ذكريات شاعر مناضل: 44- عام الحريق

44- عام الحريق


فى يناير 1950 كان النحاس قد شكل وزارته الوفدية، إثر فوز الوفد فوزاً ساحقاً فى الانتخابات التى أجريت فى 1950/1/3، واضطرار الملك إلى تكليفه بتشكيل الوزارة بعد أن فشلت كل محاولاته لإبعاده عن الحكم. وعمت الفرحة أغلبية الشعب بعودة الوفد إلى الحكم.
وبدأ الوفد أعماله بالإفراج عن المعتقلين، بما فيهم أغلبية الشيوعيين المعتقلين فى العهد السابق، ففرحنا بذلك وبدأنا نستقبل رفاقنا الغائبين وراء القضبان، وبدأت بشائر مرحلة جديدة من الانفراج الديموقراطى، وما يعنيه ذلك من انعكاسات على نشاطنا السياسى والتنظيمى.
كما بدأ الوفد فى سن التشريعات وإصدار القرارات لتحقيق الإصلاحات الاجتماعية التى كان يبدأ بها عهوده فى الحكم، ومن ذلك قيامه بإصدار قانون بإنشاء ديوان للموظفين لحمايتهم من الفصل الإدارى، كما أصدر قانوناً يتضمن تعديل مرتبات صغار الموظفين، ورفعها، وقد استفدت من ذلك فارتفع مرتبى ثلاثة جنيهات مرة واحدة، وكان ذلك أمراً سارا.
وسرعان ما بدأ اتصالى التنظيمى يعود وينتظم، وأصبحت عضواً فى لجنة قسم حى شبرا، كما أصبحت عضواً فى مكتب الدعاية المركزى، وحدث لى بعد ذلك تطوران هامان فى حياتى:
الأول أننى نقلت من العمل بقسم المستخدمين بالمنطقة التعليمية الشمالية، إلى وظيفة معاون بمدرسة شبرا الثانوية، وكان ذلك يعتبر بمثابة ترقية لى، وقمت بتنفيذ هذا النقل، واستلام عملى الجديد، قبل العام الدراسى فى أكتوبر سنة 1950. والثانى: أننى انتقلت مرة أخرى للإقامة مع شقيقتى "بهيجة" وزوجها، فى مسكن جديد اتخذاه فى حى السبتية. وكانت مزايا ذلك عديدة، منها عودتى إلى مجال العناية والرعاية التى كانت بهيجة تشملنى بها كلما احتجت إليها، ومنها ان مكان سكنى الجديد، كان قريباً جداً من مكان عملى الجديد بمدرسة شبرا الثانوية، حيث كانت السبتية على قيد مسافة قصيرة من خط ترام 13 الذى يحملنى إلى المدرسة من بوابتها الخلفية التى تطل على جهة روض الفرج.
وهكذا جاءتنى ثلاثة أسباب للراحة والسرور فى وقت واحد تقريباً، راحة بسبب انفراج الوضع السياسى، وانعكاس ذلك على علاقتى بالتنظيم، وراحة معيشية لإقامتى مع شقيقتى بهيجة، التى كانت هى الراعى الأكثر حناناً على من كل إنسان آخر، وفضلاً عن ذلك، فقد كان قرب محل سكنى من محل عملى، أمراً مريحاً لى هو الآخر.
كنت قد توجهت بعد صدور قرار النقل إلى مدرسة شبرا الثانوية، وقدمت نفسى إلى ناظرها، الدكتور عاطف البرقوقى، وكانت مقابلتى له بداية سارة لعملى الجديد. سررت برؤياه، فقد تذكرت فيه فصيلة نظار الثانوية العظماء الذين عرفتهم من قبل، الدكتور أحمد رياض، الدكتور أحمد البدرى، الدكتور سامى عاشور، مع فارق أساسى فى نوع علاقتى به، وهى علاقة أقرب إلى علاقة زمالة، منها إلى علاقة التلميذ باستاذه، التى كانت بينى وبين أولئك النظار. وكان عاطف البرقوقى حاصلاً على شهادة الماجستير فى العلوم من جامعة لندن، وكان مظهره لطيفاً، وأقرب إلى الشباب منه إلى الكهولة، وكان مظهره الشاب ينبع من ابتسامته الدائمة، التى كانت تنبع من داخله، ولا تأتى افتعالاً من أى عامل خارجى، ولذلك فقد كانت ابتسامته طبيعية ودائمة.
رحب بى الرجل بمودة، وقال لى: علمت أنك طالب بالجامعة أيضاً، بأيه كلية؟ قلت له: بالحقوق، فهز رأسه بارتياح ثم سأل: فى أيه سنة؟ فأجبته: فى الليسانس. فأجاب مشجعاً: عظيم، واضاف: ستجد منى كل مساعدة لك على اجتياز هذه السنة الباقية من سنوات دراستك. اعتبرنى موافقاً على خروجك إلى الكلية فى الأوقات الضرورية لحضور المحاضرات والسكاشن المهمة، بشرطين: الأول أن يكون ذلك فى حدود الضرورة، وهذا أمر متروك لتقديرك أنت، والثانى: هو أن نفرح بنجاحك فى نهاية العام. فما رأيك؟ قلت له وأنا أكاد أطير من السعادة: لا أتمنى أكثر من ذلك. وقال لى وهو ينهض لمصافحتى: تفضل واستلم عملك، وأنا واثق أنك ستكون خير معاون لنا. فقلت له بحماس: سوف ترى سعادتك، أننى لا أنسى المعروف.
وكان فى المدرسة اثنان آخران من المعاونين، الأستاذ خليل الشاهد، وكان رجلاً كهلاً أشيب الرأس والحاجبين، ولكنه ضحوك مهزار لطيف المعشر، لولا أنه ثرثار كثير الكلام، والأستاذ سمعان فرج المشاط، وكان شخصاً فى آخر الشباب، هادئاً رزيناً حلو اللسان. وكانت مهام عملنا هى مساعدة إدارة المدرسة فى الأعمال الإدارية، الإشراف على أعمال النظافة والصيانة، وعلى الفراشين، وعلى أعمال الحراسة والتغذية.. إلخ. وكانت مدرسة شبرا الثانوية كسابق عهدى بها منذ أيام دراستى بها فى سنة 1937 - 1938، ثم فى 1943 - 1944، ولكن القسم الداخلى بها كان قد ألغى مرة أخرى منذ سنوات. وقد تم توزيع العمل بينى وبين المعاونين الآخرين، بالاتفاق والتراضى، وأبدى كلاهما استعداداً طيباً لتخفيف الأعباء عنى وتسهيل أمر ذهابى إلى الكلية كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وتعويضاً لذلك فقد كنت أؤدى واجبات عملى باتقان وحماس، كانا محل تقدير من الناظر، وسائر الوكلاء والمدرسين بالمدرسة، وكانوا جميعاً يعملون كأسرة واحدة تحت قيادة الناظر المبتسم دائماً.
مرت شهور ذلك العام الدراسى، سريعة وبسهولة ويسر، وكللت جهودى بالنجاح، فى الامتحان النهائى، وفى يوليو 1951 نلت شهادة الليسانس أخيراً، كفارة، كما ياقل للمسجون حين يتم الإفراج عنه.
وكنا فى العطلة الصيفية، والدراسة معطلة، ولكن الدكتور عاطف البرقوقى حضر إلى المدرسة خصيصاً لتهنئتى بالنجاح، وأخبرنى بأنه سيصدر قراراً بانتدابى لأحل محله فى تصريف أعمال المدرسة خلال عطلته السنوية هذا العام. وقد كان، كما تلقيت تهانى كثيرة من سائر الوكلاء والأساتذة الذين كانوا يحضرون إلى المدرسة لأى سبب أثناء العطلة، وكذلك من سائر الفراشين بالمدرسة. وبالطبع من زميلى المعاونين.
وحدث بعد ذلك بقليل، أن قابلت الزميل مبارك عبده فضل فى مقابلة تنظيمية، فأبلغنى بأن هناك لجنة للوحدة بين حدتو، وبين منظمة نحشم، وأنها تضم مبارك، وسيد سليمان رفاعى من جانب حدتو، وزكى مراد وأحمد الرفاعى من جانب نحشم، وأن اللجنة تحتاج إلى مكان تعقد فيه اجتماعاتها، وسألنى عما إذا كان فى وسعى تدبير هذا المكان لاجتماعات اللجنة، فأخذته إلى مدرسة شبرا الثانوية، وأريته المدرسة، وأريته مكتبى فيها، وسألته: هلى يكفى هذا المكان لأداء المهمة المطلوبة، فضحك وقال: ويكفى لإقامة مؤتمر عام للحزب. وبالفعل، صدر قرار من قيادة حدتو، وافق عليه زملاء نحشم أيضاً، بضمى إلى لجنة حدتو، وعقد اجتماعاً بمكتبى، وقد كان. والواقع أن مهمة تلك اللجنة كانت سهلة، فقد كنا جميعاً -من الطرفين- زملاء وإخوه. واجتمعت اللجنة حوالى سبعة مرات لمناقشة مقومات الوحدة، البرنامج، والخط السياسى، واللائحة. وكان يحضر تلك الاجتماعات أيضاً الرفيق عبد الخالق محجوب، السكرتير العام للحزب الشيوعى السودانى وقتها. والذى كان وجوده عاملاً فعالاً فى التوفيق بين وجهتى نظر الطرفين، على الطريقة السودانية، فالواقع أنه كان أيضاً -أخاً وزميلاً لكل أفراد الطرفين. وفيما بعد، كان كلما لقيته فى مصر، أو فى السودان، يذكرنى بلقاءاتنا فى مدرسة شبرا الثانوية.
وفى تلك الفترة صدر لى تكليف تنظيمى بالعمل فى حركة أنصار السلام، مع الزميل كمال عبد الحليم، تم إلحاقى بمجلة الكاتب لسان حال أنصار السلام، وكان مقرها بأرض شريف بشارع عبد العزيز وكان يرأس تحريرها الزميل سعد كامل، ويعمل بها عدد كبير من الزملاء من أعضاء حدتو، أو من العاطفين عليها. كان منهم: لطفى الخولى، حسن فؤاد، عبد المنعم سعودى، فتحى خليل، ومجموعة من الفنانين التشكيليين، وقد نشرت لى عدة قصائد عن السلام بالمجلة فى تلك الفترة، كما كلفت بإجراء حوارات مع عدد من الشخصيات الهامة حول قضية السلام.
أول حديث أجريته، كان مع الكاتب والشاعر الكبير، الدكتور "أو الدكاترة" زكى مبارك، وكنت قد اتصلت به تليفونياً فحدد لى موعداً للقاء فى بار توفيق، فى ميدان التوفيقية، وهو مقهى وبار صغير جداً يقع فى الميدان. وحين ذهبت فى الموعد، وجدت الدكتور زكى مبارك جالساً وحده على مائدة صغيرة داخل البار، وبعد التحية، جلست على مقعد مواجه لمقعده، ثم بادرنى بالقول: قبل أى كلام، أدعوك لأن تشرب معى كأساً على حسابى، وإلا لن افتح فمى بكلمة. ووافقت، فأشار للجرسون، فأحضر لى كأساً من البراندى، شربته ثم أخرجت قلمى، وأوراقى، وبدأت العمل، ولدهشتى كان كل حديثه معى شعراً لمدة ساعة كاملة، لم ينقطع فيها عن الكلام شعراً، ولم أنقطع أنا عن الكتابة:
تكلم عن موضوع السلام وجماله وجلاله، وهاجم الاستعمار البريطانى هجوماً ضارياً، أذكر منه قوله: تشرشل كاذب فى كل قول.. أيصدق ذلك اللص العجوز؟
صال الدكتور زكى وجال، وتناول كل ما يخطر وما لا يخطر على البال من الموضوعات التى تتصل بقضية السلام، وبالقضية الوطنية. وكتبت، وكتبت، إلى أن امتلأت أوراقى، وفرغ مداد قلمى ثم انصرفت فى ساعة متأخرة من المساء، وعكفت على عشرات الفروخ من الورق التى كتبتها، فاستخلصت منها ما يكفى لصفحة كاملة من المجلة، وأعدت ترتيبها وتركيبها، ودفعتها إلى المجلة فى اليوم التالى، فاحتفت بها ونشرتها مع صورة كبيرة للدكتور زكى مبارك: نصير السلام.
 أجريت حديثاً آخر مع الدكتورة درية شفيق، رئيسة جمعية بنت النيل ورئيسة تحرير مجلتها، وكان حديثاً جيداً عن أهمية السلام بالنسبة للمرأة، وكانت هى سيدة راقية ومهذبة، ومثقفة عالية الثقافة.
حاولت أن أجرى حديثاً مع الدكتور محمد حسين هيكل باشا الأديب الكبير، والسياسى الشهير، واتصلت به تليفونياً لأحدد الموعد، ولكنه ما أن سمع كلمة "السلام"، حتى بادرنى بالشتم، ثم أقفل التليفون فى وجهى.
دعيت أيضاً للمشاركة فى الاجتماع التأسيسى للجنة الكتاب والفنانين أنصار السلام، الذى عقد برئاسة يوسف حلمى، فى منزل الفنانة أمنية نور الدين بالزمالك، وحضره دد كبير من الأدباء والفنانين من أنصار السلام. وكان اجتماعاً حافلاً حاشداً، يعبر عن مدى الأهمية التى حققتها حركة السلام.
كانت حكومة الوفد قد بدأت المفاوضات مع بريطانيا -بعد بداية عهدها بشهور قليلة، فى أبريل سمة 1950، وكان يرأس وفد المفاوضات البريطانى المارشال "سليم" رئيس هيئة أركان حرب الجيش البريطانى، الذى كان يحضر إلى القاهرة كثيراً فى ذلك الوقت. وعمدت بريطانيا إلى ألاعيبها المعتادة لإفشال تلك المفاوضات، إلى أن أدلى المستر موريسون -وزير الخارجية البريطانى الذى كان قد حل محل المستر بيفن بعد وفاته، بتصريح قرر فيه بأنه لن يكون هناك جلاء عن مصر، ورد وزير خارجية مصر وقتها -الدكتور محمد صلاح الدين على ذلك بإعلانه فى مجلس النواب المصرى، بأن مصر لن تستمر فى المففوضات مع بريطانيا. وتوالت التداعيات، حتى وقف النحاس باشا فى 1951/ 10/8 فى مجلس النواب قائلاً: من أجل مصر وقعت معاهدة 1936، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها.
وأصدر النحاس باشا -رئيس الوزارة- وثائق إلغاء المعاهدة، واضطر الملك -بناء على نصيحة بعض مستشارية- إلى توقيعها، مخافة أن يستغل الوفد عدم توقيع الملك لها، فى إثارة الشعور الوطنى ضده. وأصدرت الحكومة تشريعات تجرم التعاون مع قوات الاحتلال، وقام العمال بترك العمل بمعسكرات الجيش الإنجليزى، فاتخذت الحكومة إجراءات عاجلة لإلحاقهم بالعمل بالجهات الحكومية المختلفة. وكان من نصيب مدرسة شبرا الثانوية ثلاثة من عمال النظافة الذين ألحقوا بالعمل بها، بنفس أعمالهم ونفس مرتباتهم.
وفى نفس الوقت قامت بعض الهيئات الحزبية بإقامة معسكرات لتدريب الفدائيين من أعضائها على الأعمال الفدائية، كما أقيم بالجامعة معسكر لتدريب الطلاب على تلك الأعمال، وذلك بتأييد من الحكومة ومساعدتها، وبالفعل بدأ الفدائيون نشاطهم الحربى ضد القوات والمعسكرات البريطانية، فى مدرية الشرقية، وفى محافظات القنال، وكان منهم فدائيون من الحركة الديموقراطية كان المسئول عنهم هو الزميل: ضياء الدين بدر، والزميل سيف صادق وآخرون.
وآخذت حكومة الوفد تجرى اتصالات مع حكومات: الاتحاد السوفييتى، وتشيكو سلوفاكيا، ويوغوسلافيا، بهدف شراء أسلحة منها لتسليح الجيش المصرى، لكى يكون قادراً على القتال ضد بريطانيا.
وفى المقابل، أخذت بريطانيا تصعد أعمالها ضد الفدائيين فى القنال، فارتكبت مجزرة فى قرية كفر أحمد عبده بالإسماعيلية دمرت فيها القرية بسكانها، بسبب إيوائها ومساعدتها للفداشيين. وفى يوم 25 يناير 1952 ارتكبت مجزرة كبرى ضد قوات بلوكات نظام الشرطة الذين كانوا متجمعين فى مبنى محافظة الإسماعيلية، حيث جرت معركة قاوم فيها الضباط والجنود المصريون، المسلحون بالأسلحة الصغيرة، قوات بريطانية مسلحة بالسلاح الثقيل، بالدبابات والمدفعية، ويفوق عددها عددهم بأضعاف مضاعفة، وأسفرت تلك المعركة عن مصرع 70 جندياً مصرياً، مقابل 40 من قوات بريطانيا، ولم يلق الجنود المصريون سلاحهم إلا بعد أن نفذت ذخيرتهم بأكملها.
وعندما ذاعت أخبار هذه المذبحة، هاجت جموع الشعب المصرى فى القاهرة فى اليوم التالى، يوم 26 يناير 1952، وسارت المظاهرات الغاضبة تجتاح شوارع العاصمة، إلى أن تحولت إلى أعمال التدمير والتخريب، وإشعال الحرائق فى كثير من المحال التجارية ودور السينما، والملاهى، والفنادق، وبالطبع انتشرت أعمال النهب والسلب، من جانب عصابات من اللصوص وقطاع الطرق، التى انشقت عنها الشوارع، والقادمة من العشوئيات والمناطق الفقيرة. ووقف البوليس عاجزاً عن إيقاف الكارثة، فلم تتوقف تلك الأعمال إلا فى المساء، بعد أن نزلت قوات الجيش إلى الشوارع، وبدأت فى مطاردة اللصوص والجناة، واستخدمت فى ذلك الرصاص الحى، الذى لم يتوقف أزيره إلا حوالى منتصف الليل، وكنا فى مدرسة شبرا الثانوية، نتابع أحداث الكارثة بالسماع ممن يدخلون إلى المدرسة من الأشخاص، ومن أعمدة الدخان التى كانت تعلو من وسط القاهرة.
وحار الجميع فى معرفة الفاعل الحقيقى، المنظم والمدبر لتلك الجريمة. وأذكر أننى فى اليوم التالى، 27 يناير، وكانت الأحكام العرفية قد أعلنت ليلاً وأذيع ذلك من الإذاعة فى نشرات الأخبار، أذكر أننى تقابلت فى فناء المدرسة مع الناظر -الدكتور عاطف البرقوقى، وكان حائراً هو الأخر فى تفسير ما حدث، وفوجئت به يسألنى: يا أستاذ محمود، كيف تفسر ما حدث؟ وبعد قليل من التفكير أجبته: الذى يدبر الجريمة، هو المستفيد منها. والهدف بدأ يتضح، بإعلان الأحكام العرفية، ولا شك أن الحكومة سوف تسقط فوراً، فمن المستفيد من كل ذلك؟ لم يسألنى الرجل بعد ذلك عن شئ، ولكنه هز رأسه موافقاً على قولى.
وبالفعل، ففى المساء، أعلن خبر إقالة حكومة الوفد، وتعيين على ماهر باشا، رئيساً للوزراء، وقد صيغ قرار الإقالة، بنفس الصيغة المهينة التى تعودت السراى أن توجهها إلى وزارات الوفد عند إقالتها.
وكان الدكتور عاطف البرقوقى قد شاهدنى قبل مدة، وأنا أضع شارة حركة السلام -حمامة السام- فى عروة جاكتتى، فنظر إليها ثم سألنى: ما هذا؟ فقلت له: حمامة بيكاسو، رمز السلام، فنظر إليها مبتسماً ثم قال: حلوه.
...
كان أول ما فعله على ماهر باشا، عندما تولى الوزارة، أن اتصل بالإنجليز، وطلب منهم -كشرط لتهدئة الأوضاع، واستعادة الأمن والاستقرار، أن يقضوا على الفدائيين فى منطقة القنال. ولم يكن الإنجليز فى انتظار هذا القول، فقد جرت عملية القتل والاعتقال للفدائيين على قدم وساق، وبدأت بريطانيا تأخذ راحتها فى مصر.
فى نفس الوقت كانت قوات الأمن المصرية تنزل بكل ثقتها على الجيوب المدنية لحركة النضال الوطنى، وفى مقدمتها الشيوعيون، والقوى الأخرى المعادية للاستعمار. وعادت السجون والمعتقلات، لتفتح أبوابها من جديد لكل المناضلين. وبدأت بذلك مرحلة جديدة من مراحل القمع والإرهاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق