ذكريات شاعر مناضل: 71- أمام الدجوى

71- أمام الدجوى

أدخلنا إلى سجن الاستئناف الواقع فى درب سعادة، خلف مبنى محكمة مصر، وإلى جوار مبنى محافظة القاهرة، وأخذنا إلى حجرة بالدور الثانى من مبنى السجن المكون من عنبر واحد. وهناك استقر بنا المقام، كل على نمرة مكونه من البرش المعتاد، ومرتبة القش.. إلخ. وما أن بدأنا نستقر حتى حضر إلينا رجل كهل قدم نفسه لنا بأنه الأميرالاى محمود عبد المجيد، ضابط الشرطة السابق، والذى كان سجيناً مثلنا على ذمة قضية أخرى، هى قضية مقتل الشيخ حسن البنا، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، والذى كانت الثورة قد ألقت القبض عليه فى بداية عهدها، وتوجيه الاتهام إليه، على سبيل التودد إلى الإخوان المسلمين، عندما كانت العلاقة معهم مازالت فى مرحلة الود والتقارب، ولكن الآن، وقد ساءت العلاقات بين الطرفين، خاصة بعد محاولة اغتيال جمال عبد الناصر، ورغم سبق تقديمه إلى المحاكمة فى تلك القضية، والحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، فإنه يلقى فى هذا السجن أفضل معاملة، فبابه مفتوح باستمرار، وكل طلباته مجابه، وطعامه يأتيه من منزله أو من أرقى المطاعم، بل ويقال إن كبار رجال الدلخلية لا ينقطعون عن زيارته ليلاً والاجتماع به، وأخذ رأيه فى مختلف مشكلات الأمن، وخصوصاً ما يتعلق منها بالإخوان المسلمين.
قال لنا الأميرالاى محمود عبد المجيد إنه حضر إلينا لتحيتنا، لأنه يكن تقديراً وإعجاباً بالشيوعيين، لأنهم رجاله، لا يعترفون على أنفسهم ولا على سواهم، مهما كانت الضغوط التى تقع عليهم، بعكس الإخوان، الذين لا يحتملون أى ضغط يقع عليهم، إذ ينهارون ويبادرون إلى الاعتراف بكل صغيرة وكبيرة. وقال إنه - كرجل أمن - يشبه الأمر بالضغط على أكرة الباب، فإذا وجد الضاغط أن الأكرة تستجيب للضغط، وتلف تحت يده، فإنه يضاعف من قوة ضغطة حتى ينفتح الباب تماماً، وينال الضاغط ما يريد، وهذا هو الحال مع الإخوان وأمثالهم، أما إذا تيقن الضاغط أن الأكرة صلبة قوية، وأنها لا تستجيب لضغطه، فإنه ييأس منها، ويتركها لحالها، وهذا هو الحال مع الشيوعيين، وأمثالهم.
ولم نعلق بشئ على حديث الأميرالاى، بل تفهمنا دافعه إلى هذا القول. وسكتنا، غير أنه فاجأنا بأنه يدعونا اليوم على الغداء فى غرفته، وألح على الدعوة، فوافقنا، بعد قليل، حضر إلينا شاويش الدور وأخبرنا بأن الأميرالاى ينتظرنا على الغداء، فتوجهنا إلى حجرته، وكانت قريبة من حجرتنا، وجدناه قد مد سماطاً كبيراً على أرض حجرته - التى كانت مزودة بسرير ومنضدة وكرسى، وبها جهاز راديو، وصحف ومجلات كثيرة. وكان الغداء مكوناً من كم كبير من الكباب الفاخر، على صينية من صوانى الكبابجية، وأرغفة من الخبز المفقع الطازج، وأطباق عديدة من السلطات والمخللات المتنوعة. وبجوارها علبه كبيرة من الحلويات الشرقية، الكنافة والبقلاوة، والبسبوسة، كان الكرم واضحاً، والإكرام وافراً، فأكلنا، وكنا حديثى عهد بإضراب عن الطعام، دام سبعة عشر يوماً.
وفى الأيام الخمسة التالية، التى قضيناها فى سجن الاستئناف، لم يتخلف الأميرالاى عن دعوتنا إلى الغداء معه، مرة كباباً، ومرة سمكاً مقلياً شهياً، ومرة فسيخاً، ومرة حماماً محشياً أو مشوياً.. إلخ. وأخذنا تصرفاته تلك على مأخذ حسن النية، والرغبة فى اكتساب مودة الشيوعيين، وكفاه كراهية الإخوان له. ولكننا لم ندخل معه فى أى حديث عن قضيته، وهو نفسه لم يشر إليها من قريب أو من بعيد.
كان ذهابنا إلى سجن الاستئناف، بعد حوالى أسبوع واحد من تنفيذ حكم الإعدام فى الإخوان المسلمين السته، الذين حكم عليهم فى قضية الشروع فى اغتيال جمال عبد الناصر. وكانت غرفتنا تطل على غرفة الإعدام الواقعة فى الدور الأرضى من ذلك العنبر. وكان جو الإعدام مازال مخيماً على المكان. وكنا قد قرأنا عنه بعض ما كتب عنه فى بعض الصحف والمجلات. ثم تطوع بعض الأشخاص الذين لقيناهم فى ذلك السجن، ومنهم بعض الجنود والسجانه الذين كانوا يتباهون بأنهم شهدوا الواقعة أو علموا بما دار فيها عن قرب.
وصفوا لنا وصفاً شبه مفصل كيفية إحضار الإخوان السته من غرف المحكوم عليهم بالإعدام، إلى غرفة المشنقة، وكيف واجه كل منهم الموقف. البعض جاء ماشياً متمالكاً لنفسه، والبعض الآخر كان لا يقوى على السير على قدمية، فأحضره السجانه وهم يحملونه أو يسحبونه على الأرض. البعض منهم طلب أن يشرب ماء، والبعض الآخر لم يطلب أو يقبل شيئاً. لم يختلف الرواة فى شأن أى منهم، واتفقوا جميعاً فى روايتهم عن المرحوم عبد القادر عودة، الذى جاء يمى بقوة وثبات، والذى رفض أى شئ، والذى قال بصوت جهورى بعد أن قرأ فاتحة الكتاب، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم صاح وهو يدخل إلى غرفة المشنقة: اللهم أجعل دمى لعنة على رءوس رجال الثورة أجمعين. قال هذا ثم دخل إلى المشنقة وهو يردد: ولست أبالى حين أقتل مسلماً، على أى جنب كان فى الله مصرعى.
وكنت شديد التأثر بهذه الروايات، فقد كنت متعاطفاً مع عبد القادر عودة، منذ رأيته وهو يخطب من شرفة سراى عابدين حيث كان يقف إلى جوار محمد نجيب، أيام استقالته. وكذلك فإننى - كمحام ورجل قانون، كنت أستبعد جداً، أن تكون لعبد القادر عودة، وهو قاض كبير، أى علاقة بالجريمة التى أعدم من أجلها. وكنت اعتقد استناداً إلى الوقائع التى أعلن عنها، أنه ربما كان محمود عبد اللطيف، جانياً فى تهمة الشروع فى القتل، التى أعدم من أجلها، رغم نفى الإخوان ذلك، وربما كان واحداً أو اثنان من باقى المتهمين قد اشترك معه، بالتحريض أو الاتفاق فى اقرافها، أما باقى المتهمين الخمسة، فكان إحساسى أن الحكم عليهم، وإعدامهم، كان أمراً سياسياً بحتاً، لا علاقة به بالحق والعدل والقانون وخاصة وأن الذى كان قد أصدر هذا الحكم، ليس محكمة ولا قضاة بمعنى الكلمة، وإنما كان مجلساً عسكرايً مكوناً من ثلاثة ضباط، كان رئيسة جمال سالم، وعضواه أنور السادات، وحسين الشافعى، وثلاثتهم لم يكونوا من القانون أو القضاء فى شئ.
فى صباح اليوم التالى، أخذنا من سجن الاستئناف، وأدخلنا إلى محكمة جنايات باب الخلق من بابها الخلفى، ثم أدخلنا إلى إحدى قاعات جلسة الجنايات.
كان هناك حشد كبير من رجال الشرطة فى سائر ممرات المحكمة وردهاتها. وفى القاعة وأمامها وجدنا حشداً من الناس يقفون أو يجلسون. فى مقاعد المحامين، كان يجلس الأستاذ أحمد الخواجة، المحامى الشهير، والذى أصبح فيما بعد نقيباً للمحامين لسنوات طويلة، وزميلى الأستاذ أحمد البدينى، المحامى اللامع، والذى كان زميلاً لى فى مدرسة حلوان الثانوية، ثم فى كلية الحقوق، واثنان آخران من المحامين. وكانوا جميعاً يرتدون أرواب المحاماه، كما كان هناك حشد من الصحفيين من مندوبى الصحف المصرية والأجنبية. وكان فى القاعة جمع من أقاربنا ومعارفنا، كانت منهم سهير ومعها ابنتنا ليلى - التى كانت فى الثانية من عمرها، بينما كانت سهير فى أواخر شهور حملها فى أبننا الثانى يوسف، وكان معهما أحد أقربائنا للمساعدة، ثم كانت هناك هدى زكى، زوجة صلاح، ووالده المسن حافظ أفندى، وربما بعض أقارب صلاح الآخرين.
بعد وصولنا، أدخلنا إلى قفص الاتهام، وبعد قليل، حضر أحد الأطباء الضباط، من القوات المسلحة، وقيل لنا إنه جاء لتوقيع الكشف الطبى علينا، والتقرير بصلاحيتنا - طبياً - للمحاكمة، كما يقضى بذلك نظام المحاكمات العسكرية، دخل الرجل، إلى القفص، وأخرج سماعته من حقيبته، وطلب منا فتح ملابسنا حتى الكشف على قلوبنا. وفى دقائق، كشف على قلوبنا نحن الأربعة، وقرر صلاحيتنا للمحاكمة، رغم علمه بأننا كنا فى إضراب طويل عن الطعام منذ أيام قليلة، كما أخبره المحامون.
كان أحمد الخواجة موكلاً للحضور عن عبد الجابر، وأحمد البدينى عن صلاح حافظ، أما أنا، وبدير الناحاس، فلم يكن هناك محامون موكلون عنا، فانتدبت لنا النيابة اثنين من المحامين، من الجدول، وإن كان الخواجة والبدينى، قد أخبرانا، بأنهما سيتولون الدفاع عنا إذا أقضتى الأمر.
جلسنا فى قفص الاتهام على دكة خشبية، وكان المحامون يأتون ليتحدثوا إلينا كلاماً ظاهره الاطمئنان إلى الحكم الذى سوف يصدر فى القضية على نحو مرضى، وباطنه التوجس والقلق، فالدجوى هو الدجوى الذى كانت شهرته فى القسوة والشراسة تسبقة فى كل القضايا التى ينظرها ويحكم فيها. وكان الأهالى يحضرون إلينا ليتكلموا معنا خلال الشباك الحديديه التى تحيط بالقفص. وحضرت سهير وهى تحمل ليلى على ذراعها، بينما كانت بطنها تشى بأنها أصبحت فى آخر وقت الحمل. وكان الكلام ودوداً رغم ما كان يشوب الموقف من القلق، وسررت عندما رأيت ليلى تتعرف على، وترمى لى بقبلة بيدها من وراء الشباك.
ثم جاء الحرس وكتبه الجلسة، فطالبوا كل المتواجدين بالجلوس والهدوء، قائلين بأن الجلسة على وشك أن تبدأ.
فى تلك الدقائق، مر فى خاطرى شريط به كل ما سمعته أو عرفته عن هذا الشخص المسمى الدجوى، وما يتسم به من جهل وغرور وسلاطة لسان، لعلها هى التى أهلته لكى يتولى محاكمة السياسيين ممن تعتبرهم الثورة أعدائها، ومن شراسة فى التعامل معهم، بل ومع المحامين الذين يحضرون للدفاع عنهم، أما الأحكام الذى تصدر منه، فهى فى الواقع تملى عليه من سادته الذين اختاروه لأداء هذا الدور التمثيلى، دون أى جدارة أو استحقاق. وكان قد حكم فى العامين الأخيرين فى عدد من القضايا السياسية، ضد شخصيات بارزة، من رجال الأحزاب السابقين، ومنهم بعض الشيوعيين، فكان يتعمد إهانتهم والإساءة إليهم أثناء المحاكمة، أما الأحكام فكانت دائماً أحكاماً فاضحة. جلست أتأمل كل ذلك، وأنا وزملائى، وليبدأ معنا ممارسة ساديته وسماجته ونرجسيته المعروفه. ووجدت فى نفسى رغبة متصاعده فى أن أتصدى لهذا الشخص بطريقة تبعثر كبرياءه، وتقلب الموقف رأساً على عقب، وتهدم كل ما بناه لنفسه من سمعتة كاذبة، وتتضمن فى نفس الوقت، رسالة جارحة للدكتاتورية العسكرية، التى تسلطة على رقاب العباد.
وبرزت فى ذاكرتى عنه واقعة حديثة، تزيد من رغبتى فى التصدى له احتداماً، إذ من سوء حظه أنه كان قد نشر له منذ أيام حديث صحفى فى مجلة المصور، تحدث فيه عن الشيوعية، فهاجمها بطريقة جاهلة حمقاء، مدعياً أن الشيوعية فى رأيه هى والصهيونية شئ واحد. وها هو الآن، يأتى ليحاكم متهمين بالشيوعية، ليفرغ فيهم كل جهله وحماقته، باعتبارهم فى نظره صهاينة أيضاً، واستقر عزمى على أن هذه فرصة لا تعوض.
دق الحاجب بقدمة على أرضية القاعة وهو يصيح: محكمة!، وارتجفت أركان القاعة، وهب كل من فيها وقوفاً، وفى نفس الوقت، فتح باب غرفة المداولة، ودخل الدجوى، وورائه هيئة مجلسه العسكرى العشرة.
رأيت رجلاً يلبس الزى العسكرى، برتيه ونياشينه ذات الألوان الزاهية، والكاب العسكرى الموشى باللون الأحمر الفاقع، وهو يمشى مختالاً وكأنه الطاووس، مستعرضاً عظمته أمام الأنظار، متئداً حتى يتدفق باقى أعضاء هيئته العسكرية، ليقف هو ومن معه، كل خلف المقعد المخصص له، ثم يجود على من فى القاعة بابتسامة مسرحية، ثم يجلس على مقعد الرياسة المتميز، ويشير لباقى الأعضاء، ثم لجمهور القاعة بالجلوس. فيجلسون.
شعرت أن هذا الرحل أصبح ملكى أنا - فى هذا اليوم. لا مفر. أمر بفتح الجلسة، ثم نادى على المتهمين الأربعة، خلاف، وأنا، وصلاح، وبدير النحاس، نادى علينا متمما على حضورنا. ثم توج إلينا بالحديث بعبارة باهته ظنها ستمر مر الكرام، ولم يقدر أنها ستقلب الموقف على رأسه. قال:
-هل لدى أحد من المتهمين اعتراض على أن أتولى أنا، أو أى أحد من أعضاء هذه الهيئة الموقرة، محاكمته؟
كان قد ردد هذه العبارة فى كل المحاكمات التى تولاها، ولم يترتب عليها أى أثر. ولكن: حدث هذه المرة شئ مختلف.
-وقفت أنا فى داخل القفص بصورة ملفته للأنظار، وصحت بأعلى صوتى:
-نعم - أنا أعترض.
فودئ الرجل وامتقع لونه. ثم تلعثم، وسأل:
-مين؟ فقلت له بصوت قوى:
-أنا محمود توفيق المحامى..المتهم الثانى.
فقال بلهجة ساخرة أراد يسترد بها سيطرته على الموقف:
-إذا كان عندك أسباب للاعتراض، قولها للمحامى بتاعك، وهو يكتب لى بيها مذكرة بعد الجلسة.
وجدت نفسى أصيح فيه:
-لا- من حقى أن أقول أسباب اعتراضى علناً وعلى رءوس الإشهاد، ومن فضلك لا تقاطعنى، خصوصاً أن اعتراضى ينصب عليك أنت شخصياً.
بهت الرجل، وأخذ يهز رأسه فى دهشة، بينما قاعة الجلسة يخيم عليها سكون تام وكأن كل الموجودين قد انقطعت أنفاسهم. واضطر الرجل أن يتظاهر بالثبات. فقال:
-قول اللى عندك، بس باختصار. قلت له بصوت المحامى المدرب.
-اعتراضى عليك، سببه أنك لا تصلح لأن تكون قاضياً. فهناك شرطان أساسيان للصلاحية للقضاء والأول - هو العلم: وأنت شخص جاهل - وخصوصاً بالقانون، وبالسياسة، وهذه قضية سياسية، فليست لك أيه مؤهلات لا قانونية ولا سياسية. وحتى فى الجيش يوجد كثيرون لهم مؤهلات قانونية، نواب أحكام مثلاً، كما يوجد آخرون عرف عنهم الثقافة السياسية، ولست من هؤلاء ولا هؤلاء، فلماذا اختاروك أنت بالذات لتتولى محاكمة السياسيين، مع أنك شخص جاهل؟ السبب هو أنك شخص انتهازى ولا تتوافر لديك النزاهة اللازمة للقاضى، وهذا هو المؤهل الثانى للقضاء. وسأضرب مثلاً على ذلك، فأنت لك حديث فى مجله المصور نشر منذ أيام، تقول فيه: إن الشيوعية والصهيونية شئ واحد، وهذا جهل فاضح، فالشيوعية والصهيونية هما طرفا نقيض. الشويعية فيها مبدأ أساسى هو الأممية، والصهيونية مذهب عنصرى ينادى بتفوق العنصر اليهودى على كل البشر. أنك بجهلك وانعدام نزاهتك، تريد أن تلفت نظر أعداء الشيوعية فى الداخل والخارج، إلى أنك تحت أمرهم وفى خدمتهم، تلك هى أسباب اعتراضى.
رأيت الدجوى وهو يلوح بيديه وكأنه فقد القدرة على النطق أو التنفس، ثم وهو يقف ويهرول خارجاً من القاعة إلى غرفة المداولة، وخلفه باقى أعضاء المجلس. وكان يهرول متجهاً من خلف المنصه نحو غرفة المداولة، وكانت تقع على مسافة ما، وتابعته بالصياح.
-أنت تتظاهر بأنك قاضى، وأنت مجرد ممثل هزلى، والأحاكم جاهزة قبل أن تنظر القضية. فلا داعى لكل هذا التمثيل، وأخرج الأحكام من جيبك. أخرج الأحكام من جيبك. وكان قد وصل إلى غرفة المداولة فدخلها، وخلفه باقى أعضاء المجلس العسكرى الذين كانوا قد لحقوا به. وساد السكون برهة قصيرة.
ثم دبت الحياة فجأة فى القاعة، فوقف كل من فيها، وهو لا يعرفون ماذا يقولون، ثم بدأ المحامون يتكلمون فيما بينهم، أما الصحفيون فقد خرجوا من القاعة مسرعين.
أحسست بأننى أخذت ثأرى مقدماً من الدجوى، ومن الدكتاتورية العسكرية، وأننى بعدالآن لم أعد أبالى بما يفعلونه بى. لقد أرسلت الرسالة، وها هى الرسالة قد وصلت. وصلت إلى الأهالى، ووصلت إلى المحامين، ووصلت إلى الصحافة والصحفيين.
عاد الدجوى إلى الجلسة بعد نصف ساعة، أصفر اللون، زائغ النظرات. وما أن بدأت الجلسة حتى وقف أحمد البدينى - المحامى، فستأذن فى كلمه "لابد منها- وظن الدجوى، أن البدينى سوف يسعى إلى تهدئة الموقف واسترضائه، لإذن له بالكلام، فقال:
-بعد الذى سمعناه من المتهم الثانى- الأستاذ محمود توفيق المحامى - أشعر أن من واجبى أن أتقدم إلى السيد رئيس المجلس برجاء حار، هو أن يتنحى هو بنفسه عن رئاسة المحكمة، وذلك حفظاً لكرامته، وضماناً للعدالة..
وطاش صواب الدجوى مرة أخرى، فأخذ يدق بقبضة يدة على المنصة، ويصيح:
-نعم ياسى أحمد يابدينى، أتنحى؟.. أنا أتنحى، ده بعدكم، انت فاكرنى مش عارف انت مين، وبتقول كده لية، أنا أقدر أدخلك القضية معاهم، أقعد أحسن لك.
وجلس أحمد البدينى وهو لا يعرف ماذا يقول. ونهض أحمد الخواجة، وكان أكبر المحامين سناً وأبرزهم مكانه. وتكلم موجها حديثه للدجوى وهو يحاول إنقاذ البدينى:
-أما أنا فأتوجه إلى سيادة الفريق - رئيس الهيئة، برجاء آخر، هو أن يأخذ كلام زميلى الأستاذ أحمد البدينى على محمل حسن النية. وعذره فى ذلك، أنه أراد أن يؤدى واجبه كمحام. فعذراً يا سيادة الرئيس.
وأصدرت الدجوى قراره بتأجيل الدعوى إلى جلسة باكر، على ألا يحضرها إلا المتهم الأول ومحامية. أما الثلاثة الآخرون، فيحضر كل منهم محامية تباعاً فى الأيام التالية.
فيما بعد- علمت أن الرفاق فى الخارج، قد عرفوا بكل ما دار فى تلك الجلسة، وأنهم أصدروا كتيباً عنها بعنوان "أربعة رفاق يحاكمون الدجوى"، وجرى توزيع هذا الكتاب سراً، ولكن على نطاق واسع.
وفيما بعد ذلك بوقت طويل جدا، بعد ثلاثين سنه، وقعت لى حادثه غريبة جعلتنى استكمل قصة الدجوى معى، أو قصتى مع الدجوى.
ففى أحد الأيام فى عام 1985، كنت أعمل مستشاراً قانونياً بمنظمة التضامن الأفريقى الآسيوى، وأثناء جلوسى مع المرحوم الأستاذ كمال بهاء الدين، وكيل أول وزارة الثقافة. ومساعد رئيس المنظمة المرحوم الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى، دخل عند الأستاذ كمال زائر له، هو المرحوم اللواء نائب أحكام محمد حفنى محمو، ابن المرحوم حفنى باشا محمود، السياسى المعروف ومن وجهاء حزب الأحرار الدستوريين سابقاً، وكان صديقاً لكمال، وجلست معهما فترة ما، ثم استأذنت وانصرفت.
ولكن أخبرنى كمال أنه بعد انصرافى، قال له محمد حفنى إنه يعرفنى. ثم روى له أنه كان عضواً فى المجلس العسكرى الذى كنت أحاكم أمامه والذى كان يرأسه الدجوى. ثم روى له ما حدث ذلك اليوم، وأثناء جلوسة مع أعضاء المجلس، كان فى غاية الغضب والاهتياج، وأنه طلب منه هو - بصفته نائب أحكام، أن يبحث له فى القوانين عن أى نص يجيز له الحكم بالإعدام على "الولد ده"، وشدد عليه فى هذا الطلب.
وقال محمد حفنى إنه عاد يومها إلى منزله، فوجد والده الباشا هناك، ولاحظ والده أنه كان متوتراً مشغول البال، فسأله عن سبب ذلك، فقص عليه القصة، وأخبره أن الدجوى ينتظر منه صباح الغد نتيجة بحثه عن نص فى القوانين يجيز له الحكم على "الولد ده" بالإعدام. وأنه متكدر لذلك. وكا حفنى باشا، رغم أنه من أقطاب حزب الأحرار الدستوريين اليمينى، إلا أنه مشهور عنه ظرفه وثقافته، وميوله التقدمية. وبعد أن سمع القصة قال لنجله: ولا يهمك، قل له إنك دورت طول الليل فى الكتب، مالقتيش نص بالشكل ده. ثم أضاف: ملعون أبوه ابن كلب.
ولا يمكننى أن أهى هذا الحديث عن الدجوى، قبل أن أروى واقعة هامة عنه. فعندما نشبت الحرب يوم 5 يونيو 1976 بيننا وبين إسرائيل، كان الدجوى حاكماً لقطاع غزةة بعد أن رقى إلى رتبة الفريق (طبعاً مقابل خدماته للنظام)، وعلمنا أنه قد وقع أسيراً هو ومن معه من الضباط والجنود فى يد القوات الإسرائيلية. وطنطنت إسرائيل بهذا الأمر وراحت تذيعه وتعلق عليه بما تحبه وتهواه.
وفى مساء يوم 5 يونيو نفسه، أذاع راديو إسرائيل فى إذاعته العربية، تحقيقاً إذاعياً مع الدجوى، جاء فيه:

س: اسمك إيه؟
جـ: اسمى الفريق محمد فؤاد الدجوى.
س: بتشتغل إيه؟
جـ: حاكم قطاع غزة.
س: هل وقعت أسيراً أنت وجنودك وضباطك فى يد القوات الإسرائيلية.
جـ: نعم.
س: ومتى حدث ذلك؟
جـ: اليوم صباحاً.
س: وهل استسلمت من تلقاء نفسك أم وقعت أسيراً فى القتال؟
جـ: لا - استسلمت ومن معى دون قتال.
س: وهل سلمت جميع أسلحتك أنت وقوتك؟
جـ: نعم - سلمناها.
س: وما هى تلك الأسلحة التى قمتم بتسليمها؟
جـ: هى.. (وهنا بدأ الدجوى يقرأ من قائمة سلمها له المذيع، تحتوى بياناً بأنواع وكميات الأسلحة التى قام هو ورجاله بتسليمها للعدو طواعية ودون قتال. وكانت أسلحة هائلة النوع والعددد. دبابات، وعربات مدرعة، ومدافع رشاشة من مختلف الأنواع، ثم أسلحة صغيرة، رشاشات، وبنادق، ومسدسات، ثم قنابل يديوة وذخائر مختلفه. كل ذلك بكميات وإعداد هائلة. وكلها من صنع روسى وتشيكى، ومن أحدث الأنواع.
وتروى لى سهير أنها كانت تجلس مع والدها - يوسف صديق- وهو يستمع إلى الإذاعة الإسرائيلية، إلى أن أنتهى كلام الدجوى، فقام يوسف صديق من مكانه وصاح وهو يشد شعره:
-كل هذه الترسانه من الأسلحة مع الدجوى وهو يستسلم ويسلمها للعدو دون قتال، ثم يضيف، لا عجب فى ذلك، فالذى يفعل مع المصريين فى وقت السلم ما عرفناه عنه، لا ينتظر منه أن يفعل غير هذا مع العدو فى وقت الحرب!
ولكن القصة لا تنتهى عند هذا الحد، إذ علم الناس جميعاً أن الفريق الدجوى، بعد إبرام الهدنة، أفرج عنه ضمن من أفرج عنهم من الأسرى، وأعيد إلى عمله بالقوات المسلحة، ثم قام بعد ذلك برئاسة مجالس عسكرية حاكمت العديد من المصريين.. فتأمل!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق