ذكريات شاعر مناضل: 5- عالم جديد

5- عالم جديد


  وقفت فى شرفة شقتى المطلة على شارع هادئ، شارع المهندس الذى نقيم فيه، أتطلع إلى الشارع، واستمتع بالنسيم اللطيف الذى يهب على. لم يطل انتظارى، إذ بعد قليل رأيت سيارة تدلف إلى الشارع من بدايته القريبة من شارع النيل، وتسير متهملة وكأن سائقها يتطلع إلى أرقام العمارت. وعندما اقتربت السيارة من رقم 11 وهو رقم عمارتنا، أشرت إليه ملوحاً، إذ أدركت أنه يبحث عن عنوانى. وما أن وقفت السيارة تحت شرفة شقتنا مباشرة - وكانت الشقة بالدور الأول، حتى نزلت الدرجات القليلة وتدمت من السائق الذى وقف ليحيينى ويفتح لى باب السيارة، إذ أدرك أننى أنا الشخص المقصود. قدم لى السائق بأن اسمه هو: الأسطى الششتاوى، من ستوديو مصر، من طرف محمد بك رجائى - المدير العام.
 أشرت له إلى الباب الأمامى للسيارة ففتحه لى، ودخلت وجلست - فى المكان المجاور لمقعد السائق، وكان للسيارة ثلاثة أبواب على كل جانب من جانبيها، إذ كانت سيارة كبيرة، كويلة عريضة، من ماركة شيفرليه، ستيشن وأجون، لونها بيج، ولها أجنحة من جانبى مؤخرتها، وبها ثلاثة أرائك متتالية للجلوس.
 كانت السيارة تشبه سفينه صغيرة، منظرها رائع، ولذلك فقد وقف الكثيرون من سكان الشارع، يطلون عليها من النوافذ والشرفات، فى دهشة وإعجاب.
 جلست فى مقدمة السيارة، وبدأ الششتاوى يسير بها فى الطريق إلى ميدان الجيزة، ثم فى شارع الهرم، إلى أن بلغ طريق استوديو مصر الواقع على الشاطئ الأيسر لترعة المريوطية، وكنت أجلس إلى جوار السائق صامتاً أتأمل الطريق، لا تعرف عليه.
 دخلت السيارة من بوابة مبنى ستوديو مصر، وفتح لها البواب البوابة، فدخلت إلى الداخل إلى أن وقفت أمام مبنى الإدارة، ونزلت لأجد رجلاً مهندماً، فى منتصف العمر،ذا شعر فضى اللون، تقدم نحوى مرحباً وهو يقول:
 -أهلاً وسهلاً توفيق بك، أنا محمد رجائى مدير عام الشركة. فأجبته بمودة:
 -أهلاً وسهلاً رجائى بك، فرصة سعيدة.
 عدنا إلى مكتبه بالدور الأول. وكان المكتب غرفة كبيرة حسنة التأثيث، ملحق بها جناح للاجتماعات، به مائدة طويلة يحف بها صفان من المقاع، وكان المكتب كله يطل على فناء ستوديو مصر، الذى كانت أركانه مزينة بأحواض الزهور.
 كنت قد وصلت قبل موعد بدأ الاجتماع ببعض الوقت. وانتهز محمد رجائى الفرصة ليخوض معى فى حديث طويل، هدفه التعارف، وإطلاعى على المجهودات الكبيرة التى يبذلها هو من أجل الاضطلاع بأعباء منصبه، وإيقاف الشركة على أقدامها، بعد أن كانت على وشك الانهيار فى عهد الإدارة السابقة. وأدركت أنه كان يتوقع أن أنقل هذه الصورة إلى بنك مصر، المالك للشركة، والذى أقوم أنا بتمثيله فى مجلس إدارة الشركة. واكتفيت أنا بالاستماع، إذ لم يكن لدى ما أقوله. وحاول هو أن يستدرجنى إلى الحديث عن نفسى، ليعرف منى مدى صلتى بالبنك، بالأستاذ أحمد فؤاد، رئيس مجلس الإدارة للبنك، وبغيره من المسؤلين فى الدولة. ولم يسمع منى ما يروى ظمأه إلى المعرفة. كما يقول:
 -علمت أنك محامى، وأن لك مكتباً للمحاماه، وسررت لذلك، إذ أن لدينا الكثير من المسائل القانونية التى سنحتاج فيها إلى مشورتك. فهززت رأسى موافقاً وقلت:
 -فعلاً أنا محامى، وأنا تحت أمر الشركة.
 أجهد رجائى نفسه فى سؤالى عن مدى صلتى بأحمد فؤاد، ولكنى لم أقل له شيئاً يبل ظمأه إلى المعرفه.
 ومع مرور الوقت، وبعد شرب عصير الليمون، ثم القهوة المظبوطة، وهى الأشياء التى كان فراش المكتب يحضرها دون طلب، وكأن ذلك كان روتيناً متبعاً عند حضور أى زائر، أخذ بقية أعضاء مجلس الإدارة يصلون، إلى أن اكتمل عددهم، فاقترح رجائى أن نبدأ الاجتماع، ووافق الجميع.
 جلسنا حول مائدة الاجتماع، جلس رجائى على أحد أطرافها، وجلس عضو اسمه حسن بك فائق ، أكبرنا سنا، فى الطرف الآخر، بينما جلس الأعضاء الآخرون، وهم أربعة وكنت أنا منهم، على جانبى المائدة. وحضر واحد من كبار الموظفين فى الشركة، مدير الشئون المالية والإدارية، وكان اسمه فتحى حسن، ليتولى أعمال السكرتارية، وكان معه ملف به أوراق كثيرة، وقبل أن يجلس قام بتوزيع نسخ من ورقة تحتوى على جدول أعمال الاجتماع، على كل الحاضرين.
 كان من بين الأعضاء، رجل فى سن الكهولة، حسن المنظر، كان اسمه عبد الحميد عبد الرحمن، وكان موسيقاراً وذا منصب فى الإذاعة، كما كان الأستاذ حسن فايق - العضو الأكبر سناً والذى يرأس الجلسة، ولم أعد أذكر ماذا كانت وظيفته. كما كان هناك عضوان آخران، نسيت اسميهما كذلك.
 بدأ الاجتماع بكلمة من الأستاذ رجائى، يقدمنى فيها إلى الحاضرين بصفتى عضواً جديداً فى المجلس، نائباً عن بنك مصر، ويهنأنى، ويتمنى لى التوفيق، وأنضم باقى الحضور إلى ذلك بالتصفيق.
 ثم بدأت الجلسة. وكانت كلها تدور حول ما تم إنجازه من آخر أعمال الشركة، وإنجازاتها فى إنتاج فيلم "واإسلاماه". وقال رجائى، إن أخر أعمال المكساج قد تمت منذ يومين فقط، وستبدأ مرحلة طبع النسخ وإعدادها للعرض فوراً، وأننا مدعوون اليوم، بعد انتهاء الاجتماع إلى مشاهدة نسخة العمل من هذا الفيلم الكبير.
 ثم قام رجائى، ومعه فتحى حسن، بعرض الكثير من البيانات والأرقام عن تكاليف هذا الفيلم، وما تم إنفاقه فى إنتاجه حتى الآن، وعن الإيرادات المتوقعة من توزيعه، ونصيب الشركة منها... إلخ.
 تلقى الحاضرون هذه البيانات بصورة محايدة، ولم يكن لديهم شيئاً يقولونه. وكاد الاجتماع أن ينتهى، إلا أننى طلبت الكلمة، فأعطانى رئيس الجلة الأذن بالكلام، فقلت:
 -أهنئ الشركة على هذا الإنجاز، وأشكر كل العاملين فى الفيلم على ما بذلوه من جهد، ولكنى - ربما نظراً لحداثه عضويتى فى مجلس الإدارة - أشعر بأننى لا أعرف شيئاً عن ظروف هذا الإنتاج. وقد سمعت أنه إنتاج مشترك بين الشركة وآخرين، لذلك أرجو أن يتفضل المسئولون فى الشركة، بإمدادى بنسخة من عقد الإنتاج المشترك، وكذلك بصور من كل الوثائق الهامة المتصلة بهذا الإنتاج. وذلك للعلم بها، وحتى أكون فى الصورة كما يقال.
 وكان واضحاً أن باقى أعضاء المجلس لم يطلعوا على تلك الوثائق أو العقود التى طلبتها، وأنهم يكتفون بسماع ما يقال لهم.
 وبادر محمد رجائى فقال:
 -نحن تحت أمرك يا توفيق بك فى كل ما تطلبه، وأنا أطلب من الأستاذ فتحى حسن أن يعد لك نسخة كاملة من ملف الفيلم، ليكون تحت يدك خلال يومين على الأكثر.
 وانتهى الاجتماع، ودعينا إلى الانتقال إلى مكان آخر من الأستوديو. صالة فسيحة، نصبت فيها موائد لتنازل الشاى والمرطبات وبعض المأكولات البسيطة، سندوتشات، قطع جاتوه، بيتى فور.. إلخ.
 ووجدنا هناك حشداً من الناس، العاملين فى الفيلم. كان فى مقدمتهم رمسيس نجيب، المنتج والموزع السينمائى الكبير، والشريك الأساسى فى إنتاج الفيلم، بل هو صاحب فكرته، والدينامو المحرك للإنتاج وكان رجلاً وسيماً حسن المظهر، لا تفارق الابتسامة شفتيه، وقد تقدم لمصافحة الحاضرين، وخصنى بتحية خاصة، تبين منها أنه كان قد علم بتعيينى حديثاً فى مجلس الإدارة، نائباً عن البنك. وكان هناك عدد من نجوم الفيلم: لبنى عبد العزيز، النجمة الحديثة وقتذاك فى السينما المصرية، والتى تزوجها بعد قليل المنتج رمسيس نجيب، بعد أن أشهر إسلامه، وكان يقال إنه قام بما قام به فى إنتاج هذا الفيلم، من أجلها، وإسناد بطولته لها. وكان هناك آخرون: أحمد مظهر بطل الفيلم، ورشدى أباظة الشريك فى البطولة، وحسين رياض، ومحمود المليجى، وعماد حمدى، ومن السيدات تحية كاريوكا، وزوزو حمدى الجكيم، وآخرون.
 بعد تناول الشاى، دعينا إلى مشاهدة نسخة العمل من الفيلم، التى تم إنجازها بعد عمل المونتاج والمكساج له، فى قاعة عرض صغيرة ملحقة بالبلاتوه الرئيسى للأستوديو، وقال لنا رمسيس نجيب قبل بداية العرض:
 -هذه نسخة عمل، وطبيعى أن تكون بها بعض العيوب الصناعية التى سوف يتم علاجها قبل إعداد النسخ الأخيرة من الفيلم، التى سوف تسلم للتوزيع، فأرجو المعذرة.
 وبدأ عرض الفيلم. كان فيلماً طويلاً، وكانت القصة عن رواية أدبية تاريخية رائعة للكاتب والشاعر الكبير، على أحمد باكثير، وكان السيناريو من وضع سيناريست أمريكى هو: روبروت أندروز، أما الحوار فكان من وضع الكاتب المصرى الشهير يوسف السباعى. وأما الإخراج فكان للمخرج الأمريكى أندرو مارتون، وكان يساعده أربعة من المخرجين المساعدين هم، حسن إبراهيم، فكرى إبراهيم، صالح فوزى، هنرى باترو، وكان الفنان الكبير شادى عبد السلام، هو القائم بالإشراف على اختيار الديكورات والملابس الخاصة بالفيلم. وكان الفيلم إنتاجاً مشتركاً بين شركة مصر للتمثيل والسينما (ستوديو مصر)، وشركة أفلام مصر العربية "رمسيس نجيب" وإحدى الشركات الإيطالية.
 كان الفيلم رائعاً من مختلف الوجوه، رغم أن النسخة التى عرضت كان بها الكثير من القطعات والوصلات، وقدرنا أنه بعد تلافى تلك العيوب، فإن الفيلم الذى سيعرض، سيكون رائعاً.
 وخرجنا من قاعة العرض بعد أن صفقنا طويلاً للفيلم، وللمشاركين فيه. وقبل أن ننصرف، حدثت واقعة طريفة ومفاجئة بالنسبة لى. إذ كان هناك عدد من الصحفيين الذين دعوا لمشاهدة الفيلم والكتابه عنه، وكان منهم الصحفى الكبير المتخصص فى الأمور الفنية والسينمائية، والناقد المعروف، عثمان العنتبلى، ولم أكن قد رأيته عند حضوره ونحن فى قاعة العرض المعتمه. بعد أن أضيئت الأنوار وخرجنا من قاعة العرض، فوجئت به يهرول ناحيتى ويأخذنى بالأحضان صائحاً:
 -محمود! سلامات، وألف مبروك. ولفتت هذه التحية وهذا السلوك أنظار الحاضرين، خصوصاً محمد رجائى، الذى وجدها فرصة ليعرف عنى ما كان ينقصه من المعلومات.
 كان عثمان العنتبلى معرفة قديمة من أيام إيزائيفتش، إذ كان يجلس معنا هناك، مع عمر رشدى والآخرين، وكانت قد نشأت بينى وبينه مودة وصداقة، وكان وقتها يشرف على الصفحة الأدبية بجريدة المصرى، وكان قد قام بنشر بعض الموضوعات النقدية لى بالصفحة الأخيرة لجريدة المصرى. ثم انقطعت الصلة بيننا لعدة سنوات، لا أشك أنه قد تابع أخبارى خلالها.
 وقد علمت اليوم أنه كان على صلة بمحمد رجائى، وكان يعتبر مستشاراً صحفياً للشركة. ولا شك أن محمد رجائى قد شعر، وهو يرى الحفاوة الكبيرة التى قابلنى بها عثمان العنتبلى، بارتياح كبير، إذ علم أنه قد عثر على منجم كبير للمعلومات التى يريد هو أن يعرفها عنى. ولم أنزعج كثيراً لهذا الأمر، إذ لم يكن فى تلك المعلومات ما يعيبنى، ولكنى لم أتوقع أن تذاع أمورى على هذا النحو، وبتلك السرعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق