ذكريات شاعر مناضل: 31- على أبواب عالم جديد

31- على أبواب عالم جديد


بعد أحداث 21 فبراير 1946 الدامية، استمرت مصر تدور فى دوامة من العنف تمثل فى استمرار الإضرابات والمظاهرات فى كل مكان وفى كل وقت، كما تمثل فى أعمال القمع والإرهاب الحكومى لكافة قوى المعارضة، وخاصة للعمال والفلاحين.
وتمثلت هذه التحركات الشعبية أكثر ما تمثلت فى الآتى:
-إضراب شامل فى منطقة شبرا الخيمة الصناعية أدى إلى شلل الإنتاج شللاً تاماً.
-مظاهرات عمالية فى المحلة الكبرى تنظيم عشرين ألف عامل، قام البوليس بقمعها بالقوة، وسقوط الكثيرين بين قتيل وجريح فيها.
-إضراب لكونستبلات البوليس، وقيام بعضهم بتوزيع منشورات يسارية متطرفة فى شوارع القاهرة ومدن أخرى.
-القبض على عدد من ضباط وصولات الجيش بتهمة الانتماء إلى تنظيم ثورى متطرف، والتدبير لاغتيالات تشمل النقراشى وصدقى، ومكرم عبيد والفريق إبراهيم عطا الله، وتضم 15 ضابطاً و 4 صولات منهم الصاغ رشاد مهنا والصاغ أحمد يوسف حبيب والصاغ أحمد فؤاد، واليوزباشى عبد المنعم عبد الرءوف.
وعدا هذا فقد بدأت سلسلة من أعمال العنف تمثلت فى إلقاء القنابل والمتفجرات فى ظلام الليل، وخاصة فى بعض الأحياء التجارية. والأحياء الراقية، وفى بعض الكباريهات ودور اللهو.
وبدا للجميع، إن البلاد باتت على فوهة بركان، وأنها مهددة بالإنفجار. شكا إسماعيل صدقى للورد ستانسجيت، وزير الطيران البريطانى وعضو هيئة المفاوضات البريطانية عند حضوره إلى مصر فى 19 أبريل 1946 فى إطار الاتصالات التى كانت تجرى بين صدقى وبينهم تمهيداً لإجراء المفاوضات شكا له قائلاً:
-إن البلاد فى حالة غليان فكرى، وإذا كان هذا الغليان لم ينتقل إلى حالة من العنف، فالفضل فى ذلك للإجراءات والتدابير التى تتخذها الحكومة.
كما شكا له من:
-إن فى البلاد الآن هئيات متعددة ومتنوعة فى حالة تحفز، ومن هذه الهيئات ما هو سياسى، ومنها ما هو لطوائف صاخبة كالطلبة والعمال .. ومنها الهيئات السرية للشيوعيين وغير الشيوعيين.. وكل هذا يهدد بالإنفجار إذا لم تجب مطالب البلاد.
-ورغم الرفض المطلق من جانب الشعب لإدخال البلاد فى حلقة مفرغة جديدة من الخداع والتضليل باسم المفاوضات، فإن الحكومة لم تدخروسعاً فى سبيل الدخول فى هذه الدوامة الخادعة، وفى سبيل الاتفاق مع بريطانيا على بدء محادثات تمهيدية، تمهيداً للمفاوضات.. إلخ. وكان اللورد ستانسجيت وزير الطيران البريطانى وعضو الهيئة البريطانية التى تشكلت للقيام بهذه المفاوضات برئاسة المستر بيفن، وزير الخارجية البريطانى، كان ستانسجيت قد حضر إلى القاهرة يوم 19 إبريل 1946 لهذا الغرض، وسارت تلك المحادثات فى طريقها الحلزونى المعروف، بين تصريحات متفائلة من جانب صدقى، وبين تكذيبات من جانب الإنجليز، لإبقاء الوضع فى حالة الغموض إلى ما شاء الله.
إن أعظم ما أعطاه الله للإنسان هو الوقت، وأكبر خسارة تلحق بالإنسان، وبالشعوب، هى إضاعة الوقت وتبديده دون جدوى، ومن ثم تفويت الفرصة على الفرد والشعوب لإنجاز ما يقيم الأود ويؤمن الرقى والتقدم للفرد وللجماعة. ولذلك فإن أسوأ ما يلحقه المضللون والأعداء والخونة بالشعوب من خسائر، هو إضاعة وقتها بلا طائل.
ورغم انشغالنا واهتمامنا اليومى بالشأن العام، وحرصنا على المشاركة فى الأعمال النضالية، فقد كنا نعرف أن العام الدراسى يقترب من نهايته، فبدأنا فى نفس الوقت نستعد للامتحانات.
ومن جانبى، فقد كانت لدى الكتب (الملازم) فى كل المواد، وكنت قد بدأت استساغة القراءة فى كتب القانون، بل والاستمتاع بها، على ما سبق بيانه. فكنت أقبل على تلك القراءة، ولا أجد أى صعوبة فى استيعابها وكلما تقدمت فى ذلك الطريق، كلما ازددت ثقة فى قدراتى على النجاح المنشود.
غير أنى بدأت أدخل فى تلك الفترة الحرجة فى طريق آخر. كنا أنا وكمال ننتهز الفرصة للتجوال فى حديقة الأورمان كلما استطعنا. ونتحدث فى مختلف الشئون العامة والخاصة. وفى الفترة الأخيرة، أخذ كمال يسعى إلى إقناعى بالأفكار الماركسية، ويدعونى للانضمام إلى عضوية التنظيم الذى هو منضم إليه. وكانت حجته فى ذلك، إننى بالفعل كنت قد انضممت إلى الحركة اليسارية فعلياً، فكرياً ونضالياً، ومن الطبيعى أن أعمق أفكارى ومفهوماتى لأتعرف على الفكر اليسارى من منابعه، وأفضل طريق إلى هذا هو الانخراط فى سلك التنظيم الماركسى.
وكنت قد اقتنعت، من واقع تجربتى النضالية، اقتناعاً عاماً، بصحبة هذا التوجه، ولكن بقيت فى نفسى بعض التحفظات الفكرية على ذلك، وصارحت كمال بها، وكانت:
-موقف الماركسية من الدين، وأنا مازلت مؤمناً بالله، وبالدين عموماً، وبالدين الإسلامى بصفة خاصة.
-موقف الشيوعية والشيوعيين من قضايا الحرية والديموقراطية، الذى آراه خاطئاً، وأنا مازلت مؤمناً بهذه المبادئ.
-قضية دكتاتورية البروليتاريا، التى أنفر منها، ومن أى دكتاتورية.
وقام كمال بالرد على هذه التحفظات رداً أقنعنى، وكان جوهر رده يقوم على أن هذه كلها خلافات قائمة بين الشيوعيين أنفسهم، وأنه هو شخصياً لديه نفس التحفظات، وأن مثل هذه القضايا لا تحل بالمناقشات ولا بين يوم وليلة، بل إنها تحتاج إلى وقت، بل إلى وقت طويل.
وقال لى:
-يا أخى شوف وجرب، إذا اقتنعت بأى فكر فتقبله، وإذا لم تقتنع أبقى أرجع فى كلامك. ماحدش هايربطك بحبل.
ثم قال لى: 
-فلتنظر إلى ما يعجبك من هذه المبادئ والأفكار، ولتسأل نفسك، لماذا لا تناضل من أجل الخير الذى فيها، ونعمل على تجنب ما قد يكون فيها من شرور.
وأنتهى حوارنا الطويل، المتكرر، على أن أعطى لنفسى الفرصة. فاتعرف عن قرب على الأفكار الماركسية، وأخبرنى بأنه مستعد لإعطائى مجموعة من الكتب التى أصدرها التنظيم الذى انتمى إليه وهو تنظيم "الحركة المصرية للتحرر الوطنى"، وهو أحد أهم التنظيمات الشيوعية فى مصر، وطلب منى جنيهاً لتلك الكتيبات، وأخبرنى بأنه بعد أطلاعى عليها فإن من حقى أن أرفض أو أقبل الانضمام إلى هذا التنظيم، لأكون مرشحاً لعضويته إذا أردت، وإذا لم رد، فيا دار ما دخلك شر.
ووافقت، ودافعت الجنية، وكنا على أبواب الامتحانات. وبعد أيام حضر لى كمال تلك الكتيبات فى مسكنى ببولاق.
وبدأت مرحلة من الجهد الشاق الذى كان على أن أبذله فى هذا الوقت، فقد كانت الامتحانات على وشك البدء، وكان طبيعياً أن أرجىء قراءة تلك الكتبيات إلى ما بعد الامتحانات، ولكنى لم أستطع أن أمنع نفسى من الاطلاع عليها، فقررت أن أقرأ فيها خلال مذاكرتى لمواد الامتحان، كنوع من الترفيه. وبالفعل بدأت أفعل ذلك. كان الامتحان يتم على أساس علم كل يومين أو ثلاثة، وكنت أخصص معظم الوقت بين الامتحانين لمذاكرة المادة القادمة، ولكنى أقرأ فى الكتيبات الشيوعية فى باقى الوقت، وكانت تلك الكتب عشرة هى:
1- البيان الشيوعى -تأليف كارل ماركس وفردريك أنجلز.
2- الاقتصاد محرك التطور الاجتماعى - روجيه جارودى.
3- القيمة والثمن والربح -كارل ماركس.
4- أسس للينينية -جوزيف ستالين.
5- المادية الجدلية والمادية التاريخية -ستالين.
6- عن التنظيم -ستالين.
7- تعاليم كارل ماركس -لينين
8- إلى فقراء الريف -لينين.
9- المسألة الوطنية -ستالين.
10- الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية -لينين.
والغريب أننى شعرت بأن قراءة هذه الكتب فى هذا الوقت الضيق لم يعطلنى عن استذكار دروسى القانونية، ولم يجئ على حسابها، بل بالعكس، كان يساعدنى على حسن تحصيل الكثير من المسائل القانونية، وخاصة فى الموضوعات المتصلة بالاقتصاد أو الفلسفة. وبشكل عام، فقد كانت تلك القراءة توسع من مداركى، ومن قدرتى على الاستيعاب. وحين جاءت الامتحانات، استطعت أن أؤديها بمزيد من الثقة والقدرة.
واستطعت أن أجتاز امتحانات تلك السنة، بسهولة ويسر. وجاءت النتيجة إيجابية، فنجحت فى كل المواد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق