ذكريات شاعر مناضل: 26- طالب جامعى

26- طالب جامعى


فى أول أكتوبر سنة 1944، أصبحت طالباً جامعياً -وتوجهت فى الصباح إلى مقر جامعة فؤاد الأول بالجيزة، لأبدأ فيها دراستى بكلية الحقوق. وكنت قد ذهبت إلى مدرسة شبرا الثانوية بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة، فسحبت أوراقى منها، ثم توجهت إلى مقر كلية الحقوق بمبنى الجامعة بالجيزة، حيث قدمت طلباً للالتحاق بها، وتم قبول الطلب فى نفس اليوم، ودفعت القسط الأول من المصروفات، واستخرجت البطاقة الجامعية الدالة على أننى أصبحت طالباً بتلك الكلية.
وها أنذا قد عدت إلى الجامعة، وإلى الكلية بصفتى الجديدة. قدمت بطاقتى الجامعية إلى ضابط الحرس الجامعى الواقف بالباب الخارجى للجامعه، فنظر إليها نظرة عاجلة، ثم سمح لى بالدخول. فدخلت. راعنى مشهد النصب التذكارى للشهداء -عبد الحكم الجراحى- ورفاقه، شهداء الطلبة الجامعيين الذين سقطوا فى ساحة الشرف، ساحة النضال من أجل الاستقلاق والحرية والدستور، فى الثلاثينات من القرن. وكان هذا المنظر، منظر النصب التذكارى، البسيط، المحفوف بزهور البانسية (الذكرى) التى يمتلئ بها الحوض المحيط به، شديد الأثر فى نفسى، كما راعنى منظر ساعة الجامعة، ببرجها العالى، ودقاتها المنتظمة، التى تدق كل ربع ساعة مرة، ثم تدق على رأس الساعة أربعة ألحان متتالية، ثم تدق بعدد الساعات، وأحسست أن دقات هذه الساعة، كأنها دقات قلب مصر كلها.
ثم توجهت إلى كلية الحقوق، على يسار الداخل من الباب الرئيسى للجامعة، وفى مواجهتها، من الناحية اليمنى من الباب، مبنى مماثل تماماً، هو مبنى كلية الآداب. وشعرت لكل ذلك بسعادة وزهو كبيرين.
ثم دخلت إلى مبنى كلية الحقوق، وألقيت نظرة سريعة على البهو، وعلى المدرج الكبير الواقع على يسار البهو، والذى كان مقرراً أن يحضر فيه طلبة السنة الأولى، لتلقى المحاضرات. وألقيت نظرة سريعة أخرى على بقية الأماكن الكائنه بالدور الأرضى، والتى يعلوها مكتب العميد، ومكاتب الأساتذه، وغيرها من المرافق. كما ألقيت نظرة عاجلة على المنشئات القائمة خلف مبنى الكلية الرئيسى، المكتبة، وقاعات عديدة للمحاضرات، مخصصة للأقسام (السكاشن) وفى هذه المنطقة الهادئة، يقع بوفية الكلية، والكانتين الخاص بطلبتها.
ظل الطلبة يتقاطرون على الكلية، وظل معظمهم يتدفق إلى المدرج الكبير، فى انتظار بدأ المحاضرات، ووجدتنى أدخل معهم، حتى وجدت مكاناً خالياً فى أعالى المدرج، إلى أن أمتلأ المدرج بالطلبة، وقد جلست الطالبات فى الصف الأول فى مواجهة المنصة، ولم يكن عددهم يزيد على عشرة. أخيراً دقت ساعة الجامعة تسعة دقات، ودخل من باب القاعة أستاذ مهيب، طويل القامة، أبيض اللون، يرتدى روباً حريرياً أسود اللون، جميل المنظر، وتوجه من توه إلى المنصه، وجلس على المقعد الكبير. لبث صامتاً برهة قصيرة، إلى أن ساد الصمت تماماً، ثم بدأ كلمته:
- أنا الدكتور عبد المنعم بدر، أستاذ القانون الرومانى، أهنئكم بدخول هذه الكلية، وأتمنى لكم مستقبلاً طيباً.
ثم بدأ مباشرة فى إلقاء محاضرته الأولى، فى القانون الرومانى.
واستمرت المحاضرة لمدة ساعة وكان معظم الطلبة منشغلين أثناءها، لا بسماع المحاضرة واستيعابها، وإنما بكتابة كل ما يقوله الأستاذ، وتدوينة فى كراسات المحاضرات التى يحملونها، ولم يعجبنى هذا الأمر، وبالطبع لم أفعل مثلهم، وعجبت وتساءلت: لماذا لا يرجعون إلى كتاب الأستاذ فيقرأونه بدلاً من إهدار الوقت والجهد فى كتابة المحاضرة، وكأنهم فى درس إملاء.
المحاضرة التالية كانت فى مادة: المدخل فى القانون المدنى. وكان أستاذنا فيها هو الدكتور عبد المعطى خيال. وكان بدوره طويل القامة بصورة مفرطة، ولكنه أسمر اللون، وليس شاهق البياض كالدكتور عبد المنعم بدر، وكان يغلب على منظره، منظر فلاح مصرى من الوجه البحرى.
وتكرر فى هذه المحاضرة، ما حدث فى المحاضرة السابقة. تكراراً حرفياً. أما المحاضرة الثالثة، والأخيرة، فقد ألغيت، إذ تم إبلاغنا بأن الأستاذ فيها، قد اعتذر.
خرجت من الكلية وأنا غير مقتنع بما حدث، وقد علمت فيما بعد أن هذا هو الشأن فى كل المحاضرات، وكل المواد، الأستاذ المحاضر، يكر المحاضرة، والطلبة يكتبون ما يستطيعون كتابته منها فى كراسات المحاضرات، ثم علمت أيضاً أن معظم الأساتذه لا يقدمون للطلبة كتباً معدة مسبقاً، بل إنهم يقومون بطبع هذه المحاضرات فى صورة ملازم، لدى مطبعة معينه هى مطبعة عبدالله وهبه، وتقع بشارع إبراهيم باشا (الجمهورية حاليا) خلف قسم عابدين، وعلى الطلاب أن يذهبوا إليها فيسجلوا فيها رغبتهم فى شراء تلك الملازم فى مختلف المواد، ثم عليهم أن يداوموا الذهاب إليها لاستلام الملازم التى يتم طبعها، أولاً بأول، حتى يكتمل لديهم الكتاب فى نهاية العام، وكثيراً ما يحدث أنه لا يكتمل إلا بعد الامتحان. لذلك كان الاعتماد الأساسى، هو على كراسات المحاضرات التى يكتبها الطلبة بأنفسهم، والتى يتعاونون فيما بينهم فى استكمالها. ولم يعجبنى هذا الأمر كله، وظللت متنافراً معه طيلة سنوات دراستى بالكلية.
خرجت من الكلية، وقررت الترويح عن نفسى بالددخول إلى حديقة الأورمان، التى تقع فى مواجهة مبنى الجامعة، والقريبة منها، بحيث أنها تكاد أن تكون ملحقاً لها. تمشيت فى أرجائها الفسيحة، وفى خمائلها الوارفة، وفى أحواضها العامرة بالزهور والورود الجميلة. وقد ظللت حديقة الأورمان هذه، من أجمل المباهج فى حياة جيلنا بأسره.
ثم خرجت من الباب الخلفى للحديقة، إلى محطة الترام رقم 15، لأستقله فى طريق العودة إلى المنزل. وفى ميدان العتبة الخضراء نزلت من الترام رقم 15 لأستقل الترام رقم 13 الذى توجه نحو شارع محمد على، فميدان باب الخلق، ثم إلى القلعة ماراً بمسجد الرفاعى ومسجد السلطان حسن، إلى قسم الخليفة، ثم إلى ميدان السيدة عائشة حيث نزلت منه -كان المنزل الذى قصدت إليه واقعاً فى حارة الحلوانى المتفرعة من الميدان، غير بعيدة عنه، وكان منزل شقيقتى "عليه" وزوجها يوسف صديق، الصاغ بالجيش المصرى فى ذلك الحين، وكنت قد أقمت عندهما فترة من الوقت فى العام الفائت أثناء مرشى بالحصبة، على ما سبق ذكره. وكانا قد دعيانى للإقامة عندهما فى هذا العام الجديد. ولم يكن لهما وقتها إلا ولد واحد يدعى "حسين" فى السنة الثانية من العمر "وهو الآن لواء شرطة بالمعاش".
كنت أعرف يوسف من قبل، فهو ابن عمتى "سكينة"، وأعرف مشاعره الودية نحوى، كما أعرف نبله وكرم أخلاقه، وحبه وولاءه للمرحوم والدى، الذى كان خاله، وولى أمره فى صغره بعد أن توفى والده وهو فى العام الأول من عمره، وقد ظل ولياً عليه إلى أن تخرج من المدرسة الحربية وأصبح ضابطاً.
وكان يوسف فى ذلك الوقت مصاباً بالتهاب فى العمود الفقرى إثر شرخ أصيب به فى إحدى المناورات الحربية أثناء خدمته فى مرسى مطروح، وقد مر بمراحل مختلفة من العلاج منه، وأخيراً عملت له جاكته من الجبس كان مقرراً أن يعيش بها لمدة سته أشهر، يظل خلالها بالمنزل فى إجازة مرضية طويلة.
ونظراً لأن يوسف كان من النوع الشديد الحيوية، فقد كان ضائقاً بالاجازة وبحياة الفراغ، وبجاكته الجبس، لذلك فقد رحب بوجودى، واعتبرنى عاملاً مساعداً له على التغلب على وحشة ذلك الفراغ.
تفنن يوسف فى التغلب علىى الفراغ الإجبارى الذى فرض عليه، فأغرق نفسه فى قراءات عديدة يكاد لا يربطها رابط. كان يحب كتابات مصطفى صادق الرافعى، فأحضر مؤلفاته جميعاً، وأخذنا -أنا وهو- نقرأها واحداً بعد الآخر، وحى القلم، السحاب الأحمر، أوراق الورد،.. وغيرها. وأثناء القراءة كثيراً ما كنا نتوقف لمناقشة بعض ما نكون قد قرأناه، مما يستدعى المناقشة. وكنت أنا قد اشتريت أيضاً مجموعة دواوين وكتب الشاعر "على محمود طه" الذى كان قد أصبح معروفاً بعد أن غنى له محمد عبد الوهاب قصيدة الجندول، وكانت كتبه كلها قد صدرت مؤخراً فى طبعات أنيقة، وبأغلفة ملونة جذابة، الملاح التائه، وأغانى الملاح التائه، وأرواح شاردة، وأنشودة الرياح الأربع.. إلخ. قرأناها كلها، ومعنا شقيقتى عليه، وبعض من كان يحضر مجلس يوسف من أقاربنا، مثل الأستاذ أحمد الأزهرى، الذى سبق ذكره، والذى كان يعمل وقتها محاسباً فى بنك التسليف الزراعى بالجيزة.
وفجأة رأيت يوسف يتجه فى القراءة اتجاهاً آخر، وهو البحث فى علم الأرواح، فاستحضر عدداً من مؤلفات الدكتور "أحمد فهمى أبو الخير" عن الأرواح، وعن تحضير الأرواح. واعتقد أن اتجاه يوسف المفاجئ هذا، كان تعبيراً عن ضيقه بحالة الفراغ الإجبارى الذى فرض عليه، أو ربما كمحاولة منه لإيجاد سبيل للعلاج من حالته المرضية المستعصية بواسطة الأرواح. قرأنا تلك الكتب، ثم بدأت مرحلة التجربة، وهى العمل على استحضار الأرواح، والتعامل معها، فى محاولة يائسة للتغلب على مشكلات الأحياء. وكانت كل هذه القراءات والدراسات والتجارب، بالإضافة إلى الأحاديث والمناقشات التى كانت تصاحبها أو تعقبها، تأتى خصماً من وقتى وجهدى الذى كان كان مفترضاً أن ينصب على دراسة القانون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق