ذكريات شاعر مناضل: 43- حدث جميل

43- حدث جميل


بعد انقطاع اتصالى بالتنظيم، توفر لى من الوقت والجهد ما أتاح لى فرصة للتوفر على الدراسة، حتى حل امتحان نهاية العام فى يونية سنة 1949، فاجتزته بنجاح منقولاً إلى السنة الرابعة، والأخيرة، سنة الليسانس. وكانت أحوالى فى العمل منتظمة هى الأخرى، والعلاقات بينى وبين زميلى فارس، ورئيسى حسن صبرى تتوثق، وتتحول إلى علاقة صداقة.
وفى المنزل، كان يوسف قد تسلم عمله من جديد، باللواء السابع -مدافع ماكينة، بعد أن انتهت خدمته بفلسطين بعودة الجيش منها ما عدا قطاع غزة. بعد اتفاق الهدنة. وكانت علاقتى به قد تطورت أكثر وأكثر واكتسبت بعداً كفاحياً بتعاطفه الكبير مع حدتو الذى كان بادياً فى أقواله وأفعاله.
وفى تلك الفترة، من صيف 1949 بدأت أرى سهير وأتعرف إليها أكثر فأكثر، إذ كانت تقضى هى الأخرى أجازتها الصيفية، بعد أن نجحت فى امتحان النقل إلى السنة الثانية الثانوية، بمدرستها، مدرسة الأميرة فريال الثانوية للبنات بمصر الجديدة، التى كانت قد التحقت بها بعد أن نالت الشهادة الابتدائية منذ عام. وكانت تلك المدرسة قريبة من مسكنها فى الفيللا التى كانت تقيم بها مع والدتها (الزوجة الأولى ليوسف)، وأخواتها الثلاثة -محمد، ومحمود، وأحمد. وكان يوسف يقسم وقته بين المنزلين، منزل السيدة توحيدة- والدة سهير، بحلمية الزيتون، ومنزل شقيقتى عليه، بثكنات العباسية. وحين كان يحضر إلى منزل الثكنات، كانت سهير تحضر معه أحياناً، وتقيم هناك أياماً، لتكون مع والدها، ولتمرح فى هذا المكان شبه الخلوى، حيث كانت تستمتع بركوب العجل الذى كانت تهواه. وكنا قد زرعنا بعض أحواض الزهور فى الحديقة الخلفية للمنزل، وخاصة زهور البسلة الجميلة التى كنت أنا أحبها، وكنت أنا الذى توليت زراعتها ورعايتها.
 كذلك كنا زرعنا بعض الأحواض بنبات الفول، الذى سرعان ما نما وأزهر ثم أثمر الكثير من قرون الفول الحراتى، الذى كانت سهير تحب قطفه وأكله فى هذا الحقل الصغير.
كنت أعرف سهير منذ طفولتها، وكانت علاقتنا دائماً علاقة ودية، فقد كنت أنا بمثابة عم لها، وكانت تسمينى: "أبيه محمود"، وكانت هى بمثابة ابنه أخ عزيز لى. وتابعتها وهى تنمو وتتطور، إلى أن بدأت تدخل فى مرحلة الصبا والشباب الباكر، ثم أصبحت طالبة بالمدرسة الثانوية، فحدثت طفرة ملحوظة فى شخصيتها، شكلاً وموضوعاً. كان يعجبنى حياؤها ورقتها، ولطفها وأدبها، كما كانت تعجبنى مخايل الأنوثة البادية عليها، والتى تتم بها نظرات عينيها السوداوين الجميلتين، وأهدابها الطويلة السوداء، وصوتها الخفيض، الغن الخجول، ولاحظت من نظرتها، ومن تصرفاتهان أنها بدأت هى الأخرى، تهتم بى.
فى تلك الفترة، ذهبت إلى مكتبى بالمنطقة ذات صباح، فقابلنى رئيسى الأستاذ حسن صبرى بترحاب ظاهر، وبعد أن جلست، وكان فارس لم يحضر بعد، وجه إلى الأستاذ حسن سؤالاً غريباً: يا أستاذ محمود، ما رأيك فى المثل القائل: إن السماء لا تمطر ذاهباً ولا فضة؟. واستغربت للسؤال، ولكنى أجبته فوراً: مضبوط جداً، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة أبداً. وضحك الأستاذ حسن وقال لى: ولكنها بالنسبة لك ولفارس، ستمطر اليوم ذهباً وفضة. فازدادت دهشتى. وفى تلك الأثناء كان زميلى فارس قد وصل، وأخذ يشترك فى الحديث. وأفصح لنا الأستاذ حسن عن حل اللغز، فأخبرنا بأنه سيصرف لكل منا اليوم -مبلغ لا بأس به من النقود، كمكافأة على اشتراكنا فى المراقبة على امتحانات لدبلوم المعلمين الذى كان قد انعقد بمعرفة المنطقة التعليمية منذ شهور، وكنا قد نسينا أمره.
وبالفعل، فبعد قليل، نزلت أنا وفارس إلى قسم الحسابات، حيث تسلم كل منا شيكاً بعشرين جنيهاً على بنك مصر، المركز الرئيسى. وعدنا إلى المكتب فرحين، فاستقبلنا الأستاذ حسن مسروراً، ثم قال لى: هيه، أمطرت السماء ولا ما أمطرتش؟ -فقلت له وأنا أريه ورقة الشيك: أمطرت، ولكن لا ذهب ولا فضة، بل مجرد ورقة صغيرة فضحك وقال لى: يا أخى أحمد ربنا، هوه لازم ذهب وفضة صحيح، فقلت له: المثل بيقول كده -دهب وفضة، مش حته ورق. ومع ذلك فألف حمد وشكر لله.
ثم استأذنا بعد ذلك لنذهب إلى البنك ونصرف الشيكين، وذهبنا، وصرفنا.
ثم توجه فارس من البنك إلى المعهد العالى للخدمة الاجتماعية، بجاردن سيتى لبعض شأنه، بينما أخذت أنا أتمشى فى شوارع وسط البلد قبل عودتى إلى الثكنات. قادتنى قدماى إلى شارع سليمان باشا (طلعت حرب حاليا)، وأخذت أتفرج على واجهات المحلات. فى فاترينه محل "عكاوى" للمجوهرات، المواجه لسينما مترو، رأيت قلباً ذهبياً صغيراً جميل المنظر والصنع، فوقفت أتأمله، ثم خطر لى خاطر، لماذا لا أشتريه وأقدمه هدية إلى سهير، خاصة وفى جيبى عشورن جنيهاً كاملة، وهو أمر ليس من المنتظر أن يتكرر. ودخلت إلى المحل، واشتريت القلب، ومعه سلسلة ذهبية رفيعة، دفعت فيهما معاً خمسة عشر جنيهاً. ووضعهما لى البائع فى علبة من القطفية الحمراء، ولفهما بلفافة أنيقة، فدسستها فى جيب بنطلونى، وأنا لا أكاد أصدق شيئاً مما حدث.
 حينما وصلت إلى الثكنات، وجدت يوسف جالساً وحده فى الفرانده المطلة على ملعب الكرة فسلمت عليه وجلست، وجاءت سهير من الداخل فسلمت على باسمه، ثم انسحبت وهى تغض الطرف فى حياء. واستأنفنا أنا ويوسف جلستنا المنفردة. ولاحظت أن يوسف قد تابع ابتسامة سهير لى، ونظرة الحياء التى بدت منها عند انصرافنا. وأطرق يوسف قليلاً ثم سألنى: يا واد يا محمود. إيه رأيك فى سهير؟. ولم أفاجأ بالسؤال، بل أحسست بأن يوسف على وشك أن يفاجئنى بأمر هام. وكانت كلمة يا واد يا محمود، هى أقصى ما عند يوسف من كلمات الود. وأجبته: هايله. فتبسم ضاحكاً وقال لى: يعنى عاجباك؟ فقلت له وفراً: جداً. فقال لى: طيب يا سيدى على بركة الله.. مبروك. ثم قال لى: بس أنا عندى شرط واحد.. تكمل تعليمك. فقلت له: بس كده.. حاضر، اعتبرنى كملت تعليمى فعلاً. فقال لى: بس يستحسن تقدم لها أى هدية، حاجة رمزية. فقلت له وأنا أخرج العلبة من جيبى:
حاضر، أتفضل. وقدمت له العلبة، ففتحها، وأخرج القلب الذهبى، وجعل يتأمله فى سرور، وكان واضحاً أنه قد أعجبه. ثم نادى على سهير، جاءت من الداخل، وناولها العلبة والقلب والسلسلة، وقال لها: اتفضلى يا ست، جاتلك هدية. ونظرت سهير إلى القلب وهى تبتسم فى حياء، وقالت: مرسيه. ثم انسحبت إلى الداخل، وعادت بعد قليل وقد ارتدت القلب والسلسلة فى عنقها اللطيف، ونظرت إلى فى سعادة وحياء. ولم تقل شيئاً، ولكن يوسف قال لنا: ألف مبروك.
وكان ذلك الحدث، هو أجمل ما حدث لى منذ ولدتنى أمى، فقد كانت سهير هى نصيبى، وبعد عمين صارت شريكة حياتى، ورفيقتى فى السراء، والضراء، وحين البأس.
...
بعد قليل من الزمن انقلبت حياتى مرة أخرى رأساً على عقب، فقد صدر الأمر بنقل يوسف مع فرقته إلى السودان، وكان هذا يعنى أيضاً قيامه بإخلاء مكسنه بالثكنات، وبعد وقت قصير وجدتنى بلا مأوى، فقد كنت قبل ذلك قد تركت مسكنى ببا اللوق، ولم يعد فى استطاعتى أن أعود إليه.
لجأت فى البداية إلى قريب شاب هو الأستاذ عويس ياسين، وكان يقيم وحده فى شقة صغيرة -غرفة وحمام- فى منطقة دوران شبرا، ولم يكن عنده من الأثاث إلا مرتبه واحدة ووسادة وبطانية، يفرشها على كليم على أرض الحجرة، بالإضافة إلى وابور جاز وبعض المعدات والأوانى للطبخ والطعام. وكان هو يعمل كاتب حسابات فى جمعية تعاونية لبيع اللحوم، وكنت أنا أنام معه على مرتبته ومخدته وبطانيته، وأضع ملابسى وكتبى على أرض الغرفة، أما هو فكانت أشياءه موضوعه على عتبه الشباك الوحيد للغرفة. وحين كان عويس أفندى يعود من العمل، كان يحضر رطلاً من اللحم الكندوز النئ، نقوم أنا وهو بطهيه على وابور الجاز، والتهامه.
وكنت أتوجه إلى عملى بالعباسية بالترام، على مواصلتين، الأولى من دوران شبرا إلى باب الحديد بترام رقم 8، والثانية من باب الحديد إلى العباسية بترام رقم 33. وبعد أن ارتبكت وساءت حالتى المالية، كنت كثيراً ما أوفر إحدى المواصلتين فى طريق العودة، واقطع الطريق من باب الحديد إلى دوارن شبرا سيراً على الأقدام.
وبعد بضعة شهور، آثرت أن أنتقل للإقامة فى غرفة مفروشة بشارع يسمى: شارع قطة، وهو شارع فرعى يصل شارع شبرا بشارع الترعة البولاقية، فى مواجهة سينما دوللى. وكان أولاد الحلال قد دلونى على هذه الغرفة المفروشة بشقة تملكها سيدة لبنانية مسنة، تعمل مولدة قانونية، وتقيم وحدها -مع كلب أبيض كثير الحركة والنباح. ولكن الغرفة كانت مريحة، وبها سرير ومنضدة وكرسى ودولاب صغير للملابس، كما كان حمامها أفضل من حمام عويس أفندى. وبدأت استريح فى ذلك السكن، ولكن أجرته اثقلت ميزاتينى المتواضعة، فضلاً عن اضطرارى لتناول الطعام فى الخارج. فزادت حالتى المالية ارتباكاً، مما أثر على قدرتى على الانتظام فى الدراسة، فلم يصادفنى التوفيق فى الامتحان فى هذا العام أيضاً.
وفى آخر سنة 49 كان إبراهيم عبد الهادى قد استقال -أو أجبر على الاستقالة- بعد أن قدم للملك كل ما عنده من خدمات، ومنها تبيره المحكم لمقتل الشيخ حسن النبا، المرشد العام، ومؤسس، حركة الإخوان المسلمين، وبعد إبراهيم عبد الهادى كلف حسين سرى باشا بتأليف الوزارة، فألفها وزارة محايدة، وكان الهدف من ذلك هو التمهيد لإجراء انتخابات يشارك فيها حزب الوفد، ومعنى ذلك أن وزارة حسين سرى لم تكن إلا وزارة انتقالية تمهيداً لإسناد الوزارة إلى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد، وكان ذلك تحت ضغط الظروف التى أجبرت الملك على انتهاج هذه السايسة بعد أن فشلت كل محاولاته لتفاديها.
وفى تلك الأثناء، كان قد صدر قرار من المنطقة بنقلى منها إلى مدرسة شبرا الثانوية للبنين، لأعمل فيها معاوناً. ولذلك حديث آخر. وقد تم تنفيذ القرار. وقمت باستلام هذا العمل ابتداء من أول العام الدراسى 1949 - 1950.
وقامت وزارة حسين سرى بإجراء الانتخابات فى 3 يناير 1950، وفاز الوفد فيها بأغلبية ساحقة، واضطر الملك إلى تكليف النحاس باشا بتشكيل الوزارة، فألفها وزارة وفدية خالصة، فى 10 يناير 1950.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق