ذكريات شاعر مناضل: 76- موسم الهجرة

76- موسم الهجرة

  بدأت أشعر بآلام فى بعض أسنانى، بدأت خفيفة ثم أخذت تتزايد، طلبت عرضى على طبيب السجن، وكان هو نفسه مفتش الصحة بمدينة الخارجة، وكان يحضر إلى سجن جناح يوماً كل أسبوع، ليفحص المرضى من المسجونين، ويقرر لهم ما يلزمهم من العلاج، وكان طبيباً باطنياً ولا صلة له بطب الأسنان، ذهبت إليه فى مكتب من الصاج مقام بجوار مكتب المأمور ومخصص كعيادة. وكان معى الزميل الدكتور شريف حتاته، ألقى طبيب الصحة نظرة عابرة على أسنانى، وقال إن هناك تسوساً ظاهراً فى بعض الضروس، وأنها تحتاج إلى علاج، وإلى حشو. ثم قال إنه لا يوجد فى الخارجة من يستطيع أن يتولى علاجك، وإنه يتعين نقلك إلى سجن اسيوط ليتم علاجك فى المستشفى الجامعى، لتوافر أطباء الأسنان والمعدات هناك، وأنه سوف يكتب تقريراً بذلك إلى إدارة السجن، وإلى مصلحة السجون لترتيب ترحيلك إلى سجن أسيوط، ولكن ذلك سوف يستغرق بعض الوقت. فما رأيك؟ قلت له:
 -وهل يوجد رأى آخر فى هذا الموضوع؟ قال وهو يضحك:
 -أبداً. لا يوجد. قلت له:
 -إذن على بركة الله.
 كتب الطبيب تقريره، وأرسله إلى مصلحة السجون، وبعد أسبوعين جاء الرد وتم الترتيب للرحلة. كان سيسافر معى إلى أسيوط زميلان آخران للعلاج هناك، الزميل نيكولا غازيس، وهو شيوعى مصرى فى حدتو، من أصل يونانى، وكان يعانى من أكزيما حادة، تسبب له التهابات جلدية مؤلمة، والآخر هو الزميل فوزى جبر، أو صبرى جبر إذ كان يسمى بالأسمين لسبب لا أعرفه، وكان زميلاً لى فى لجنة قسم بولاق أبو العلا بحدتو، وكان فوزى/ صبرى - يعانى من ربو مزمن، يسبب له ضيقاً فى التنفس. وتقرر أن نسافر ثلاثتنا سوياً. وأن يتولى حراستنا ضابط وبعض الجنود، من شرطة الخارجة.
 فى ليلة السفر، أقام لنا الزملاء - بعد العشاء - حفل وداع بسيط، تولى فيه الزميل أوزمو عرضه المفضل، وهو تقليدى، فأبدع وصال وجال، حتى ضج الزملاء بالضحك لمهارته فى التقليد، ثم قدم صلاح حافظ أغنية فى الوداع من أغانى فريد الأطرش، مطلعها:
 -سافر مع السامة - ترجع لنا بالسلامة.
 وفى الصباح الباكر، حضرت سيارة ترحيلات من شرطة الخارجة، وبها الضابط والجنود، للحراسة، وقدم لنا الزميل أحمد خضر - مسئول التغذية، شاياً مبكراً، كما قد لنا سلة بها بعض الأطعمه لنأخذها معنا فى رحلتنا التى كانت سوف تستغرق يوماً كاملاً. كما قدم لنا الزميل عبد الجابر - مسئول الحياة العامة، جنيهين لكل منا. أما الزميل صلاح حافظ، فقد ودعنا بأغنية جميلة كانت شائعة فى ذلك الزمان، يقول مطلعها:
 -يا حمام البر سقف، حوم ورفرف، طير وهفهف، على كتف الحر وقف، والقط الغلة.
 وكان الغناء جميلاً والموقف مؤثراً فتعانقنا مع زملائنا، ثم ركبنا سيارة الترحيلات، وانطلقنا.
 ركبنا قطار الواحات فى الساعة العاشرة صباحاً ونزلنا فى محطة المواصلة فى نجح حمادى فى الساعة الحادية عشر ليلاً. وجاء قطار الصعيد - الإكسبريس - فركبناه فى الساعة الواحدة صباحاً، ونزلنا منه فى أسيوط فى الساعة السابعة من صباح اليوم التالى.
 أوصلنا الحرس إلى حرس أخر من شرطة أسيوط، وإلى سيارة ترحيلات أخرى، أوصلتنا إلى سجن أسيوط حين كان هذا السجن يستقبل يوم عمل جديد. بعد تسجيل بياناتنا، فى مكاتب السجن، أنزلونا فى حجرة صغيرة بالدور الأرضى، بأحد عنابر السجن، ورغم شدة البرد القاسى، إلا أننا أرتمينا على فراشنا - البرش والبطانية، وتغطينا بالبطانية الأخرى، ورحنا فى سبات عميق. صحونا وقت تمام المساء، فتناولنا عشاءنا من اليمك، وخبز السجن، وتنبه علينا، بأننا سنؤخذ إلى المستشفى فى الصباح الباكر.
 فى ذلك الصباح قابلتنا مشكلة سخيفة، أخذونا إلى المغسل لنستبدل ملابسنا بملابس ذات لون آخر، هو اللون الأخضر، لون ملابس السجناء فى سجن أسيوط، بدلاً من اللون الأبيض - لون ملابسنا فى سجن جناح. غير أن الملابس التى قدموها لنا كانت رديئة جداً، ولا تتفق مع أحجامنا، وفضلاً عن ذلك، فقد كانت كلها مغسولة حديثاً ومازالت مبتلة ولم تجف. رفضنا لبس تلك الملابس، وطلبنا أن نبقى بملابسنا، وصمم الشاويش المختص على إلباسنا تلك الملابس، وقال إن هذه أوامر السجن. بعد مشادات كادت تصل إلى شجار، أمر الشاويش بعرضنا على نائب المأمور وذهبنا معه إليه. على باب غرفة المأمور، التى كان بها نائبة، قابلنا شاويش الغرفه بمظاهرة سمجة. إذ أصر على أن نخلع أحذيتنا وندخل حفاة الأقدام، ونبه علينا بأن ندخل الحجرة ونحن نحنى الرءوس، فتلك هى تعليمات السجن. غلى الدم فى عروقى، وصحت به:
 -اسمع يا شاويش، تعليمات السجن دى عندك أنت، إنما إحنا مش هانقلع الجزم، ومش هانطاطى راسنا.
 وزاد هياج الشاويش واح بعبارات التهديد والوعيد، وسمعنا جرساً يخرج من داخل الغرفة، وسمعنا صوتاً رفيعاً أشبه بصوت امرأة يصيح من وراء الباب:
 -إيه ده يا شاويش حماد، إيه الدوشة دى؟
 تركنا الشاويش حماد لشاويش آخر، ودخل إلى الحجرة وسمعناه وهو يشكونا إلى نائب المأمور. ثم عاد، وفتح لنا الباب، وهو يقول:
 -ادخلوا.. بس بأدب.
 ودخلنا - لا بأدب، ولا بقلة أدب. وأبلغنا حضرته برأينا فى ذلك الموقف التعسفى، وقلت له: إننا حضرنا إلى هنا للعلاج، لا لنلبس ملابس مبتلة فى عز الشتاء. ولا لنسير حفاة على الأسفلت، ولا لنحنى رءوسنا لغير الله.
 استمع الضابط، وكان برتبة اليوزباشى، إلى كلامى، وهز رأسه متوعداً، ونظرت إلى وجهه فرأيته أصفر اللون، تشبه ملامحه ملامح ثعبان، ثم فتح فمه فسمعت صوتاً نسائياً، يقول:
 - احنا هنا لينا نظام، واللى ما يعجبوش نظامنا، مالوش عندنا غير ده - قال هذا، ومد يده إلى حزامه الجلد، وسحب منه مسدساً كبير الحجم، من نوع البراوننج، وأشهره فى وجهى، فوجدتنى ابتسم ساخراً وأقول له:
 -طيب اتنفضل. فارتبك ولم يعرف ماذا يقول. وفى هذا الوقت فتح باب الحجرة، ودخل مأمور السجن. وكنت أعرفه، فهو الصاغ محمد صبحى، الذى كان معنا فى سجن جناح منذ بضعة شهور، وكنتا وقتها مندوب الشيوعيين لدى الإدارة، وكنت أقابله كثيراً، ونشأت بينى وبينه علاقة ودية، تقرب من الصداقة، وعرفت أنه قريب لزميلنا الأستاذ محمد أبو الخير المحامى، والعاطف على حدتو. وكان صبحى من أفضل وأجدع الضباط الذين عرفتهم فى السجون.
 ما أن دخل ورأنى، حتى أقبل على يصافحنى بحرارة، ثم سأل نائبه؟
 -خير يا حضرة النائب، خير، فى إيه؟
 ولم يفتح حضرة النائب فمه، إنما تبخر وذاب وهو يضع مسدسه فى جرابه. وأجبت أنا.
 -كل خير يا صبحى بيه، مجرد سؤ تفاهم، وانتهى على خير الحمدلله.
 ذهبنا إلى مستشفى أسيوط الجامعى، وجرى توقيع الكشف الطبى على كل منا فى القسم المختص بحالته، وجرى فحص أسنانى وقيل لى إنى فى حاجة إلى حشو ثلاثة ضروس، وبعض العلاج للثة، وأن ذلك سيستغرق حوالى أسبوعين. وكذلك بدأ تحديد خطة العلاج للزميلين - نيكولاغازيس، فوزى/صبر جبر، وعدنا إلى مقرنا فى سجن أسيوط. وجدنا معاملة ممتازة من كل السجانين والشاويشية والجنود، وقيل لنا فيما بعد، إنه قد راجت إشاعة تقول إن مأمور السجن، الصاغ محمد صبحى، هو قريبى.
 كانت أجواء الحرب ما زالت مسيطرة على كل شئ بالرغم من وقف القتال، وكانت إذاعة راديو السجن، تبث الأناشيد والأغانى الوطنية بصوت مرتفع كل مساء: والله زمان يا سلاحى، الله أكبر فوق كيد المعتدى، دع سمائى محرقة، لنا النصر والموت للمعتدين.. إلخ.
 فى المساء، بعد التمام، فتح علينا باب الزنزانة، ورأيت المأمور - الصاغ محمد صبحى، يطل برأسه من الباب المفتوح، ونادانى، فخرجت إليه فى الممر، فحيانى وسألنى عن أحوالى وأخبار علاجى، فأخبرته بما جرى، فأخذ يتحدث معى حديثاً عادياً، وقبل أن ينصرف، سألنى:
 -عايز حاجه يا محمود، أى حاجة؟
 قلت له ببساطة:
 -أيوه عاوز، حاطلب حاجة بس على حسابى، هادفع ثمنها، وده شرطى.
 قال صبحى مبتسماً:
 -ياه دى لازم حاجة غالية قوى، حاجه ما أقدرش أنا عليها أأمر.
 قلت له:
 -ست بيضات مقلية بالبسطرمة لينا إحنا الثلاثة، فضحك عالياً وقال:
 -حالاً، غالى والطلب رخيص. وانصرف، وكنت أشتهى هذه الأكلة التى لم أتذوقها منذ سنوات، وكانت من أحلامى أيام الإضراب عن الطعام. وبعد نصف ساعة، وجدت باب الزنزانة يفتح، ويدخل منه أحد الشاويشية وهو يحمل صينية من الألومنيوم، بها ست بيضات مقلية بالبسطرمة، وكيس من البرتقال. وحين أردت أن أعطية نقوداً كثمن لهذه الأشياء، أجابنى وهو يهز رأسه بشدة.
 -عيب يا سعادة البية. البية المأمور نبه على ماخداش منك حاجة، وهو إللى حاسب.
 أكلنا البيض بالبسطرمة، وحلينا ببرتقال أسيوطى كالعسل، وكنت أشتهى هذه الأكلة التى لم أتذوقها منذ سنوات، وكانت من أحلامى أيام الإضراب عن الطعام، مرت بضعة أيام ونحن لم نقطع شيئاً يذكر فى برنامج العلاج، وذات مساء، فتح باب الزنزانة، وأطل صبحى من الباب، ونادانى:
 -محمود - وحين خرجت إليه قال:
 -جاءتنى إشارة الآن بترحيلك باكر إلى سجن مصر. مبروك. ثم سألنى:
 -إيه انت زعلان مننا ولا إيه؟
 فأجبته شاكراً:
 -أبداً والله. وأنا لا أعرف شيئاً عن هذا الأمر. على كل حال أنا مش هاقدر أبداً أوفى شكرك على كل حاجة. مين عارف، يمكن نتقابل بعدين فى ظروف أحسن. ولكنى أريد أن أوصيك خيراً بزميلى هذين، نيكولا، وفوزى، وأرجو أن تعتبرهما أخوين لى، وأن تتوصى بهما.
 أجاب الرجل الشهم وهو يشير إلى عينيه:
 -فى عينى يا محمود، اطمئن.
 فى المساء التالى، أخرجونى من السجن فى حراسة ضابط شاب - ملازم أول واثنين من جنود الشرطة، من شرطة أسيوط. وذهبوا بى إلى محطة السكة الحديد. وفى منتصف الليل، ركبنا قطار الصعيد، وجلسنا فى ديوان خاص من دواوين الدرجة الأولى.
 وقام القطار، وسار وهو ينهب الأرض، وأنا مقيد من يدى إلى يد أحد الجنود، ونمنا جميعاً ونحن جلوس. وعندما لاح ضؤ الفجر من وراء نافذة القطار، توقف القطار على إحدى المحطات، وصاح أحدهم:
 -بنى سويف، بنى سويف
 وتنبهت تماماَ، وتيقظت كل حواسى، فهذه بنى سويف، وبعد قليل سيمر القطار على موطنى، زاوية المصلوب، والواسطى، ووجدتنى أتوسل إلى الضابط، وكان اسمه عبد الواحد:
 -يا أخ عبد الواحد، ممكن أطلب منك خدمة؟
 فأجابنى الرجل بشهامة:
 -نعم - تأمر.
 قلت له، بعد أن يقوم الطار من هذه المحطة - بنى سويف - أرجو أن تأمر بفتح شيش هذه النافذة.
 فاستغرب الرجل من الطلب، ولكنه هز رأسه بالموافقة. وأمر أحد الجنديين بفتح الشيش وإغلاق الزجاج - وفى تلك الأثناء دق جرس المحطة، وقام القطار.
 وانتظرت أنا بعض الوقت، إلى أن سمعت صوت القطار وهو يمر فوق كوبرى قشيشة، وعلمت أن الوقت قد حان لرؤية البقعة الحبيبة، فوقفت وأنا أركز كل حواسى صوبها، وكان ضوء الفجر قد تألق بنوره الأزرق.
 وهناك إلى الشرق، بدت له السراية، منزلى الحبيب، واقفة فى الضوء الأزرق البهى، بلونها الأصفر المحبب، تطل على ضفة النيل، تحف بها بعض الأشجار والنخيلات. منزل ذكرياتى، موطن أحبابى.
 ونظرت فرأيت الضابط واقفاً إلى جوارى ينظر هو الأخر نحو البقعة الحبيبة، ويهز رأسه مستفهماً. وقلت له والدموع تطفو من عينى:
 -منزلى - بيتى.
 وفهم الضابط كل شئ، وقال وهو يربت على كتفى بحنان:
 -معهلش يا أستاذ محمود، بكره ترجع له بالسلامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق