ذكريات شاعر مناضل: 8- يوم الامتحان

8- يوم الامتحان


بدأ العام الدراسى الجديد فى جو من الهدوء والجدية والصرامة، بما يتفق مع أهمية ذلك العام بالنسبة للمدرسة، ومدرسيها، وللتلاميذ وعائلاتهم، ولا غرابة فى ذلك، فقد كان هو عام اتمام الدراسة الابتدائية، وامتحانها النهائى، وشهاداتها.
وكان الهدوء يشمل المدرسة، بل ويشمل البلاد كلها. إذ كانت نذر الحرب العالمية قد بدأت تتوالى على الساحة العالمية بعد أن برزت القوى الفاشية تفرض سيطرتها على عديد من الدول الأوربية، كألمانيا، وإيطاليا، وأسبانيا، وغيرها، وكذلك فى اليابان فى أقصى الشرق الآسيوى، بكل ما يمثله ذلك من التحدى للدول الاستعمارية القديمة، وخاصة لبريطانيا وفرنسا.. وغيرهما، والتمرد عليها، والتهديد لنفوذها ولمصالحها الاستعمارية. وأدى ذلك ببريطانيا إلى التراجع، ولو قليلاً عن عنادها، وإلى انتهاجها سياسة أكثر مرونة مع مطالب مصر الوطنية. ونتج عن ذلك توقيع معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، والتى كانت تفتح أبواب الأمل فى وصول مصر إلى أهدافها فى الحرية والاستقلال. وعلى الصعيد الداخلى، كان حزب الوفد قد شكل وزارة وفدية يرأسها زعيمه، مصطفى النحاس باشا، وذلك على أثر فوزه بالأغلبية فى انتخابات سنة 1936، وكان اشتراك الأحزاب الأخرى مع الوفد، من خلال جبهة وطنية موحدة، فى المفاوضات مع بريطانيا، ثم فى توقيع المعاهدة التى انتهت إليها تلك المفاوضات، قد أدى إلى شيوع جو من الوفاق والهدوء. فى الساحة الداخلية، انعكست آثاره على جماهير الشعب، وعلى طلاب الجامعات والمدارس.
وفى مدرستنا، احتشد التلاميذ وانتظموا فى الدراسة، استعداداً للحدث الكبير، واحتشد المدرسون له باهتمام مضاعف، وخاصة بالنسبة للسنة الرابعة وتلاميذها، الذين كانوا مقسمين إلى فصلين، رابعة أول، رابعة ثانى، وكنت أنا وزميلى محمود عامر ضمن تلاميذ رابعة أول، والذى كان يضم التلاميذ الأصغر سناً، والذين كانوا يبشرون بالنتائج الأفضل، بينما كان التلاميذ فى رابعة ثانى هو الأكبر سناً، والذين تكرر رسوبهم فى السنوات السابقة.
وكان المدرسون جميعاً يتحركون فى همة ونشاط، كخلية النحل، وينتقلون بين الفصول من حصة إلى حصة، وبأيديهم عصى الخيزران، يهشون بها على تلاميذهم، ويضربون بها من يخرج على النظام أو يشذ عن الطاعة.
وتم إعلان تلاميذ السنة الرابعة. بأن المدرسة سوف تقوم بإجراء امتحان شهرى للفصلين معا، فى ما أخذوه من المقررات الدراسية أولا بأول، وسيكون الامتحان الشهرى على نفس النسق والنظام لامتحان آخر السنة، الذى تجريه الحكومة. وكان الهدف من ذلك، هو حفز التلاميذ على الاجتهاد فى الدراسة والمذاكرة، وتدريبهم على نظام الامتحانات الرسمية.
وكانت جهود شقيقتى فى رعايتى فى شئون الحياة والدراسة، كما كانت جهود الأستاذ محمد القماح، مدرسنا الخصوصى الذى كان يحضر كل مساء ليذاكر معنا، أنا وزميلى محمود عمار، دروسنا، وليشرح لنا ما يحتاج إلى شرح من تلك الدروس، كانت تلك الدروس قد بدت نتائجها الطيبة على تقدمنا الدراسى. وكذلك الحال بالنسبة لجهود مدرسينا فى المدرسة.
وكانت الدراسة قد بدأت فى أول شهر أكتوبر. وفى أواخر ذلك الشهر، عقد لنا الامتحان الشهرى الموعود. أخرجوا تلاميذ الفصلين إلى الفناء، ثم قادونا فى طابور إلى قاعة فسيحة فى مكان خاص بالمدرسة، وأجلسونا على مناضد صغيرة، ومقاعد تفرد وتطورى، بنظام محدد، ووفقاً لأرقام جلوس كانت قد وزعت علينا من قبل، تماماً كنظام الامتحان العام. ثم وزعت علينا أوراق للإجابة، ثم وزعت علينا أوراق الأسئلة، مادة بمادة، فى كل حصة مادة، على مدى خمسة حصص فى اليوم، تفصل بينها فسحة واحدة. وفى أثناء الامتحان، كان عدد من المدرسين، يراقبون التلاميذ، لضمان الانضباط، وعدم الغش، وهكذا، مراقبة دقيقة حازمة، يضمنها حزم المدرسين، وتضمنها عصى الخيزران فى أيديهم.
وبعد يومين، فى اليوم الأول من شهر نوفمبر، ذهبنا إلى المدرسة فى الصباح، ودق الجرس لطابور الصباح، فوقفنا فى الطابور كالمعتاد. ولكن الأمر فى ذلك اليوم لم يكن كالعادة كل يوم.
ظهر الناظر، سعد علام وتقدم ببطء لأخذ مكانه المعتاد، فى مواجهة الطابور. وكان تحت إبطة مظروف كبيراً صفر اللون، وكان يحف به كل المدرسين. انتهينا من إلقاء النشيد اليومى، ولكن قبل أن يصيح فرج أفندى علينا بعبارة إلى الفصول.. معتاداً مارش، رأينا الناظر يرفع يده مشيراً بالتوقف، ثم سمعناه ينادى بصوت مرتفع على بواب المدرسة قائلاً:
- هات الكرسى يا مرسى.
وأقبل "مرسى" مسرعاًوهو يحمل كرسياً خشبياً ذا ذراعين يتدلى من كل منهما حزام جلدى متين. وكان مرسى رجلاً نوبياً شديد السمرة، نحيل الجسم، أقبل ووضع الكرسى على أرض الفناء -بين أضلاع الطابور الثلاثة، ثم وقف إلى جواره وقفة ثابتة -زنهار.
وفتح الناظر -فى جدية وصرامة- المظروف الأصفر، وأخذ يخرج منه الأوراق فإذا بها أوراق أجابتنا فى الامتحان، مرتبة على نحو معين، أخرجها وناولها للضابط: فرج افندى، ثم أخرج كشفاً من عدة أوراق احتفظ به فى يده. وبدأ المناداة على الأسماء:
- فلان الفلانى -الأول، ويصفق الطابور تحية للأول
- الثانى .. الثالث -الرابع- الخامس، السادس:
- محمود محمد توفيق، رابعة أول، ويشير الناظر لتلاميذ الطابور فيصفقون تحية لى.
ويستمر الأمر على هذا المنوال إلى أن ينتهى الناظر من التلاميذ العشرة الأوائل، ثم يبدأ فيما يليهم:
- فلان الفلانى -الحادى عشر .. ويضيف -ساقط فى اللغة العربية.
 اعبطه يا مرسى. ويتقدم التلميذ فيجلسه مرسى على الكرسى، ويساعده على خلع حذائه، ويربطه بفردتى الحزام الجلدى ذى الأبزيم ليثبته على الكرسى، ثم يمسك بساقيه ويجعل قدميه فى مواجة الناظر.
ويقول الناظر: ثلاث خرزانات، اتفضل يا فرج افندى، وينبرى فرج افندى وبيده عصاته الخيزران، فيضرب التلميذ الثلاث ضربات وهو يعد: واحد، اتنين، ثلاثة. ويقوم مرسى بفك التلميذ من الكرسى، فيقوم جاريا حافى القدمين، وهو يحمل حذاءه فى يده. ويستمر الناظر فى عمله.
- فلان الفلانى: الثانى عشر، ساقط فى كذا، ثلاث خرزانات. ويتكرر المشهد.
- فلان الفلانى: الثالث عشر ... الرابع عشر،.. إلخ. وهكذا إلى أن ينتهى الأمر بالستين تلميذاً الذين يتكون منهم الفصلان. وكان ترتيب محمود عمار الخامس عشر، وكان راسباً فى اللغة الإنجليزية، وفى الحساب، فجلس على الكرسى، ونال ستة ضربات.
وكان التلاميذ الذين يجلسون على الكرسى، يتلقون الضربات على أقدامهم صارخين! آه .. آه ..
ذلك كان المشهد الذى يتكرر فى اليوم الأول أو الثانى من كل شهر، والذى يتألق فيه الناظر سعد علام، ويظهر كل قدراته الإدارية والتربوية والذى كان من أسباب تفوق مدرسة "صدق الوفاء" فى نتائجها فى الشهادة الابتدائية على ما عداها من المدارس الأهلية فى حى بولاق، وفى الأحياء المجاورة.
وكان سائر تلاميذ المدرسة، فى السنوات الأخرى قبل السنة الرابعة، يحضرون هذا المشهد، فيرهبونه، ويخشون حلول يومه عليهم.
ولاحظت بعد ذلك، أنه حتى تلميذات مدرسة البنات، الموازية لمدرستنا، كن يحضرن ويقفن فى آخر الفناء، ناحية مدرستهم، ليتفرجن على ما يجرى، وإن كن فى مأمن منه، لأنه لم يكن عندهن ما يشبهه، إذ لم يكن عندهن ناظر كالأستاذ سعد علام.
... 
وجاء الشهر التالى، نوفمبر 1936، وعقد الامتحان فى نهايته، وجاء يوم إعلان نتيجته فى أول ديسمبر، وجرت وقائع اليوم على نفس المنوال الذى حدث فى الشهر السابق، الطابور، وهات الكرسى يا مرسى. ولكن تبين أننى أحرزت تقدماً فى نتائجى، وأصبح ترتيبى هو الثالث على الفصلين ولكنى رسبت فى مادة الرسم، إذ حصلت على درجة 3 من عشرين، بينما كانت درجة النجاح هى 4 من عشرين، ولكن الناظر تغاضى مكرهاً عن عقابى، وأعفانى من الجلوس على الكرسى، تقديراً لتفوقى، وما حصلت عليه من نتائج طيبة فى المواد الأخرى، وهى المواد الأساسية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق