ذكريات شاعر مناضل: 6- أجازة فى القاهرة

6- أجازة فى القاهرة


انتهى العام الدراسى، ودخلنا امتحان نهاية العام، وأبليت فيه بلاءً حسناً، بسهولة ويسر. ونجحنا، أنا ومحمود عمار، ونقلنا إلى السنة الرابعة، السنة النهائية فى المرحلة الابتدائية. وكان للشهادة الابتدائية فى ذلك الزمان أهمية ورهبة، فالحصول عليها يؤدى إلى الحصول على لقب "أفندى" بصور تلقائية ويكتب فى الشهادة نفسها، كما أن الحاصل عليها يمكن إلحاقه بوظيفة حكومية -حتى ولو كانت صغيرة. ومن ثم كان من حقه -اجتماعياً- أن يتزوج ويفتح بيتاً. وكان مرتب الموظف الحاصل على الابتدائية فى ذلك العهد هو ثلاثة جنيهات، وهو مبلغ لا يستهان به حينذاك، ويكفى للزواج وفتح البيت.
فرحنا بالنجاح، وتطلعنا إلى العام القادم، عام الجهاد الأكبر، عام الشهادة الابتدائية.
ولكننى لم أفرح تماماً، إذ شاب فرحتى بعض الحزن، إذ كنت انتظر الذهاب لقضاء الإجازة بقريتى، مع أبى وأسرتى، ومع أصدقاء وزملاء اللعب واللهو، وفى أحضان الطبيعة الريفية التى كنت أعشقها. ولكن فرحتى لم تتم، إذ علمت أنه قد تقرر -أن أبقى فى القاهرة تلك الأجازة الطويلة، حرصاً على مصلحتى، ومنعاً لضياع ما حققته من تقدم فى مستواى الدراسى، خاصة وأن حالة وادلى الصحية ازدادت سوءاً، ولم يعد يستطيع أن يولينىى الاهتمام المطلوب.
تقرر هذا مع وعد بقضاء العطلة القادمة، بعد الحصول على الشهادة الابتدائية، بإجازة سعيدة، وتقبلت هذا القرار بتسليم شأن المضطر إلى الصبر على المكاره.
واستطعت مع الوقت، أن أعوض ما افتقدته من مسرات الأجازة فى "زاوية المصلوب"، بمسرات أخرى بديلة.
فبدلاً من لعب "السروة" أو "أوله سنو" عرفت لعبه الكرة الشراب وبدأت ألعبها مع غيرى من أولاد الحى فى بعض الشوارع الفرعية من حى "بولاق الجديد". كما تعلمت ركوب العجل، وبدأت أركبه، بدءاً بالعجلة ذات الإطارات الثلاثة، فى بعض تلك الشوارع. وبدلاً من السباحة فى الخور المجاور لقريتنا -والمتفرع من نهر النيل، وفى الترع والمساقى المائية، تعلمت اللعب بالطائرات الورقية وإطارتها فوق سطوح عمارتنا. بل وتعلمت صنعها من أعواد البوص، وفروخ الورق القزاز، وخيوط الدوبار، والمواد اللاصقة مثل النشا والصمغ، وأحرزت فى هذه الصناعة تفوقاً مشهوداً.
كما عرفت لعبة "التقصيب" التى يلعبها أولاد أكبر منى سناً، والتى كانوا يلعبونها فى بعض الشوارع الفريعة، على مشهد من الأولاد الآخرين، وكانت عبارة عن منافسة بين ولدين من الأشداء وأقوياء الأجسام وتلعب دائما بجوار فرشة بائع قصب السكر الذى يعرض بضاعته فى ذلك الموقع، وتقوم على التبارى بين اللاعبين فى القدرة على كسر أعواد القصب بضربات من حد الكف، أو ضربها على أوتار أسفل الساق. وتبدأ اللعبة بكسر عود واحد، ثم عودين، فثلاثة. فأربعة .. إلخ. وتؤخذ هذه الأعواد أول بأول من البائع، ويدفع ثمنها من يخسر الرهان فى نهاية اللعب، عندما يتحدد الفائز والخاسر، ويأخذ الأولاد المتفرجون ما يشاءون من أعواد القصب المتكسرة، ليصموها مجاناً. وكانت لهذه المباريات شعبية بين الأولاد، أو البنات والنساء المتفرجات عليها من نوافذ البيوت المجاورة، كما كان لأبطال تلك اللعبة شهرة واسعة على المستوى المحلى.
ولكن تلك الألعاب وغيرها لم تكن هى وحدها التى نشغل بها، إذ كانت هناك مسرات أخرى نقضى فيها أوقات أجازتنا الطويلة.
كانت هناك الرحلات البسيطة التى نقوم بها مع بعض أقراننا من الأولاد. كان هناك الذهاب إلى كوبرى أبو العلا للنزهة عليه وشم هواء النيل العليل، ثم أحياناً للتوغل فى شواطئ النيل وحدائقه الواقعة فى حى الزمالك الهادئ الجميل، مثل حديقة النزهة، وحديقة النهر، وحديقة الأندلس. وفى هذه النزهات كان هناك دائماً بعض ألوان الرياضة، مثل مسابقات الجرى، وألعاب الكرة، ونطة الإنجليز. وفى حديقة النهر كانت هناك بعض الأشجار الوارفة الكبيرة كان بعض الأولاد يتسلقونها، أو يقذفونها بالأحجار، لإسقاط بعض ثمارها، وهى تسمى "بمبوزيا" وأكلها. وقد أكلت منها مرة بعض الحبات، فلم يعجبنى طعمها إذ كانت شديدة الحموضة.
وكانت هناك حديقة الأسماك فى الجزء الجنوبى من حى الزمالك، وكانت فى ذلك الوقت تحفة رائعة ومتعة للناظرين.
وكانت ذروة كل هذا الاستمتاع، هى الذهاب إلى حديقة الحيوان. نأخذ الترام رقم 15 من أمام مسجد "السلطان أبو العلا" المواجه لشارع بولاق الجديد، بشارع فؤاد، وندفع سته مليمات، وننزل منه أمام حديقة الحيوانات، لنستمتع بالفرجة على ما بها من البدائع والغرائب، وباللهو فى أرجائها البديعة، وكنا نستطيع أحياناً أن نقطف بعض ثمار المانجو الناضجة من أشجارها اليانعة المنتثرة فى أرجائها. لنستمتع بأكلها فى مواقع منزوية بعيداً عن أعين الحراس.
أما فى الأمسيات فكثيراً ماكنا نذهب إلى بعض دور السينما، وإلى دور معينة منها، ذات مستوى متقارب من حيث البرامج التى تقدمها، ومن حيث أسعار تذاكرها، وكانت تلك الأسعار متقاربة بينها، فتذكرة الدرجة الثالثة كانت تتراوح بين 11 مليماً وقرش ونصف، وهى التى كنا ندخل فيها فى معظم الأحيان، وكانت تذكرة الدرجة الثانية تتراوح بين القرشين والقرشين والنصف. أما الدرجة الأولى، فلم تكن لنا بها أى صلة.
وكانت أهم وأقرب هذه الدور هى: سينما السبتية الوطنى، بحى السبتية الذى يعتبر جزءاً من حى بولاق. وكانت هناك سينما رمسيس وتقع فى ركن منزو من ميدان العتبة الخضراء. وكذلك سينما أولنبيا الواقعة فى شارع عبد العزيز، عند ملتقاه بميدان العتبة، وشارع محمد على.
وكانت البرامج التى تقدمها هذه الدور متشابهة. فهناك الجريدة الناطقة، ثم حلقة من حلقات ميكى ماوس، ثم حلقة من حلقات المسلسل الأجنبى وهو فى الغالب من أفلام الحركة والمغامرات، ثم بعد ذلك فيلم عربى من الأفلام الكوميدية أو الميلودراما.
وفى الاستراحة يتجول البائعون، بقراطيس اللب، أو زجاجات الكازوزة الرخيصة، أو ما شابه ذلك.
 وفى تلك الآونة ذهبت إلى منزل عمتى "منيرة"، وشقيقتى سعاد المتزوجة من ابن تلك العمة، والذى كان يعمل صيدلياً بالقاهرة، وكان هذا المنزل يقع فى حى الحلمية الجديدة، من شارع محمد على.
وكانت وسائل مواصلاتى إلى كل هذه الأماكن، هى إما ترام رقم 23 من ميدان السبتية، أى من الطرف الشمالى لشارع بولاق، أو ترام رقم 13 من أمام مسجد "السلطان أبو العلا" بشارع فؤاد، أى من الطرف الجنوبى لشارع بولاق أيضاً.
وكان زميلى ورائدى فى كل تلك التحركات، هو محمود عمار، سواء كنت أنا وهو وحدنا، أو ضمن مجموعة أكبر من أبناء الحى.
على أنه فى أواخر هذه الفترة، قد وقع لى حادث غريب. فذات يوم ذهبت -وقت الظهيرة إلى محل شربتلى يقع، بشارع بولاق، على ناصية شارع درب نصر، وطلبت من صاحبة "عبد الرازق" كوباً من شارب "السوبيا" المثلجة، وهو شراب يصنع من حبات الشعير. وقدم لى الرجل كوب السوبيا البيضاء وداخلها قطعة من الثلج. وبدأت أحشو من السوبيا المثلجة بتؤدة وبطء وأنا اتفرج على أوعية المشروبات الزجاجية المختلفة الألوان، وذات الصنابير التى يفرغ الرجل منها المشروبات فى الأكواب. وبينما أنا مستغرق فى ذلك، سمعت صوتاً رقيقاً يسألنى: بتشرب إيه؟
ونظرت إلى جوارى فوجدتها، وعرفتها، كانت "سنجق"، وأجبتها فى ارتباك: باشرب سوبيا. فتوجهت إلى عم عبد الرازق -الشربتلى قائلة: وأنا كمان .. هاتلى سوبيا.
كانت ابنة جيراننا الذين يسكنون فى الطابق الثانى، الواقع تحت شقتنا مباشرة. وكانت تلميذة فى مدرسة "صدق الوفاء الأبتدائية للبنات" ونرى بعضنا البعض، إما فى مدخل المنزل، أو فى الطريق إلى المدرسة فى شارع الواجهة، ولم أكن قد تحدثت إليها أو سمعت صوتها من قبل. كانت فتاة سمراء، رائقة السمار، مليحة، وكانت نشيطة الحركة حلوة النظرات واللفتات كغزالة صغيرة مما كنا نراه فى حديقة الحيوانات.
تناولت كوب السوبيا من يد الشربتلى، ورشفت منها رشفة. أما أنا فتوقفت عن الشرب، ووضعت الكوب على الرخامة أمامى. ونظرت إلى وسألتنى لماذا لا تشرب؟ فأخذت الكوب مرة أخرى وحاولت الشرب، ولكنى عجزت عن الشرب أو البلع، وكدت أعجز حتى عن التنفس. وفجأة وضعت الكوب على الرف الرخامى، وأخرجت المليمين من جيبى، وناولتهما إلى الشربتلى، ثم انصرفت وأنا أكاد أجرى من شدة الارتباك. وكنت قد بلغت وقتها العاشرة من عمرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق