ذكريات شاعر مناضل: 13- المربى الفاضل

13- المربى الفاضل


وقفنا فى طابور الصباح كعادتنا كل يوم، وبدأ دق الطبول من اثنين من أفراد فريق الكشافة بالمدرسة، ثم انطلقنا جميعاً لننشد النشيد الوطنى الذى كانت كلماته تقول:
بلادى بلادى فداك دمى .. وهبت حياتى فدى فاسلمى
غرامك أول ما فى الفؤاد .. ونجواك آخر ما فى فمى
سأهتف باسمك ما قد حييت .. تعيش بلادى ويحيا الوطن
.. إلى آخر كلمات ذلك النشيد. وكانت تلك الكلمات، وقرع الطبول، تجعلنا نردده بقوة وحما، يرج فناء المدرسة ومبانيها، ويتردد صداه فى الحى كله الذى تقع فيه المدرسة.
انتهى النشيد، ووقفنا ننظر تجاه الدكتور أحمد رياض، ناظر المدرسة، الذى كان واقفاً على شرفة صغيرة فى مواجهة الطابور، وحوله عدد من مدرسى المدرسة. أشار بيده للطابور للانصات، ثم بدأ يخاطبنا بالحديث كعادته فى أول كل أسبوع. قال:
أبنائى الطلبة، أحييكم أطيب تحية، وأتمنى لكم المزيد من الصحة والتوفيق، دعونى أذكركم بما قلته لكم من قبل: إن ألد أعداء هذا البلد هو الثالوث اللعين: الفقر والجهل والمرض، ولا سبيل إلى التخلص منها إلا بالعلم، والعمل. واجتهادكم فى تحصيل العلم، ثم فى العمل بعد ذلك، هو جهاد فى سبيل الوطن. وهتف الناظر: تحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر. ورددنا وراءه الهتاف ثلاثاً. ثم أعطى الناظر الإشارة، فتحركنا إلى الفصول، وبدأ يوم دراسى جديد وأسبوع دراسى آخر.
كان الناظر: الدكتور أحمد رياض، قائداً وزعيماً، وليس مجرد ناظر مدرسة، وكثيراً ما كان يقول لنا: مهمتكم عظيمة، هى أن تبنوا أنفسكم علمياً، ووطنياً، وأخلاقياً، وبذلك تأدون واجبكم نحو مصر.
كان واحداً من النظار العظماء الذين أنجبتهم مصر فى ذلك العهد، نظار المدارس الثانوية الإفذاذ، وكانوا نجوماً ساطعة على المستوى التعليمى، بل وعلى المستوى الوطنى والاجتماعى. وكانوا معروفين ومشهورين على مستوى الوطن كله، أحمد رياض ناظر شبرا الثانوية، جعفر النفراوى ناظر السعيدية الثانوية.. محمد رفعت ناظر بنى سويف الثانوية.. أحمد البدرى ناظر حلوان الثانوية.. إلخ.
وكانت قد جرت العادة على اختيار واحد منهم ليكون وزير المعارف من حين إلى آخر، ولذلك فق كانت مكانته فى نظر نفسه، وفى نظر الناس، أنه وزير، أو كوزير. وكان عدد المدارس الثانوية فى القطر كله فى ذلك الحين، لا يتجاوز عشرين مدرسة للبنين، منها فى القاهرة كلها، بما فيها الجيزة، حوالى عشر مدارس فقط، والباقى فى الإسكندرية وباقى أرجاء البلاد، وكان عدد مدارس البنات هو نصف هذا العدد. وكان كل هؤلاء النظار، من الحاصلين على أعلى الشهادات، فى مصر وفى أرقى الجامعات الأجنبية فى إنجلترا، اكسفورد وكامبردج .. إلخ، وفى فرنسا، السوربون، وكوليج دى فرانس .. وغيرها.
وكانت الدراسة فى مدرستنا تسير على خير ما يرام، رغم أن عدد التلاميذ كان يبلغ حوالى الألفين، وكان عدد فصول السنة الأولى مثلاً، هو ثمانية فصول، وكنت أنا فى الفصل الثانى. وكان المدرسون يبذلون أقصى جهدهم فى التدريس، وفى إعطاء التلاميذ أقصى ما لديهم من العلم والتوجيه الوطنى والأخلاقى.
وكانت كل الأنشطة المدرسية الأخرى تدار على قدم وساق، الرياضة: فريق كرة القدم، وفريق كرة السلة، وفريق الهوكى، وفريق الجمباز، وفريق التنس، بل وحتى فريق الشيش. وكان هناك فريق الكشافة، وفريق الجواله، وفريق الجرى، فريق الملاكمة.
والأنشطة الثقافية: فريق التمثيل، جمعية الخطابة، وغيرها. وكانت كل هذه الأنشطة، تقوم بالمباريات والعروض على مشهد من التلاميذ، الذين كانوا يتابعونها، ويقومون بتشجيعها.
وكانت المدرسة، ومرافقها، آيه فى النظافة. وكانت حديقة الزهور بها تحفة تسر الناظرين، وتنتج كميات كبيرة من أجمل الزهور، التى كانت تزين أبهاء المدرسة، وقاعاتها. وكذلك كان مطعم المدرسة منظماً ونظيفاً، وكان الطعام الذى يقدم فيه، يجرى إعداده والإشراف عليه، بمعرفة عمال وطهاة أكفاء، وتحت إشراف الناظر شخصياً.
أما فى القسم الداخلى، فكان كل شئ يجرى وفق نظام محكم. مواعيد النوم والاستيقاظ، مواعيد تناول الوجبات، مواعيد الاستذكار وأماكنه، مواعيد الاستحمام، نظام غسل الملابس، ومواعيد تقديم أكياس الغسيل إلى المغسل، ومواعيد استلامها. كل شئ كان يجرى بسهولة ويسر، وفقاً لنظام محكم تم وضعه بروية وإتقان.
وبدأت أعتاذ الحياة وفقاً لهذا النظام، وأرتاح إليها، وأخرج من حالة الكآبة التى كانت قد انتابتنى من قبل.
وكنت أخرج من المدرسة أيام الخميس والجمعة. لأذهب إلى بيت عمتى "منيرة" فى "اليكنية" بالحلمية الجديدة، لأقضى معها ومع أسرتها نهاية الأسبوع. كانت أختى سعاد وزوجها الدكتور سعيد قد تركا المنزل، وغادرا القاهرة، بعد أن نقل سعيد للعمل صيدلياً بمستشفى "المطاعنة"، فى أقاصى الصعيد. وكانت أسرة عمتى "منيرة" تتكون منها، ومن زوجها "حسن أفندى الأزهرى" الذى كان موظفاً بالمحكمة العليا الشرعية، وكان لها ثلاثة أبناء -خلاف الدكتور سعيد، هم على التوالى: أحمد .. وكان طالباً بكلية التجارة، وكمال وكان موظفاً بكلية العلوم بجامعة القاهرة، وصفوت، وكان يكبرنى بعام واحد، تلميذاً مثلى بالسنة الأولى، بمدرسة الخديوى الثانوية. وكانت لها ابنه صغيرة، هى آمال، وكانت وقتها فى السادسة من عمرها.
كانت عمتى منيرة هذه، سيدة فى منتصف العمر، على درجة من الذكاء واللباقة والتنور الذى اكتسبته بالفطرة، ومن حياتها مع أفندى متعلم، ومع أبناء متعلمين. وكانت تكن لى كثيراً من مشاعر الود، والعطف والحنان.
كذلك كانت علاقتى بأبناء عمتى الثلاثة، علاقة مودة ودرجات مختلفة من الإخاء، الذى يختلف نوعه من واحد منهم إلى الآخر.
كان الفرق بين سنى وسن أحمد، طالب الجامعة، فارقاً كبيراً، ولذلك فهو يعاملنى معاملة الأخ الكبير، لأخيه الصغير، وكان الفرق بين سنى وسن كمال، الذى كان فى العشرين، كبيراً أيضاً، ولكنه كان يعاملنى بمودة كبيرة. وشئ من المساواة. أما صفوت، فكان ندا لى، وفارق السن بيننا صغير، ولذلك كنا صديقين وزميلين فى الاهتمامات، وفى بعض ألوان اللهو واللعب المتاحة، كما كان الحال بينى وبين محمود عمار من قبل.
كنت أنزل معه إلى "حارة النصارى" التى يقع فيها منزلهم، وكانت حارة طويلة وواسعة، تتوسط حى "اليكنية". هناك كنا نشارك بعض الأولاد فى ألعابهم، الكرة الشراب، ركوب العجل، مسابقات الجرى..  وغيرها. وكنا نتسلل أحياناً إلى "خرابة" تقع فى ناحية من الحارة، وبها فجوة فى أحد جدرانها، كنا نقفز منها إلى شارع "سوق السلاح" الشهير، لنتفرج عليه، وعلى ما به من محلات صغيرة تعرض العديد من السلع الغريبة، منها سيوف وخناجر ذات نصال من الصلب اللامع، ولها أجربة من الجلد المزخرف.
ذات مرة، ونحن فى حارة النصارى، شاهدت رجلاً أشيب مسناً، يرتدى جلباباً عادياً، وينتعل قبقاباً وهو نوع من الشباشب مصنوع من الخشب، رأيناه يسير فى الطريق وهو يحمل صحناً مليئاً بالفول المدمس، ولاحظت أن الأولاد يفسحون له الطريق وهو يسير، إلى أن دخل منزله الصغير الذى يقع فى طرف من الحارة، وسألت عن الرجل، فقال لى صفوت: إنه "كامل الخلعى" -الموسيقى. وعلمت فيما بعد أن هذا الرجل البسيط، الرقيق الحال، كان فى زمانه، واحداً من أعظم الموسيقيين الذين أنجبتهم مصر، وأنه كان عالماً فى الموسيقى، ومن أعظم العازفين على العود، والملحنين، وملحنى الأوبريت، وكان يلحنها للشيخ سلامة حجازى، ولفرقة أولاد عكاشة، ولغيرهما.
وحتى الآن ما زالت تتمثل فى ذاكرتى صورة "كامل الخلعى" كما رأيته فى أخريات أيامه. وكثيراً ما انعقدت فى مخيلتى تلك المقارنة بين صورة كامل الخلع هذه، وبين صورة "بيتهوفن" العظيم، كما قرأت عنها فى أيامه الأخيرة التعسة. وعندئذ ترن فى مسامعى كلمات "بيتهوفن" العظيم، التى قالها قبل وفاته، والتى سمى بها لحنه الأخير: "رب لم أشقيتنى، وما أشقيت أحداً من عبادك"!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق