ذكريات شاعر مناضل: 75- سنة حافلة

75- سنة حافلة

قبيل نهاية عام 1955، تم الاتفاق فى لجنة الوحدة، التى كانت مشكلة فى سجن القناطر الخيرية، بين خمس تنظيمات هى: حدتو (الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى)، التى كنا ننتمى إليها، وأربعة تنظيمات أخرى هى: التيار الثورى، نواة الحزب الشيوعى المصرى، النجم الأحمر، طليعة الشيوعيين، وكانت تلك المنظمات الأربعة، منظمات صغيرة الحجم نسبياً، وكانت فى الأصل - انقسامات على حدتو. تم الاتفاق على هذه الوحدة فى سجن القناطر، وأخطرنا بها فى الواحات. وفور ذلك بدأت إجراءات دمج هذه المنظمات فى داخل وخارج السجون. وكنا نحن - فى سجن جناح بالواحات ممن كان عليهم الالتزام بهذه الوحدة وتنفيذها.
وكان الدمج يشمل ضم عدد من رفاق التيار الثورى، هم بدر ومن معه، وزملاء قلائل من المنظمات الأخرى، كان منهم: أحمد خضر، من النجم الأحمر، ومنصور زكى، من الطليعة، وآخرون.
وفرحنا بهذه الوحدة، رغم كونها محدودة الأثر من الناحية العملية. ولكن أثرها المعنوى ومغزاها السياسى كان كبيراً. لكونها أول خطوة إيجابية على طريق توحيد الحركة الشيوعية المصرية، بعد سنوات عديدة من تفشى وباء الانقسامية فيها.
فى ذلك العام أيضاً حدثت أحداث هامة على الصعيد العالمى، والحلى. عالمياً حقق الحزب الشيوعى الصينى، ومن ثم الحركة الشيوعية العالمية، انتصارها التام على نظام الكومنتانج الرجعى، برئاسة تشانج كايتشيك، وفرحنا بهذا النصر فرحاً عظيماً، عبرنا عنه بمختلف المظاهر، ولكن فى محبسنا فى أعماق الصحراء. وفى أواخر ذلك العام أيضاً، تم الاستفتاء على حق تقرير المصير للشعب السودانى الشقيق، وذلك طبقاً للاتفاقية التى كانت موقعة بين النظام المصرى، وبين ممثلى الشعب السودانى، واختار السودانيون طريق استقلالهم الوطنى، فى دولة سودانية مستقلة، بديلاً للوحدة مع مصر، أو الارتباط ببريطانيا. ورغم أن ذلك كان يتصادم مع الآمال المصرية المتوارثة، عن وحدة مصر والسودان. إلا أننا فرحنا لفرحة الشعب السودانى القيق باستقلاله، وبقيام دولته الوطنية. وعبرنا عن ذلك فى احتفالات حاشدة.
وكان معنا زميل شيوعى سودانى، تخلف عن منظمة م.ش.م التى اندثرت، وهو الزميل برير حامد، الذى كان شخصية محبوبة، بعد أن خلع عنه رداء العزلة التى كانت تفرضها عليه وعلى زملائه، تقاليد منظمة مشمش المشهورة، فأصبح شخصاً اجتماعياً مرحاً وضحوكاً، على الطريقة السودانية، وكان قوى الجسن، وعداء ماهراً، ولاعب كرة من طراز فريد. بمجرد إعلان الاستقلاق للسودان، لبس برير حامد ملابسه المدنية، وتوجه إلى مكتب المأمور، وقال له: أنا زول سودانى، والسودان أصبح دولة مستقلة، وده الحين، ما فى زول يجدر يحبسنى، غير فى بلدى، السودان. وكان مأمور السجن - العقيد عبد الحميد حلمى - ذا ثقافة قانونية، إذ كان حاملاً لليسانس الحقوق، فقال له:
 معاك حق.. بس أدينى فرصة يومين أتنين. وكنت أنا جالساً مع المأمور، مندوباً عن الشيوعيين بعد أن تخلى شريف حتاته عن تلك المسئولية لى. وفى المساء، ركب المأمور سيارة السجن، وذهب إلى مكتب محافظ الخارجة. وأجرى بعض الاتصالات التليفونية مع القاهرة، ثم عاد. وفى اليوم التالى وصلت إشارة بالتلغراف بالإفراج عن برير حامد، وترحيلة إلى القاهرة. تمهيداً لسفره إلى السودان.
وأقمنا حفلاً آخر لوداع برير، رقص فيه هو رقصاً سودانياً، وغنى فيه صلاح حافظ، كما غنى المسجونون العاديون غناء صعيدياً، ورقصوا رقصة العصا. وفى فجر اليوم التالى، وقفنا صفوفاً نصافح برير حامد ونعانقه، مودعين.. إلى الأحباب، فى وطنه المستقل، جمهورية السودان الديموقراطية.
وجاء العام التالى، عام 1956، وكان عاماً حافلاً بالأحداث. فى أوائل العام تبادلت مصر التمثيل الدبلوماسى مع الصين الشعبية. وفيه تم إصدار الدستور الدائم- دستور سنة 1956. وبدأ إجراء الاستفتاء على إقرار هذا الدستور، وفى نفس الوقت على اختيار جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية. وفى 18 يونية 1956 تم جلاء القوات البريطانية عن مصر، فيما عدا قاعدة فايد العسكرية، وقسم محدود من أفراد القوات البريطانية- 18 ألف جندى فقط.
كما تم الإعلان عن رفع الأحكام العرفية، وإنهاء الرقابة على الصحف، وتحولت حياتنا فى سجن جناح إلى سلسلة من الأفراج والحفلات المتوالية. وكان الشائع أن الشيوعيين سوف يفرج عنهم جميعاً فى القريب العاجل، لزوال أسباب سجنهم واعتقالهم. وكان الإخوان المسلمون فى السجن، يبدون غضبهم وامتعاضهم من هذه الأقوال، إذ أن الأمور التى تحدث لا تعنيهم فى شئ.
وهنا أذكر الضابط الذى سبق لى الحديث عن سخافته وعدوانيته معى عندما كنت فى سجن القناطر، إذ وقعت لى معه فى تلك الفترة واقعة أخرى، وهو اليوزباشى حسن منيب الذى سيأتى ذكره السيئ بعد ذلك بسنوات- مرة أخر (فى جريمة قتل شهدى عطية التى كان له دور أساسى فيها).
كان قد نقل مأموراً لسجن جناح، وكنت أنا أقوم بمسئولية مندوب الشيوعيين لدى إدارة السجن، بعد اعتذار الدكتور شريف حتاته عن الاستمرار فيها- بسبب انشغاله بمشغوليات أخرى. وكنت ألتقى بحسن منير كل يوم، لأى شأن من شئون مسئوليتى، وألقى منه بروداً وسخفاً ملحوظين، يذكرنى بسخفه وسماجته معى فى يوم الزيارة بسجن القناطر، الذى حكيت عنه من قبل.
وكنا قد علمنا بأن الأوامر قد صدرت إلى إدارة السجن، بإعداد كشوف حصر بأسماء وبيانات المسجونيين الشيوعيين، فقط، دون الإخوان. وأشاع بعض موظفى السجن، أن ذلك معناه قرب الإفراج عنا. وكان بعضهم يقول لنا: خلاص ياسيدى، ستخرجون قريباً جداً. وكان بعض المسجونين من الإخوان المسلمين، يقولون لنا مثل ذلك، فى غيرة وحسد ظاهرين.
ويبدو أن حسن منير كان يسمع بتلك الإشاعات. فانتهز فرصة سانحة ليقول لى، عن غير مناسبة:
-أوعى تكون فاكر أنكم هاتخرجوا صحيح، الكلام ده هايكون بالنسبة للمعتقلين، أما أنتم فسوف تعيشون هنا إلى أن تموتوا، وأدركت مدى الغل والكراهية التى يحملها هذا المخلوق للشيوعيين، والتى سبق أن تكشفت لى، ثم ما لبثت أن تجلب بشكل سافر وسافل فيما بعد، على ما سوف يأتى ذكره فى حينه. وثار الدم فى عروقى، ووجدتنى أقول له:-
-ده بعينك، إحنا هانبقى فى السلطة قبل انت ما تاخد دبورة كمان. وأصفر وجهه واحمر، وضحك ضحكة هيسترية، ثم سكت.
وفى يوم 26 يولية 1956، كان يقام الاتحتفال السنوى بالإسكندرية بذكرى الثورة، وخروج الملك. وذهبت إلى ركن المعسكر الذى تقع أمامه خيمة الحراس، وكان عندهم جهاز للراديو. وسمعته ينقل أحداث ذلك الاحتفال. فتوقفت أسمع ما يقال، وكان عبد الناصر سوف يلقى خطابا فيه، وبالفعل بدأ خطابه، وبدأت أسمع صوته الرنان، وهو يتكلم عن قناة السويس - بدون مناسبة كما بدا لى. إلى أن سمعته يقول وقد ارتفع صوته:
-قرار من رئيس الجمهورية: تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية.. إلخ.
وسمعت الحشد الهائل الذى كان متواجداً فى سرادق الاحتفال بميدان المنشية بالإسكندرية، وهو يزأر بالهتاف والتهليل، كما سمعت جنود الحرس خارج السور وهم يزأرون بالهتاف والتهليل هم أيضاً، وما لبثوا أن خرجوا من الخيمة وهم يصرخون: عاش جمال عبد الناصر، عاش جمال عبد الناصر. ثم بدءوا يطلقون أغنيتهم الصعيدية التى تقول:
-يا جمال يا جمال - يا جمال يابو عبد الناصر يا جمال. وفوجئ الزملاء بأغانى الجنود وهتافهم، وكنت أنا الوحيد الذى استمع إلى الخبر وعرفه، فذكرت لهم ما سمعته بالتفصيل، فهاجوا وماجوا، وبدءوا يهتفون ويغنون ويرقصون، ثم انتقلوا إلى ملعب الكرة، فجمعوا أخشاباً أوقدوا بها نارا كبيرة، وبدءوا يرقصون حولها ويهتفون ويغنون، ثم رأينا عدداً من الإخوان يتسللون ويأتون ليروا ما يحدث، وكان بادياً عليهم جميعاً الدهشة لسلوك الشيوعيين، الذين يفرحون كا هذا الفرح، لقرار شخص ويرمى بهم فى جحيم الصحراء. وكان بعضهم يبدى تسفيهه لسلوكنا، ولسان حاله يقول: وأنتم مالكم. بل سمعت أحد زعمائهم وهو يقول بصوت مرتفع: وهو البيت الأبيض هايسكت على كده؟ مش ممكن هاتعدى على خير.
وهكذا تمايزت المواقف بيننا وبين الإخوان المسلمين، وبينما كانوا هم يأخذون موقفاً ذاتياً بدافع الحقد على عبد الناصر، كنا نحن نأخذ موقفاً موضوعياً وطنياً فى تأييد هذه الخطوه الوطنية التاريخية. وقد عبرنا عن هذا التأييد فى سلسلة من البيانات والبرقيات التى سلمناها إلى إدارة السجن لإرسالها إلى الحكومة، ولكننا احتياطاً لتصرفات حسن منير، كنا نبعث بنسخ منها إلى الأهالى والزملاء فى الخارج بوسائلنا الخاصة.
ودارت عجلة الأحداث بعد تأميم القنال على النحو المعروف، وكنا نتابعها ونعرف أخبارها بالوسائل الشرعية وغير الشرعية (الراديو الترانزستور) وغيرها. ووصلتنا مطبوعات الحزب فى الخارج وسررنا إذ وجدنا التطابق بين تحليلنا للأحداث وتحليل حزبنا، وفى كل ليلة كانت تنعقد فى مكان ندوتنا، الحفلات والندوات، التى أخذ يترد عليها عدد متزايد من الإخوان المسلمين، الذين اتخذوا موقفاً مماثلاً لموقفنا، وبعثوا ببيانات التأييد للحكومة بمختلف الوسائل المتاحة. وتشكل منهم جناح كبير، أطلق عليه اسم: جناح المؤيدين للنظام، فكان ذلك سبباً لحقد الإخوان الآخرين - المعارضين - علينا.
كان الشيخ سعيد شلبى - صديقى من أيام سجن مصر، وآخرون من زملائه، من ضمن المؤيدين، وكانت كل مجموعة الضباط الإخوان المسجونين، مثل جمال ربيع، وحسين حمودة، وفؤاد جاسر، وغيرهم، من ضمن المؤيدين أيضاًز
وحين وصلنا ديوان شعر العامية، الذى كتبه صلاح جاهين، بعنوان "موال من أجل القنال" أقمنا احتفالاً كبيراً. غنى فيه صلاح حافظ الديوان من أوله إلى آخره بصوته العذب الشجى، وبلحن ألفه هو، على غرار لحن الموال الشعبى، جاء فيه:
وسمعت من الشرق صوتك يا رفيق شبيلوف..
طالع مع الشم طايف على الممالك طوف..
يرمى الفزع فى القلوب المجرمة والخوف..إلخ
احتدم وطيس الصراع.. وعمدت بريطانيا وفرنسا إلى الخشونة والتهديد، كما عمدت أمريكا إلى التعبير عن انحيازها لهما، وتشكلت فى لندن هيئة المنتفعين بقناة السويس لتطالب مصر بالتراجع عن قرار التأميم، وأصطف الغرب كله ضد مصر، ولاحت نذر الحرب والإعداد لها. ثم جاء إلى مصر رئيس وزراء استراليا، "منزيس" ممثلاً لهيئة المنتفعين، وللدول الغربية، فى محاولة لكسر صلابة الموقف المصرى، ولإثناء مصر عنه، فى جو يوحى بالتهديد الصريح بالحرب.
وكان يوسف صديق كما علمت قد أفرج عنه من السجن الحربى، وحددت إقامته فى منزله بحلمية الزيتون، ونشر فى تلك الفترة قصيدة له بعنوان "رسول الغرب" بلسان الشعب المصرى، للرد على تهديداته، وتحذيره من مغبه الموقف الغربى العدوانى. ولقيت هذه القصيدة كما علمت ترحيباً من الشعب كله، ومن الرئيس جمال عبد الناصر.
وقف الاتحاد السوفيتى إلى جانب مصر، بكل ثقله، هو والمعسكر الاشتراكى، سواء فى المحافل الدولية، أو فى المجال الدعائى، وأخذ فى تحذير الغرب من أى عدوان على مصر، ملوحاً بقواته العسكرية الهائلة. كما سارع بإمداد مصر بصفقات جديدة من الأسلحة. وعمت البلاد روح عاليه من الرغبة فى المقاومة والصمود، وصلت إلينا أنباؤها فى هذا الركن البعيد من العالم، فى أعماق الصحراء المصرية، فبدأنا برنامجاً للتدريب العسكرى استعداداً لمواجهة العدوان على بلادنا. وكان يقوم بتدريبنا، الزميل: مختار، المسجون الشيوعى معنا، عضو حزب الراية، النوبى الأصل، والذى كان شاويشاً للتدريب فى الجيش، والذى كان جسمة يحمل آثار التعذيب البشع الذى تعرض له فى السجن الحربى عند القبض عليه بتهمة نشر الشيوعية فى صفوف ضباط الصف بالقوات المسلحة. قام مختار أولاً بأعدادنا بدنياً عن طريق التمارين الرياضية المكثفة، ثم بتدريبنا على كل الحركات العسكرية، كلها ما عدا التدريب على السلاح، فلم يكن عندنا سلاح، ثم على طرق حفر الخنادق والإقامة بها، وعبورها.. إلخ، وأثمرت جهود مختار فى تحويلنا إلى جنود أقوياء، ذوى أجسام صلبة، وعزيمة أصلب. وكان يقول لنا: لم يبق لكم إلا التدريب على السلاح، وهذا يمكن إتمامه خلال يوم أو يومين، عندما يكون حاضراً، بعدها تستطيعون دخول الحرب فوراً، وكانت الإارة تراقب تدريباتنا بدهشة، إذ لم تكن تتصور أننا جادون فعلاً فى الاستعداد لخوص الحرب، عندما توافينا الفرصة، ولم تكن تتدخل فى هذا الأمر، لا بالرفض، ولا بالموافقة الصريحة، ولكن لا شك أنها كانت تبلغ الجهات الأعلى، فى تقاريرها عن هذا النشاط.
وعندما أصبح قيام الحرب مؤكداً، تقدمنا إلى الإدارة ببيان كتابى، لتوصيلة إلى الحكومة. نعبر فيه عن موقفنا فى تأييدها ضد العدوان المنتظر، ونطالب فيه بتمكيننا فى حالة وقوعة من الخروج للمشاركة فى الدفاع عن وطننا، مع تعهدنا بالعودة إلى السجن بعد هزيمة العدوان.
وقد علمنا بعد ذلك، أن الجهات الأعلى - وزارة الداخلية ومصلحة السجون، قد تلقتا رسالتنا، ثم ردتا عليها بالقول، بأن الدولة تشكرنا على هذه الروح الوطنية، ولكنها ترى أنها ليست فى حاجة إلى تطوعنا للمشاركة فى الحرب.
 وكان الإخوان المسلمون - أكثريتهم، يتهكمون على مواقفنا هذه، ويعتبرونها مجرد محاولات منا الإقناع الحكومة بالإفراج عنا. غير أن فريقاً منهم - وهم المؤيدون للنظام - كانوا يتخذون مواقف شبيهة بموقفنا، ويرسلون إلى الإدارة برسائل التأييد والرغبة فى التطوع، خصوصاً العسكريون منهم، مما أسرع بإحداث انشقاق طولى فى كتله المسجونين الإخوان.
قامت الحرب فعلاً، وبدأنا كل ليلة نتجمع أمام مكاتب الإدارة، ونتظاهر، هاتفين ضد العدوان، ومع المقاومة، ونستمع إلى نشرات الأخبار وتطورات الموقف. وكان الإخوان يقفون أيضاً على مقربة - يستمعون ويعلقون بعبارات لاذعة.
كان الموقفان مختلفان، بل متناقضان. المسجونون الشيوعيون، يعلنون بكل الوسائل رفضهم للعدوان، وتأييدهم للمقاومة، ومساندتهم للنظام، بينما الإخوات - ماعدا كتله المؤيدين - شامتون فى النظام، ويتمنون هزيمتة وانتصار الدول الغربية فى عدوانها، ومن ورائها أمريكا، ظناً منهم أن ذلك يصب فى مصلحتهم، ويؤدى إلى الإفراج عنهم.
فى تلك الأيام، رددت الصحراء أصوات هتافاتنا، وأناشيدنا وأغانينا الوطنية، كما رددت أصوات الأناشيد التى كانت تذيعها الإذاعة، وينقلها راديو الإدارة الذى كان مفتوحاً على آخره:
 -والله سلام يا سلاحى، الله أكبر فوق كيد المعتدى، دع سمائى فسمائى محرقة، لنا النصر والموت للمعتدين. وغيرها من الأناشيد والأغانى الوطنية.
وفى غمرة هذه الأحداث، أصدر بولجانين - رئيس الاتحاد السوفيتى، الإنذار الروسى الشهير: إذا لم تتوقف الحرب على مصر فوراً، فإن الاتحاد السوفيتى سيقوم بضرب لندن وباريس فوراً، وسيكون ذلك بالصواريخ العابرة للقارات.
وتوقفت الحرب. وفرحنا وهتفنا، وأنشدنا، وغنينا، أما الأخوان المسلمون، فقد ركبهم الغم، غير أنهم كانوا يعبرون عن غيظهم بعبارات منفلتة، مثل: وهو البيت الأبيض عايسكت على كده، أبداً، وبكره نشوف.
كنا قد أمضينا عاماً ونصف فى الواحات - جناح . وفى العام الأخير منه قمت بنشاط فكرى وأدبى متواصل، أنجزت فيه العديد من الأعمال.
-قمت بتأليف كتيب متوسط الحجم، بعنوان: "أعمدة الثورة الصينية". شرحت فيه - حسب معلوماتى ومفهوماتى - أحداث الثورة الصينية، والأسس التى قامت عليها ثورتها الحالية، بقيادة الحزب الشيوعى الصينى، وذلك من واقع دراستى للكتب والمواد التى كانت قد وصلتنا عن تلك الثورة، ومنها: تاريخ الحزي الشيوعى الصينى، كتب الرفيق ماوتس تونج، كتب الرفيق ليوشاوشى، العديد من الكتب والدراسات التى كانت قد صدرت عن تلك الثورة ومنها كتاب الأستاذ محمد عودة، باللغة العربية.
وفور إتمامى لهذا الكتيب، تولى الزملاء نسخة من نسختين خطيتين بخط محمد خليل قاسم الجميل، وتجليدهما بمعرفة منصور زكى تجليداً حسناً، وإعدادهما للتداول بيننا، بينما شارك زملاء آخرون بنسخة على ورق البفرة - وهو ورق لفائف الدخان، وإعداد نسختين منه. ثم إرسالهما بالطرق السرية - إلى الزملاء بالخارج، للتصرف فيه كما يرون.
-قمت بعمل دراسة مفصلة عن الدستور المصرى الجديد - دستور سنة 1956، من وجهة نظرنا وإبداء رأينا فيه وموقفنا منه، بما يظهر إيجابياته، وسلبياته. وقد تمت دراسة هذه الدراسة فى عدة اجتماعات تنظيمية داخل المنطقة، ومناقشتها وإقرارها. واتبعت بالنسبة لها نفس خطوات النسخ والتجهيز والإرسال إلى الحزب فى الخارج.
بعد تحقيق الجلاء عن مصر، رأيت نفسى تجيش بالشعر، ووجدتنى أتجه إلى إنجاز عمل شعرى ملحمى كبير، عن مراحل ومشاهد النضال الوطنى المصرى، منذ عهد عرابى، إلى عهد ثورة يوليو، لتسجيل هذا النضال وتمجيدة،وبدأت فعلا فى كتابته، وكان بعنوان: "أعياد" بمناسبة احتفالات مصر بتحقيق الجلاء عنها، بعد هذا النضال الطويل.
وكان الزملاء قد علموا باتجاهى هذا، وعلموا بحاجتى إلى الانفراد بنفسى لمدة طويلة وتهيئة مكان مناسب لى، فأعانونى على ذلك بتفريغى من كل الأعمال والمشغوليات الأخرى، ثم بإعداد خيمة متوسطة الحجم، وإقامتها فى ركن مناسب من أركان المعسكر، ووضع سرير ومنضدة صغيرة، وكرسى فيها، وتخيصها لى لاعتكف فيها، لإنجاز مشروعى. وبالفعل، أقمت بها وحيداً لمدة شهر تقريباً، كنت لا أخرج منها إلا للضرورة، للطعام فى المطعم فى مواعيده، وللحمام عند الضرورة، إلى أن أنجزت مشروعى، وكتبت القصيدة الملحمية "أعياد"، وسلمتها للرفاق ففرحوا بها واحتفوا بها. ثم قاموا بنسخها فى كتيب جميل أعدوا منه نسختين، ثم أعدوا منها نسخة على ورق البفرة لإرسالها إلى الخارج.
أقام الزملاء حفلاً بهيجاً احتفالاً بالقصيدة، وتجمعوا فى الخيمة المعهودة، حيث قام صلاح حافظ بقراءة القصيدة بصوته العذب الرخم. وطرب لها الزملاء، وسرنى أنهم فهموها جميعاً وتأثروا بها، على اختلاف مستوياتهم الثقافية، ولا أنسى ما قاله الزميل أحمد خضر لى - وهو عامل قيادى تعليمه محدود: أنا ما بحبش الشعر الصعب المعقد، وحبيت هذه القصيدة، لأنها سهلة ومفهومة. وبعد ذلك حرصت على تحقيق هذه الوصية، كلما كتبت شعراً.
وقد ظلت تلك الخيمة التى كتبت فيها تلك القصيدة قائمة فى موضعها حتى بعد رحيلى، ولعلها كانت بعثاً لتلك الخيمة التى كانت قد أقيمت يوماً للنابغة الذبيانى، فى سوق عكاظ.
وكانت قصيدة أعياد قصيدة ملحمية طويلة تتكون من مائة وخمسين بيتاً، موزعة على 75 مقطعاً. وكانت تستعرض المشاهد البارزة من مشاهد نضالنا الوطنى فى العصر الحديث.
بدأت بمشاهد الثورة العرابية، ونضالها ضد الاستعمار:
لعرابى والصحاب..والجنود الزاحفة
 ونداء للثبات..فى مهب العاصفة..
والقلاع الباسلة...والطوابى والحصون
أقسمت ألا تلين فى وجوه الغاضبين.
وتولت الصور، إلى صور النضال على يد مصطفى كامل، ومحمد فريد، ثم سعد زغلول وثورة 1919، قم نضال الأجيال المتتابعة بعده، إلى أن وصلت إلى عهد جمال عبد الناصر:
-صور اليوم المجيد..حينما هب الجنود
 فى صفوف لا تحيد.. فى دجى يوليو العظيم..
قد دعاهم للنضال.. مارد يدعى جمال
 أنبتته للعدا.. أرضنا أم الرجال..
ومضى خلف جمال...كل رفاع الجباه
 كل أنصار النضال..كل صناع الحياة
 فبدا فجر الأمل..وزها ضوء النهار
ومشى الشعب البطل.. فى جلال الانتصار
 خالداً لا ينتهى..ثائراً لا ينهزم
صامداً لا ينثنى.. مثل أحجار الهرم.
-وتنتهى القصيدة بأبيات تبشر بالمستقبل - فتقول:
فلتعش أعيادنا.. واحتفالات الجلاء
 ولتعش أمجادنا..وأساطير الفداء..
ولتمت أحقادنا.. فى معانى الاحتفال
ولتزل أصفادنا..وبقايا الاحتلال
ولتعش فى أرضنا.. فرحة الفجر الجديد
وأمانى شعبنا...فى غد حر سعيد..
وكانت قصيدة أعياد، هى القصيدة الأساسية فى الديوان الأول الذى صدر بعد الإفراج عنى، والتى سمى الديوان باسمها، والذى كان باكورة دواوينى المنشورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق