ذكريات شاعر مناضل: 72- فى ليمان طره

72- فى ليمان طره

انتهت أيام محاكمتنا تباعاً أمام الدجوى، وقامت المحكمة بحجز الدعوى للحكم، وتمت إعادتنا إلى سجن القناطر. وهناك استقبلنا الزملاء، الذين كانوا قد تابعوا مجريات المحاكمة وعرفوا وقائعها، بحفاوة بالغة. وأمرت إدارة السجن بترك أبواب الزنازين فى كل العنبر مفتوحة طوال اليوم، حتى يسهل انتقال الزملاء إلينا، وجلوسهم معنا فى مجموعات متعاقبة. شاهدنا والتقينا بكل الزملاء المسجونين، سواء من منظمتنا "حدتو". أو من المنظمات الأخرى، وحتى مصطفى كمال صدقى، وبكر سيف النصر، وسيد البكار، ممن كانت الأحكام قد حكمت عليهم بالسجن لمدة سنتين أو ثلاثة، من الدجوى أيضاً، فى قضية سابقة من قضايا الجبهة الوطنية. لذلك لم يرحلوا إلى ليمان طره مع غيرهم من المسجونين فى تلك القضية. من الشيوعيين، ولكونهم هم ليسوا شيوعيين تماماً. بل وفديين أو عاطفين على الشيوعية فقط. وحتى الرفاق اليونانيون، وكانوا حوالى خمسة عشر شخصاً، فقد حضروا لتحيتنا، وكان بعضهم يتكلم العربية قليلاً، لكونهم من البحارة، أما الآخرون فكانوا يتحدثون معنا بإنجليزية ضعيفة.
وفى المساء، ما أن هبط الليل، حتى سمعنا صوت ستافرو، يجلجل بالغناء، نشيد الأممية، باللغة اليونانية، ولكن بلحنة الدولى المعروف.
ومسحت هذه الحفاوة كثيراً من آثار الضيق الذى حل بنا. عند لقائنا - غير المستحب بالسيد الدجوى.
مكثنا فى سجن القناطر حوالى ثلاثة أسابيع فى انتظار صدور الأحكام فى قضيتنا، ومعرفة ما سيحل بنا بعدها، أما أنا فكنت انتظر زيارة سهير بشئ من القلق، إذ كانت تلك مدة طويلة نسبياً منذ رأيتها وأنا فى المحاكمة أما الدجوى. وقد قدرت أنها غالباً قد وضعت مولودنا الثانى فى هذه الأثناء، وكان هذا هو سبب تأخرها فى الزيارة.
وأخيراً، أخطرتنا إدارة السجن بأن لى زيارة اليوم، الموافق 17 يناير 1955، وذهبت إلى مكان الزيارة، وكنت أعرف أنها زيارة خاصة، وأتوقع أن تتم فى أحد المكاتب كالمعتاد، ولكننى فوجئت بشخص سمج يتصدى لى بكل سخافة، ليقول لى إن الزيارة ستكون من وراء السلك، شأن الزيارات العادية، رغم أن سهير كانت تحمل تصريحاً كتابياً بزيارة خاصة. وصمم الضابط السخيف على كلامه، رغم علمه من اسم سهير، باسم والدها، ورغم التصريح الكتابى الذى بيدها. وأردت أن أرجعه فى موقفه المتشدد دون وجه حق، فصمم على هذا الموقف. وكنت بين أمرين، أن أرفض هذه الزيارة بهذا الوضع غير القانونى، وغير المقبول، ومعنى هذا أن ترجع سهير، ومعها ليلى الصغيرة، ومعها مولدها الذى كنت أراها تحمله على ذراعها، والذى لم أكن قد رأيته أو حتى علمت بمن هو حتى الآن، وكانت معهم والدتها، السيدة توحيدة هانم، وهى سيدة وقورة. حاولت أن أشرح لهذا الضابط السخيف، هذه الظروف، ولكن بدا لى أنه يغتنم هذه الفرصة ليعبر عن سفالته. وعلمت بعد ذلك، أن هذا الضابط كان اسمه: حسن منير. وهو اسم أصبح مشهوراً بعد ذلك بسفالته وإجرامه، وبكراهيته المرضية للشيوعيين. وسيأتى ذكره فى مواضع أخرى من هذه الذكريات، فيما بعد.
رضخت، تحت ضغط الضرورة لإتمام الزيارة من وراء السلك، أى بشروط هذا الضابط السخيف.
ولم تستمر الزيارة بهذا الوضع طويلاً، إذ بينما أنا واقف وراء السلك أتحدث مع سهير، لأهنأها بالسلامة، وآبارك لها بمولودنا الجديد - يوسف صديق- الذى كنت أراه فى لفالاته دون أن أستطيع لمسه أو تقبيله أو حتى حمله على ذراعى، كل ذلك، والضابط السخيف واقف يتفرج، وكأنه يتضفى باكتشافه هذا النوع الجديد من وسائل التعذيب. ولكن فجأة ظهر من باب الزيارة، العقيد سيد والى، وهو يمسك بمقود كلبه الولف، وشاهد الموقف، وفهمه، ثم استمر فى سيره إلى أن خرج من الباب المقابل، بعد أن نظر إلى حسن منير نظرة واحدة ذات مغزى، بعدها رأيت حسن منير يشير لشاويش الزيارة، ويميل عليه ويلقى إليه ببعض الكلمات، فأقبل الشاويش مسرعاً وفتح لى باب طرقة الزيارة. فخرجت إلى حيث سهير ووالدتها، وليلى ويوسف، ومكثت معهم وقتاً مناسباً. رأيت فيه يوسف صديق الصغير لأول مرة، وحملته فى ذراعى وقبلته، ونظرت فى وجهه، فرأيتنى فيه مصغراً، ورأيت يوسف صديق الكبير مصغراً كذلك وتمت هذه الزيارة وأنا - وزوارى واقفين. ثم انتهت الزيارة، وخرج الزوار، وكانت آخرهم ليلى التى ظلت متمسكة بى لآخر لحظة.
خرجت من مكان الزيارة وأنا أكظم غيظى من هذا الضابط الغريب فى شذوذه، وأدعو الله أن يتيح لى فرصة لتأديبه.
مكثنا فى سجن القناطر أسبوعاً آخر، ثم استدعينا - نحن الأربعة - إلى مكتب مأمور السجن، فوجدنا عنده ثلاثة ضباط بملابس القوات المسلحة، وعلمنا أنهم أعضاء فى المجلس العسكرى، وأنهم جاءوا ليعلنونا بالأحكام التى أصدرها المجلس علينا. وبدأ واحد منهم فى تلاوة تلك الأحكام:
-محمد عبد الجابر خلاف، حكمت عليك المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات.
تلقى خلاف الحكم بثبات، ثم صاح هاتفاً: تسقط الديكتاتورية العسكرية.
محمود محمد توفيق، حكمت عليك المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة ثمانية سنوات.
تلقيت الحكم أيضاً بثبات، ثم صحت هاتفاً: تسقط الديكتاتورية العسكرية.
-محمد صلاح الدين حافظ: حكمت عليك المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة ثمانية سنوات.
وتلقى صلاح الحكم بنفس الثبات، ثم صاح تسقط الديكتاتورية العسكرية.
-بدير على النحاس: حكمت عليك المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات.
وتلقى بدير الحكم بنفس الطريقة، ثم هتف : تسقط الدكتاتورية العسكرية.
ثم أخذنا، لا إلى مكاننا فى العنبر، ولكن إلى عنبر صغير فى أقصى فناء السجن، مكتوب عليه: عنبر التأديب.
أدخلونا فى إحدى زنازين التأديب، فوجدناها عارية تماماً من أى شئ، لا برش،ولا مرتبة، ولا وسادة، ولا بطانية، فقط أرض عارية يكسوها الأسفلت الأسود كأسفلت الشارع. ثم جئ لنا بجردلين، واحد للماء، والثانى للبول، وأغلق علينا باب الزنزانية، وكنا واقفين، فجلسنا على الأرض، وبقينا صامتين. أشعل صلاح سيجارة، وأعطانى سيجارة أشعلها لى. وفجأة انفجر عبد الجابر ضاحكاً. ثم بدأت الكلمات تأخذ طريقها من الأفواه.
بدأنا نعلق الأحكام، واتفق رأينا على أنها محسوبه بدقة، فالحد الأقصى لعقوبة جريمتنا، وهى تأسيس وقيادة وإدارة تنظيم يعمل على قلب نظام الحكم، وتغيير المابادئ الأساسية للهيئة الاجتماعية، هو الأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات، شامله بعض التحابيش مثل الدعوة والدعاية للمبادئ الشيوعية، وإحراز المطبوعات التى تتضمن ذلك.. إلخ، وقد أعطى عبد الجابر هذا الحكم باعتباره كبيرنا، سناً ومقاماً، وابن عمدة فى الصعيد، وصاحب سابقة فى قضية شيوعية حكم عليه فيها بالسجن سنتين، وأمضاهما، فلم يكن هناك سبيل إلا بإعطائه الحد الأقصى. وأما أنا وصلاح، فكانت التهمة هى هى، ولكن لم تكن لنا سوابق فأعطى كل منا ثمانى سنوات. وأما بدير النحاس، فكانت التهمة هى هى أيضاً، ولكنه كان أصغرنا سناً، فوجدت المحكمة فى ذلك سبباً لاستعمال الرأفة، لإثبات أنها تعرف شيئاً عن أصول العدالة وحكمت بالأشغال الشاقة خمس سنوات.
قضينا يوماً واحداً على هذا الأسفلت، وفى المساء والصباح أعطى لكل منا رغيف واحد بلا إدام، ولكننا التهمناه، واكتفينا بعد بقدح من الماء.
لم يكن ضحى اليوم التالى يأتى، إلا وقد أخذنا من التأديب إلى الهنبر، حيث طلب منا جمع أشيائنا من الحجرة، ثم أخذنا بسيارة بوكس، إلى ليمان طره، وهو اخر المطاف لعتاة المجرمين، المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة.
وصلنا إلى ليمان طره قبيل الظهر، وأدخلونا من البوابة الرئيسية الواقعة عند شريط قطار حلوان، إلى المكاتب، حيث تم تسجيل بياناتنا، ولم نكن فى حاجة لا إلى حلق شعرنا ولا تغيير ملابسنا، فقد كنا قادمين من سجن القناطر، وكانت شعورنا حليقة، كما كانت ملابسنا زرقاء كلون ملابس الليمان.
أدخلونا من باب الوسط، إلى فناء السجن، حيث تتفرع منه أربعة عنابر كبيرة، كما يقع فيه مبنى الإدارة، ومبنى للمرافق، من أماكن للغسيل والاستحمام والورش، ثم مستشفى متوسط الحجم، ثم مبنى لعنابر التأديب، وعلى بعد قريب يقع منزل المدير، والمأمور، والضباط.
ادخلونا إلى أحد العنابر، وهو الذى تقع فيه غرف المسجونين السياسيين، وفى أحد أدواره توجد غرفتان كبيرتان للشيوعيين، أما باقى الغرف فهى للإخوان المسلمين. قبل أن ندخل إلى أى من الغرفتين المخصصتين، سمعنا جلبة كبيرة وصوت أقدام كثيرة تسير فى الفناء، وبعضها يدخل إلى عنبرنا، والباقى يدخل إلى عنابر أخرى. كان صوتاً كهزيم الرعد، أو كهدير الأمواج، أو كصوت القطار وهو يسير فوق القضبان. وعلمنا أن ذلك هو صوت مسجونى الليمان، وهم يعودون من الجبل مكبلين بقيود الحديد من أوساطهم ومن أرجلهم. ثم جنزير طويل من الحديد يسمى "الحجلة" يضفرون فيه صفوفاً طويلة - بطريقة معينة، وكل هذه القيود والسلاسل، الهدف منها الحيلولة دون الهرب، مع إلقاء الرعب فى النفوس. وفيما بعد، كتبت فى إحدى قصائدى، وهى قصيدة "أغنية سجين" -أقول:
أنا هاهنا خلف الحديد وتحت سلطان الحديد
لكن قلبى كالطبيعة لا يقيده القيود
فإذا الربيع بدت بشائره على الوادى الجميل
فأنا هناك، مع الربيع، على الجداول والحقول
روحاً محلقة على الوديان ترقص والسهول
فى نشوة الأمل الكبير..ورعشة الألم الطويل
وفى قليل صعد زملاؤنا مكبلين بالسلاسل والقيود، ومضفورين فى الحجلات، وصعدوا السلالم وأصوات السلاسل تصطك وترتطم،إلى أن وصلوا إلى حيث كنا ننتظرهم واقفين، ثم بدأ السجانه يفكونهم من الحجلات، ويفكون عنهم السلاسل والقيود، وأدخلوهم فى الغرفتين على مجموعتين، وأدخلونا نحن الأربعة مع إحدى المجموعتين.
كانت إحدى المجموعتين، تشمل العدد الأكبر، وهم من تنظيم حدتو، تنظيمنا، فدخلنا معهم، وكانت المجموعة الآخرى أقل عدداً، وهى تنظيم الحزب المصرى، المسمى بحزب الراية، ومعهم عدد قليل من الزملاء من تنظيمات آخرى.
كانوا مرهقين يكسو وجوههم وملابسهم الغبار، غبار الجبل، وغبار الأقدام، وغبار الطريق، فلم نجد الوقت ملائماً لأى حديث معهم. ولم يجدوه هو أيضاً. وتركناهم وقتاً غير قليل، يذهبون إلى دورة المياه. ليغتسلوا ويقضوا حاجتهم، ثم ليغيروا ملابسهم، حتى بدأنا نرى ملامحهم الحقيقية، ونتعرف عليهم من جديد.
كان منهم الرفيق محمد شطا "حميدو"، والرفيق زكى مراد "ناشد"، والرفاق: خليل قاسم، وشريف حتاته وسعد كامل، وأحمد طه، وحليم طوسون، ويوسف مصطفى، وسيد ترك، وألبير آرييه وآلبير أزولاى، وروبيرجرا نسبان، وهنرى كوهين، ويوسف أوزمو، ونسيم نحمياس، وأحمد خضر. وآخرون. أما المجموعة الأخرى فكانت من حزب الراية، منها مصطفى طيبة، ومجدى شاهين، وعويس أحمد، ومجدى فهمى، والفنان وليم إسحاق الشهير بالملك، وآخرون، ومنهم عبد الرحمن أوب عوف ورفاق آخرون من حزب العمال والفلاحين، أو من تنظيمات أخرى.
ما أن استقر المقام بزملائنا فى الغرفة، وقد انتعشوا نوعا ما وبدأوا يلتقطون أنفاسهم، حتى بدأت الأحاديث تدور بيننا وبينهم عن مختلف الموضوعات. عن قضيتنا، وعن سجن القناطر، وعن ظروفهم هم. ثم بدأنا جو المساء والراحة، فأشعلت "اتواتو" وهى مواقد صغيرة تصنع محلياً فى السجن، وتشعل بزيت السولار أو المازوت، المأخوذ من المطبخ أو المغسل، أو الورش، من داخل السجن. وعلى تلك المواقد، أعدوا لنا شاى الضيافة، ثم بدأوا يعدون لوجبة العشاء، وهى الوجبة الرئيسية هناك. كانت عبارة عن طعام السجن، ولكنه محسن بمعرفتهم، وذلك بإضافة نوع من الصلصة، والتوابل، والبصل، بحيث يصبح مذاقة مقبولاً، أكلنا، وشربنا شاياً آخر، وقمنا بتدخين بعض اللفافات، وتحدثنا. ثم أخلدنا إلى النوم، وفى الصباح تأهب زملاؤنا للذهاب إلى الجبل، بنفس النظام، ثم ذهبوا. وبقينا نحن الأربعة فى العنبر، فلم تكن هناك أوامر بشأننا قد صدرت بعد.
لم نمكث طويلاً فى ليمان طرة، بل جاءتنا انباء سارة، وهى أننا لن نلبس الحديد، بل إن زملاءنا أيضاً سيعفون من لبسه، وذلك بناء على تعديلات جديدة قد تمت على لائحة السجون، وهى تقضى بإعفاء المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة من لبس الحديد، بناء على قرارا دولية جديدة فى شأن حقوق الإنسان. وعلمنا أيضاً أن تشغيل السياسيين فى تكسير الصخور فى الجبل أصبح محل بحث فى دوائر حقوق الإنسان. وبات واضحاً أن إقامتنا فى ليمان طره سوف لن تطول.
أسبوعان فقط قضيناهما هناك، ثم جاءت أنباء مؤكدة بأننا سوف نرحل منه إلى جهة أخرى، ولكن كان هناك تكتم على تلك الجهة، فأخذنا نتكهن عنها، دون جدوى.
وفى صباح أحد الأيام، نبه علينا أحد كبار الضباط، وهو العميد عطوه حنفى، بالاستعداد للترحيل فى خلال ساعة، دون أن ينبس لنا ببنت شفة عن الجهة التى سنرحل إليها.
وكان العميد عطوه حنفى بلدياتى من بنى سويف، وكان شخصاً ظريفاً مهزاراً، ولكنه من النوع الحويط. بعد ساعة أخذنا فى طوابير، ونحن مقيدى الأيدى بالكلبشات، ومربوطون فى طوابير طويلة بالحجلات، وصحبنا العميد عطوة إلى ركن بعيد فى الأرض المحيطة بالليمان، إلى محطة للخط الحديدى المخصص لنقل الأحجار التى يتم استخراجها بواسطة المسجونين من الجبل، وهناك وجدنا عدداً من الإخوان المسلمين، المربوطين بالحجلات جالسين على الأرض. وكان هذا العدد يفوق عددنا عدة مرات.
وجاء قطار يجر عدداً من العربات، وتوقف، ووقف عطوة حنفى، هو وعدد من الضباط والجنود، مسلحين وغير مسلحين، وصاح بنا فى مرح:
-تفضلوا يا حضرات. وسأله بعضهم:
-على فين يا عطوة بيه؟ فأجاب بمرح:
-فسحة صغيرة عازمينكم عليها. وعرفنا أنه لن يبوح بالمزيد.
ركبنا فى العربات، الشيوعيون فى عربه، والإخوان فى ثلاثة عربات متتاليات. وكنا ما نزال مقيدى الأيدى كل اثنين معاً، وكل عشرة مربوطون فى حجلة. وما أن دخلنا العربات حتى أوصدت أبوابها بالترابيس، ثم بالأقفال الحديدية. وبدأ القطار يستعد للحركة. ووقف عطوه بيه على رصيف مرتفع، يصيح بنا:
-مع السامة، رحلة سعيدة إن شاء الله.
سار القطار بضعة دقائق، ثم توقف، وظل واقفاً أكثر من ساعتين، ونحن جالسون على أرضية العربة، عطشى، بلا ماء. ثم بدأ القطار يتحرك بعد أن أظلم الجو من حولنا، وكان مقصوداً أن لا تبدأ الرحلة وألا تتم إلا فى ظلام الليل. بعد ساعات سار فيها القطار ونيداً من طريق الجبل فى طره والمعادى إلى صحراء العباسية، وبعد توقف طويل،سار من العباسية إلى خط السكة الحديدية الرئيسى، المتجه إلى محطة القاهرة. وفوجينا بجمع من الناس يقفون على رصيف القطار، فى الطريق المؤدى إلى الوجه القبلى. وما أن شاهدونا من خلال بعض الفتحات الصغيرة، حتى أخذوا يتصايحون وهم يلوحون لنا بالأيدى ويصيحون:
-مع السلامة- يسقط الظلم.
وصاح بعضهم:
-الله أكبر ولله الحمد.
وبادر من فى عربة الشيوعيين بالهتاف:
-تسقط الدكتاتورية العسكرية - عاش كفاح الشعب المصرى - عاش كفاح الطبقة العاملة.
وظهر رجال البوليس يجرون ويصفرون بصافراتهم على الرصيف وهو يصيحون بسائقى القطار:
-إطلع يا اسطى، أطلع، بسرعة.
وتحرك القطار مرة أخرى - إلى محطة الجيزة. ثم توقف، وبدأ الضباط والجنود يفتحون أبواب العربات، ويأمرون المسجونين بالنزول، ونزلنا على رصيف المحطة، ووجدنا على الناحية الثانية من الرصيف قطاراً ثانياً يقف مفتوح الأبواب، وكان  هو قطار الصعيد وقد ألحقت به عدة عربات مخصصة لنقل المسجونين، إذ أن قطارنا كان قطاراً خاصاً لنقل الأحجار والحيوانات.
أمرنا بالركوب فى القطار الآخر، الذى كانت آلاته دائرة، فدخلنا، ودخل الإخوان، تباعاً إلى داخل العربات فى القطار الآخر، دخلنا ونحن نرسف فى الحجلات، وفجأة تحرك القطار وكانت أخر الطوابير قد ركب نصفها فى العربة بينما نصفها الآخر مربوطاً فى الحجلة - ومجروراً على أرض الرصيف، وشاهد بعض الواقفين على الرصيف والأرصفة الأخرى، وبعض النساء المطلات من شرفات المنازل المجاورة، شاهدوا الموقف، فتصايحوا على ساشق القطار ليوقفه، ورفعت النساء عقائرهن بالصوت، إلى أن سمع السائق، وأدرك الموقف. ثم شد فرملة القطار بكل قوته. ولست أدرى كيف نجا الركاب الذين كانوا مجرورين فى الحجلة من الموت المحقق.
وفيما بعد وصف زميلنا صلاح حافظ هذا المقف فى قصته الشهيرة القطار.
وسار بنا القطار نحو الجنوب، فى ظلمة ليل دامس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق