ذكريات شاعر مناضل: 16- العين الجديدة

16- العين الجديدة


كان عدد الطلبة فى مدرسة حلوان الثانوية حوالى الألف طالب، أى حوالى نصف العدد فى مدرسة شبرا الثانوية، ولكن عددنا فى القسم الداخلى بمدرسة حلوان كان حوالى ثلاثمائة، أى أكبر مما كان عدد الطلبة فى القسم الداخلى بمدرسة شبرا، وكان واضحاً أن القسم الداخلى بمدرسة حلوان أصبح هو أكبر وأهم أمثاله فى أى مدرسة أخرى. وكان طلبة القسم الخارجى كلهم تقريباً من أبناء مدينة حلوان، أو أريافها وضواحيها، أو من مدينة البدرشين وأريافها، وهى تقع غرب النيل، ويأتى الطلاب منها إلى حلوان بواسطة معديات تعبر بهم النهر، ثم حافلات تنقلهم إلى المدرسة ثم منها آخر اليوم الدراسى. ومعظم طلبة القسم الخارجى فى المدرسة كانوا من أبناء العائلات الكبيرة المعروفة فى حلوان، بل وعلى مستوى القطر كله. كان هناك إسماعيل وزكريا بهنس، أبناء سيد بك بهنس، الثرى المعروف، وعضو الهيئة الوفدية، أى من الزعمات الوفدية البارزة. وكان هناك من عائلة الدالى طلاب كثيرون، منهم وحيد الدالى، وعبد المجيد الدالى، وكان هناك عدد من الطلاب من عائلة عزام المعروفة. منهم أحمد عزام، ومحفوظ عزام، وآخرون. وكان هناك طلاب من عائلة الجابرى، ومن عائلة سيف النصر، وغيرهما من العائلات الكبيرة المعروفة.
أما القسم الداخلى فكان يضم أغلبية من طلاب الوافدين من مختلف المناطق المصرية، وكانوا ينقسمون إلى مجموعات تسمى بأسماء بلدانها أو محافظاتها. كانت هناك مجموعة من أبناء أسوان والنوبة وادفو، منهم زكى مراد وعواض عثمان وآخرون، من أسوان وقبائلها،ومنهم عبد العزيز حسيب من إدفو.. إلخ. وكانت هناك مجموعة أخرى من أسنا والأقصر، منهم عزب وصبحى أبادير ويوسف بطرس وآخرون. وكان هناك عدد من أبناء الواحات، منهم عبدالله سليمان وخليل سليمان ومحمد النشوانى ومحمود جعجع وآخرون، ومجموعة من أبناء المنيا، منهم إبراهيم مجلى كستور، وعلى عصمت، ومحمود وإبراهيم أبو الوفا، كانت هناك مجموعة من أبناء العريش. منهم حسن فؤاد وإبراهيم رضوان ورفعت عزب وصفىوآخرون، وكذلك مجموعة من أبناء الإسماعيلية منهم حمدى يوسف حمدان ومحمد على الأسود، وغيرهما، كما كان هناك آخرون من جهات أخرى فى الصعيد والوجه البحرى، ولا يقف الأمر عند هذا الحد من التنوع، بل تعداه إلى مستوى أبعد. فقد كانت هناك مجموعة كبيرة من الطلبة السودنيين، على رأسهم أخونا الكبير أحمد السيد حمد، وصادق عبد الماجد، وعمر محمد الطاهر، وعباس الدابى، ومحجوب باشرى، وحسن عبيد، وآخرون. وكانت هناك مجموعة كبيرة من أبناء عدن، على رأسهم أخونا اسكندر ثابت العدنى، وجعفر صادق، وعبدالله راشد، وآخرون، وكان منهم أخ من لبنان هو كمال يقظان. وآخر من المملكة السعودية هو عبدالله الطريقى.
كانت داخلية حلوان تعتبر محفلاً مصرياً وعربياً نادر المثال، وفريداً من نوعه، ومجالاً رائعاً لتبادل المعرفة والمعلومات، بين كل هذه المجموعات والأفراد. وكانت ظروف الحياة فى القسم الداخلى، تتيح فرصة مثلى لهذا التبادل والتفاعل، فإلى جانب الدارسة المشتركى، كانت هناك الحياة المشتركة، والإقامة المشتركة، والرياضة المشتركة، وغير ذلك من فرص التعارف والتجارب والتبادل. لذلك كله، فقد كانت الروابط بين طلبة القسم الداخلى، هى روابط أقوى وأعمق، منها مع طلبة القسم الخارجى، بطبيعة الحال. على أن كثيراً من الروابط والصدقات التى انعقدت بين الكثيرين من طلبة القسمين فى ذلك الحين، قد استمرت بعد ذلك طويلاً، وصمدت لمر الأيام وتقلب الأحوال.
 كثير من هذه الأسماء التى تعيها الذاكرة من طلاب مدرسة حلوان، بقسميها الداخلى والخارجى، قد لمعت بعد ذلك فى سماء الحياة المصرية والعربية، وفى أجوائها المختلفة. وكثير من الصدقات وأواصر المودة التى انعقدت فى تلك الظروف، قد استمرت وعاشت بين أطرافها لسنوات وسنوات عديدة.
 وفى القسم الداخلى بحلوان الثانوية، لم تكن الدراسة أو المعيشة المشتركة هى وحدها ما تجمعنا. بل كانت هناك أشياء كثيرة أخرى.
كانت هناك الرياضة بأنواعها المختلفة، كرة القدم، والهوكى، والكرة الطائة، وغيرها. وكانت هناك الرحلات القصيرة والجولات المتنوعة فى ربوع حلوان وفى ضواحيها، مشياً على الأقدام، أو على الدراجات التى كنا نستأجرها من المحلات التى كانت تتيحها لنا بأسعار زهيدة. كانت النزهات إلى الحديقة اليابانية الجميلة، وكشك الحياة الذى كان يتوسطها، والبحيرات التى تخللها بأسماكها الذهبية والحمراء اللامعة، وأزهارها المتنوعة اليانعة، وتماثيل بوذا الكثيرة الموحدة الهيئة رغم احجامها. كانت تلك النزهات متعه النفوس وبهجة الأنظار. وكانت حديقة الكازينو المواجهة لمحطة القطار، بخمائلهاالوارفة، وأزاهارها اليانعة، وكشك الموسيقة الذى يتوسطها، والذى كانت تعزف فيه فرقة موسيقى نحاسية تحضر للعزف فيه فى الكبريتية الشافية، والذى كان متاحاً لنا بأجور رمزية. ثم كانت لدنيا الفرصة للقيام بجولة على الدراجات إلى المناطق الزراعية المحيطة بالمدينة، حيث كنا نجلس على الأرض المعشوشبة الواقعة على أطراف الحقول، لنستمتع بمص أعواد القصب اللينة من النوع المسمى بخد الجميل، والذى كان ثمنه لا يتجاوز الملاليم. وكانت هناك نزهات أخرى، بالداجات، أو مشياً على الأقدام، كنا نخرج فيها إلى المنطقة الصحراوية المجاورة لمدينة حلوان، حيث كنا نشاهد بعض مضارب الأعراب والبدو الرعاة، الذين كانوا يعيشون فى تلك المناطق، والمكونه من الخيام المصنوعة من شعر الماعز، ومن الحظائر المبنية من البوص والطين، لنرى حياتهم على الطبيعة، وكيف يرعون إبلهم وأغنامهم، وكيف يحلبون ألبانها، وكيف يخبزون خبزهم على مواقد من الصاج.
ولا أنسى أننا نحن، طلبة القسم الداخلى بحلوان الثانوية، كنا نحن الذين اكتشفنا العين الجديدة التى نبعت فى صحراء حلوان، وذلك خلال إحدى جولاتنا فى تلك الصحراء، حين شاهدنا بحيرة صغيرة من الماء على الرمال، لم نكن قد رأيناها من قبل، ورأينا نبعاً يتدفق كالنافروة فى جانب منها وعند عودتنا إلى مقر الداخلية، أبلغنا المشرف عليها بما رأيناه، فقام بدوره بمعاينتها، ثم قام بإبلاغ الجهات المعنية بوجودها، وقد اهتمت تلك الجهات بأمرها، فتحولت فى مدى شهور إلى معلم سياحى شهير، واشتهرت بفائدة التداوى والعلاج بمياهها المعدينة.
وهكذا أصبح لحلوان عينان، واحدة هى العين الكبريتيه "الكبريتاج" لعلاج الأمراض الجلدية والروماتزمية، والثانية هى: العين المعدنية، لمعالجة أمراض الكبد والجهاز الهضمى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق