل منه رتبة. وطوال هذا الوقت ظل دون طعام أو شراب.
وفى منتصف الليل استدعى ألى مبنى مجلس القيادة، حيث وقف فى الساعة السادسة مساء أمام محكمة يرأسها جمال عبد الناصر، وبها كل أعضاء مجلس القيادة عدا يوسف صديق، وعبد المنعم أمين وأنور السادات. واستمرت المحاكمة حتى الساعة التاسعة صباحاً، وأثناءها حاول صلاح سالم سبه فنهره جمال عبد الناصر.
وفى 19 يناير صدر الحكم عليه، بالإعدام شنقاً، وقد تلى عليه الحكم فى غرفة مأمور سجن الأجانب، وهو بملابسه الرسمية، مقيد اليدين والرجلين بالحديد. ولم يكن الدمنهورى من الضباط الأحرار، ولكنه كان ضابطاً عاملاً بالجيش، ومن رتبة كبيرة. وكان ما تعرض له من تعذيب هو بداية التصرفات الهمجية الوحشية من جانب ضباط الجيش ضد زملائهم فى السلاح، ومن بعدهم ضد معظم المعتقلين السياسيين.
وكان محمد نجيب قد علم بتعذيب الدمنهورى عن طريق قائد حرسه، الضابط محمد رياض، الذى شاهده بنفسه أثناء التعذيب، والدماء تسيل منه. ورفض محمد نجيب التصديق على الحكم بالإعدام. وقال: إننى لا أريد أن أمضى فى طريق مفروش بدماء الزملاء من الضباط.
ثم جاءت الحلقة الخامسة فى هذا المسلسل مع اعتقال ضباط المدفعية يوم 15 يناير أيضاً، إذ فى هذا اليوم اعتقل 35 ضابطاً من ضباط المدفعية، بدعوى أنهم يدبرون مؤامرة لاغتيال أعضاء مجلس القيادة، وأنهم طبعوا منشوراً يدعون فيه إلى أن يكون تمثيل الضباط فى مجلس القيادة بالانتخاب، وتحمس كل أعضاء المجلس ضد هذا الاتجاه، وقرروا محاكمة الضباط، ولم يعترض على ذلك إلا يوسف صديق، وكان ذلك من أهم أسباب استقالته من المجلس.
وقابل ضباط المدفعية اعتقال زملائهم بالغضب، فاجتمع 400 ضابط فى ميس المدفعية معلنين أنهم سيعتصمون حتى يتم الإفراج عن زملائهم، وتسبب ذلك كله فى حدوث انشقاقات وصراعات حادة بين الضباط، الموالين للثورة، والمعارضين لها. وبعد صراعات ومناورات، انتهت باعتقال حسنى الدمنهورى، وهو ما سبق بيانه، ثم بدأ التحقيق مع ضباط المدفعية ومحاكمتهم بواسطة أعضاء مجلس الثورة، وهو ما وضع نهاية فعلية لتنظيم الضباط الأحرار، كما أثار ردود فعل غاضبة فى أسلحة الجيش الأخرى، وخاصة فى سلاح الفرسان، مما أدى إلى صدور الأوامر بنقلهم خارج السلاح.
واختلفت الآراء بين أعضاء مجلس الثورة حول طريقة التصرف مع هؤلاء الضباط، إذ نادى جمال سالم بإجراء محاكمة صورية للمتهمين وإعدامهم فوراً، بينما اعترض محمد نجيب على أن يكون الخصم هو الحكم، بينما اختلف الآخرون على طريقة التصرف، وأخيراً أصدر مجلس الثورة، الذى كان يتولى المحاكمة، (عدا نجيب ويوسف صديق طبعا) أحكامه فى القضية، وتراوحت تلك الأحكام بين السجن المؤبد إلى السجن لمدة سنة واحدة. وكان لتلك الأحداث أثرها الهائل فى صفوف الجيش، ولدى الرأى العام الذى تسربت إليه تلك الأخبار.
ثم جاءت الحلقة السادسة فى مسلسل هذه الأحداث، والتى كانت أهمها، وأعظمها أثراً فى عملية السيطرة على السلطة وتركيزها، وهى الخطوة التى اتجه إليها جمال عبد الناصر فى سبيل تحقيق سيطرته هو على زمام السلطة، والتى تمثلت فى اقتراحه بترشيح صديقة الحميم، وحليفه الأساسى، الصاغ عبد الحكيم عامر، قائداً عاماً للقوات المسلحة بدلاً من محمد نجيب، مع ترقيته إلى رتبه اللواء مرة واحدة. وكانت الفكرة جريئة وخطيرة، إذ كانت ترقية صاغ إلى رتبه لواء مرة واحدة أمراً يتناقض مع قاعدة الأقدمية، التى يقوم عليها عامل الانضباط فى القوات المسلحة، كما كان يعنى تخطيه لكل الضباط الذين يسبقونه فى الرتبة، بما فيهم أعضاء مجلس القيادة. وكان تعيين عبد الحكيم قائداً عاماً للقوات المسلحة، يعنى إنهاء صلة رئيس مجلس قيادة الثورة، وسائر أعضائه، بالجيشن وهو مركز القوة الأساسى فى السلطة، وكان ذلك يعنى بوضوح تركيز السلطة كلها فى يد عبد الناصر، عن طريق صديقه الصدوق، وحليفه الوثيق، عبد الحكيم عامر.
ولتمرير الفكرة اقترح جمال الربط بينها وبين إعلان الجمهورية، وتعيين نجيب أول رئيس للجمهورية، ولكن نجيب اعترض ورفض وقال أن عبد الحكيم ليس مؤهلاً لهذا المنصب، وظل يقاوم لمدة ثلاثة أسابيع كاملة، وفكر فى الاستقالة، ولكنه لم يقدم عليها، وبل أذعن فى النهاية،وقال بعد ذلك: "اعترف بأن هذا كان خطئى الكبير. وأعلنت الجمهورية يوم 18 يونية 1953، وعين محمد نجيب رئيساً للجمهورية مع احتفاظه بمنصب رئيس الوزراء، وتخلى عن منصب وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة. وكان أول قرار جمهورى وقعه محمد نجيب هو قرار تعيين عبد الحكيم عامر قائداً للقوات المسلحة، مع ترقيته إلى رتبه لواء.
ولتمرير هذا المشروع، اعطى عدد من أعضاء مجلس الثورة نصيباً من كعكة السلطة: -جمال عبد الناصر عين نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للادخلية. وصلاح سالم عين وزيراً للإرشاد، وعبد اللطيف البغدادى عين وزيراً للحربية. ثم عين زكريا محيى الدين وزيراً للداخلية وجمال سالم وزيراً للمواصلات.
وكانت هذه العملية، تمثل انقلاباً كاملاً داخل سلطة يوليه، وإنهاء للقيادة الجماعية لمجلس الثورة، وبداءاً لمرحلة جديدة، ونظام جديد، يمكن أن نسمية: النظام الناصرى. كان ذلك أهم ما وقع من الأحداث داخل السلطة العسكرية، فى عام 1953، وكان التناقض الأساسى بين الضباط خلال هذا العام نابعاً من شعور أغلبهم بانفراد مجلس القيادة بالسلطة، وبأنهم هم ممنوعون من التعبير عما فى نفوسهم. واتخذ هذا الشعور شكل المطالبة، المعلنة أو غير المعلنة، بأن يتم تشكيل مجلس الثورة عن طريق الانتخاب من ضباط الجيش، بأسلحته المختلفة، وبما يمثل هذه الأسلحة ولكن الفكرة كانت تقابل بالرفض القاطع، وبالغضب من أعضاء القيادة، ولم يعرف أن أحداً منهم قد أبدى تأييداً لها، إلا يوسف صديق.
وعلى الجانب السياسى، يمكن أن نسجل المواقف والقرارات السلبية التى اتخذها مجلس قيادة الثورة فى سنة 1953 فيما يأتى:
بالنسبة للدستور: كان مجلس القيادة قد حرص فى بيانه الأول، يوم 23 يوليه، على إعلان أن المجلس يتمسك بالدستور، وأنه سوف يعمل فى "ظل الدستور" وهى العبارة التى حرص محمد نجيب على إضافتها بخط يده إلى بيان الثورة. وفى فتره لاحقة -فى أواخر عام 1952 حرص المجلس على تأكيد هذا الموقف، وامتلأت الشوارع بملصقات يظهر فيها جندى من الجيش بملابسة العسكرية، وقد كتبت على الملصقات عبارة: نحن نحمى الدستور.
كان هذا هو موقف السلطة العسكرية المعلن من الدستور، ولكن هذه السلطة سرعان ما قلبت ظهر المجن، ففى 10 ديسمبر 1952 أعلن محمد نجيب -الذى كان ق أصبح رئيساً للوزراء، أعلن إلغاء الدستور بحجة أنه ملئ بالثغرات، كما أعلن أن الحكومة هى التى ستتولى السلطات فى فترة الانتقال.
ثم أعلن فى 13 يناير 1953 عن تشكيل لجنة لوضع دستور جديد، لجنة برئاسة على ماهر -عدو الحياة الدستورية اللدود، وبعضوية 50 شخصاً معظمهم من حاملى رتبه الباشوية والبكوية التى كانت قد ألغيت فى بداية الثورة، وكثير منهم من أعضاء وقيادات أحزاب الأقلية. وقد تولت اللجنة عملها، ووضعت مشروعاً للدستور، لم ير النور أبداً، بل ظل حبيس الإدراج، إلى أن عثر عليه أحد الصحفيين ملقى على كومة قمامة فى جهة قريبة من مقر الحكومة.
وبالنسبة للأحزاب، بدأ الحكم العسكرى عهده برفع شعار "تطهير الأحزاب"، فقد وجهت القيادة العامة للقوات المسلحة نداء فى 31 يوليو 1952، أعلن فيه أن الجيش سوف يقوم بتطهير نفسه، وطالب سائر الهيئات والأحزاب بأن تقوم بتطهير نفسها هى الأخرى. وكان شعار التطهير هذا قد أصبح شعاراً سيئ السمعة، منذ رفعه نجيب الهلالى الذى كان قد عين رئيساً للوزراء فى العهد الملكى، واعتبره الرأى العام وسيلة لتدخل السلطة فى شئون الأحزاب الأخرى، ولاسيما حزب الوفد، حزب الأغلبية الشعبية. ودلت الممارسة العملية بعد ذلك على سؤ استخدام هذا الشعار، واتخاذه سلاحاً للإساءة إلى حزب الوفد بصفة خاصة، وللتدخل فى شئون غيره من الأحزاب والهيئات -بصفة عامة.
ثم تولى محمد نجيب رئاسة الوزراء فى 17 سبتمبر 1952، وسرعان ما أصدر قانوناً لتنظيم الأحزاب، قضى بأن تكون إقامة حزب متوقفة على تصريح من وزير الداخلية، الذى كان له حق الاعتراض على تكوين الحزب خلال شهر من تاريخ أخطاره بالرغبة فى تكوين الحزب، وتتولى محكمة القضاء الإدارى الفصل فى الأمر.. إلخ، كما ألزم القانون الأحزاب القائمة بإعادة تكوينها وفقاً لأحكامه، وبأن تقوم بإيداع أموالها فى البنوك (أى بعد التصرف فيها).
وقد صاحبت صدور القانون حملة اعتقالات تمت فى اليوم السابق على قيام محمد نجيب بتشكيل وزارته، ووضح من كل ذلك أن العسكريين يزحفون على الحكم.
وصاحب ذلك، قيام حملة دعاية مركزة ضد الأحزاب عموماً، وحزب الوفد بصفة خاصة، وأدركت تلك الأحزاب الموقف، فعمدت إلى انتهاج خطة الانسحاب أمام هذا الهجوم تفادياً للمزيد من الإساءات والمخاطر.
ثم اكتملت الرواية فصولاً حين أعلن محمد نجيب فى 10 ديسمبر 1952 إلغاء الدستور، وكان ذلك يعنى أيضاً، إلغاء الأحزاب.
وبالنسبة للانتخابات، والحياة النيابية، كان مجلس قيادة الثورة قد أظهر اختلافه مع على ماهر حول هذا الموضوع، فبينما كان الجيش قد أعلن عن عزمة على إجراء انتخابات فى شهر فبراير 1953، أى بانتهاء فترة الانتقال التى كان قد أعلنها لمدة سته أشهر فى بداية الثورة: أخذ على ماهر يراوغ فى تحديد موعد لإجراء الانتخابات، إلى أن تم إبعاده عن الحكم فى 9 سبتمبر 1952، وقام محمد نجيب بتشكيل الوزراة، وكان مما أعلنه وقتها، قرار بإجراء الانتخابات فى فبراير سنة 1953. غير أنه عندما جاء هذا الموعد، كانت الأمور قد تغيرت منذ منتصف يناير 1953، بما لا يسمح لا بإجراء تلك الانتخابات، بل ولا حتى بالتفكير فيها، بما فى ذلك حملات القبض والاعتقال على أعداد كبيرة من الشيوعيين، وغير الشيوعيين، من السياسيين.
ولسنوات بعد ذلك، لم يكن هناك أى حديث جى عن أيه انتخابات حقيقة فى عهد الثورة.
وبالنسبة لقضية الحريات وحقوق الإنسان، رأينا مما تقدم كيف أنه منذ أوائل سبتمبر 1952 -قبيل تولى محمد نجيب رئاسة الوزارة، قامت حملة اعتقالات واسعة لسياسيين من مختلف الأحزاب، وخصوصاً من الوفديين، وكان ذلك تمهيداً لصدور قانون حل الأحزاب، كما رأينا أنه فى 15 يناير 1953 قامت حملة اعتقالات واسعة، شملت خمسين من الشيوعيين وأنصار السلام. كما شملت عدداً كبيراً من السياسيين الآخرين. كما رأينا فيما سبق أيضاً الاعتقالات الواسعة التى تعرض لها الكثيرون من رجال الجيش الآخرين، المعارضين لسياسات مجلس القيادة، وما تعرض له بعض أعضاء هذا المجلس نفسه، من إجراءات منافية للحرايات.
وعرفنا أيضاً أن الأمر لم يتوقف عند حد الاعتقالات، بل تعداه إلى شيوع عمليات القمع والتعذيب، وإهدار حقوق الإنسان، حتى بالنسبة لضباط الجيش أنفسهم.
وغنى عن الذكر أن كل تلك الانتهاكات إنما كانت تتم تحت غطاء من الأحكام العرفية، والرقابة على الصحف اللتين ظلتا قائمتين مما قبل الثورة، وأن نظام الثورة، لم يقم برفعهما، بل عمل على الاستفادة من بقائهما فى فؤرض سياساته وإحكام قبضته على السلطة.
وقد وضحت الأهداف الحقيقية التى توختها قيادة الثورة من تلك الخطوات والإجراءات جميعاً، من إقدامها على إنشاء هيئة التحرير فى أواسط يناير 1953، والاتجاه إلى فرضها على البلاد، لتكون هى الإطار الوحيد للعمل السياسى فى المستقبل، وبديلاً عن كل الأحزاب والهيئات الأخرى، وهو ما يذكرنا بالنظم العسكرية والفاشية والنازية فى تركيا، وفى ألمانيا، وإيطاليا، وأسبانيا، والبرتغال.
كانت تلك هى الأفعال التى قاكت بها السلطة العسكرية الجديدة، وكان لابد أن تكون لها ردود أفعال. وكانت أهم هذه الردود، هى الضيق والاستياء الشديدين فى صفوف قطاعات متزايدة من جماهير الشهب، المدنية والعسكرية، ولا سيما فى صفوف المثقفين، والنخب السياسية الواعيه. وقد بذلنا -من خلال النشاط الحزبى لحدتو، ومن خلال العمل الجبهوى غاية جهدنا لحشد وتنظيم هذه المشاعر الغاضبة. وبدأت تظهر نتئج هذه الجهود فى ردود الفعل الظاهرة والمكتومة فى حركة الجماهير، سواء على المستوى السياسى أو فى صفوف القوات المسلحة.
وكانت أبرز ردود الأفعال هى التحركات الجماهيرية التى حدثت فى جامعة القاهرة وغيرها من الجامعات الأخرى فى أيام 12 يناير 1954 وما بعده. وقد بدأت تلك الأحداث حين نظم طلبة الإخوان المسلمين استقبالاً طلابياً فى حرم الجامعة للزعيم الطلابى الإيرانى "نواب صفوى" الذى كان فى زيارة للقاهرة، وكانت صحف أخبار اليوم قد هللت له وأحاطت زيارته بدعاية ضخمة، وقد تحول الاستقبال إلى مظاهرة كبيرة انضم إليها الطلاب من مختلف الاتجاهات وشاركت فيها كل جماهير الجبهة الظطنية الديموقراطية الوليدة، من شيوعيين، واشتراكيين، ووفديين، وغيرهم. وسرعان ما بعثت هيئة التحرير الحديثة العهد، بعدد غفير من رجالها، من المخبرين، ورجال المباحث العسكرية، وأعضاء منظمات الشباب الحديثة التكوين، لقمع هذه المظاهرة الطلابية الحاشدة، وحدث اشتباك كبير بين الفريقين أدى إل وقوع إصابات عديدة بين الطلاب، وبين العناصر الغوعغائية المتدخلة، كما أدى إلى قيام الطلبة بقلب وحرق عدد من السيارات التى كانت تستقلها القوات المهاجمة. بل إن بعض طلبة الإخوان قد استخدموا الأسلحة النارية التى أطلقوها لصد المعتدين، إلى جانب استخدامهم للعصى وفروع الأشجار، مما أحث جواً بالغاً من العنف والتوتر، وعادت تلك الصدامات فى اليوم التالى، سواء فى جامعة القاهرة، أو فى جامعة عين شمس.
ونتيجة لتلك الأحداث أصدر مجلس قيادة الثورة فى 14 يناير 1954 قراراً بحل الإخوان المسلمين، بعد حوالى عامين كاملين من حل الأحزاب.
غير أن محمد نجيب، الذى كان رئيساً للجمهورية ورئيساً للوزراء. رفض الموافقة على قرار حل الإخوان، وبدا من هذا الموقف، بداية تزحزحه عن ماقفه السابقة، وبرر هذا الرفض بأنه: لأسباب مبدئية.
وكان مجلس الثورة قد أصدر بياناً برر فيه قراره بحل الإخوان بعديد من المبررات منها: -تقاعسهم فى تأييد حركة الجيش عند قيامها، وعدم تأييدهم للإصلاح الزراعى، ومحاولتهم فرض وصاية على الثورة، واتصالاتهم بالسفارة البريطانية..إلخ.
ولكن قيادة الثورة سرعان ما اكتشفت أنها تسرعت فى قراراها بحل الإخوان، وأخذت تمهد للتراجع عنه، ولكن الصدام الأخير بين الطرفين عاد للتفجر مرة أخرى فى فبراير 1954. ولم يكن الصدام بعد ذلك مع فئه واحدة من الشعب، بل كان مع كل الفئات مرة واحدة، تلك الفئات التى كانت -بعد أن أحنت رأسها للعاصفة، قد بدأت تتحين الفرصة للتحرك.
وما لبث الموقف أن تفجر، باستقالة محمد نجيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق