ذكريات شاعر مناضل: 2- عندما مات شهدى عطية

2- عندما مات شهدى عطية


تعرفت على جمال عطية بعد خروجى من السجن بأقل من ثلاثة أشهر، ولم أكن قد رأيته من قبل. حضر إلى مساء يوم فى مكتبى بشارع الساحة، وعرفنى بنفسه قائلاً.
 -المهندس، جمال عطية.
 -تشرفنا. اتفضل.. وجلس فى المقعد المواجه لمقعدى.
 كنت أعرف شهدى عطية معرفة جيدة، فلاحظت الشبه الكبير بين جمال وشهدى. نفس الطول، ونفس العرض، ونفس الهيئة، ونفس الملامح والتقاطيع، فولة وانقسمت نصفين. ولاحظت أيضاً أن اسمه - جمال عطية، يتطابق مع اسم شهدى فى اسم الأب. لاحظت كل ذلك، فقلت له:
 -هو حضرتك شقيق الأستاذ شهدى عطية الشافعى؟
 لم يبد على الرجل الاستغراب لسؤالى، فهو يعرف دون شك أن شكله واسمه يكشفان عن الحقيقة. فابتسم وقال:
 -ينور عليك، أنا فعلاً الشقيق الأصغر لشهدى. هو حضرتك تعرفه؟ نهضت من مقعدى، وأعدت مصافحته. وأخبرته عن علاقتى بشهدى، فبدأ عليه الارتياح، ثم بدأ فى عرض مشكلته على، قائلاً:
 -إذن فسوف استغل هذه الفرصة لأرمى بكل مشاكلى وهى كثيرة وثقيلة. فهل أستطيع ذلك؟
 قلت له:
 -الله المستعان، تفضل.
 روى لى جمال قصته، بل مأساته، قال:
 -أنا مهندس، حاصل على شهادة عالية من معهد هندسى عالى، وكنت أعمل فى وظيفة حكومية ولكنى أثرت بعد سنوات قليلة أن استقيل منها لأعمل فى الأعمال الحرة. فى أعمال المقاولات بالذات. عملت فيها أكثر من خمسة عشر عاماً وحققت نجاحاً لا بأس به، ولكن الحظ ما لبث أن انقلب ضدى، فتوالت على الخسائر والمشاكل حتى أكلت كل ما كنت قد حققته من النتائج. وارتبكت أحوالى وتراكمت على الخسائر والديون والمشكلات. ثم عرفت الطريق إلى أقسام الشرطة والنيابات ومحاكم الجنح، والمحاكم المدنية. قدمت ضدى بلاغات بالنصب والتبديد وخيانة الأمانة. واستطعت الخروج من معظمها سالماً والحمدلله. ولكن - ما كل مرة تسلم الجرة. فبعضها، وهو كثير، آخذ طريقه، وآخذنى معه إلى المحاكم. تعاملت مع كثير من المحامين، فأكلونى لحماً ورمونى عظماً. جردونى من كل ما كان معى من أموال، ومن كل ما أستطعت الحصول عليه من أبى وأخوتى. ولما توقفت عن إعطائهم ما يريدون من أتعاب، سلمونى ملفات القضايا لأتصرف فيها. فى البداية، بدأت أحضر فى تلك القضايا وحدى ودون محام يساعدنى ويدافع عنى، ومعظم القضاه كانوا يؤجلون القضايا وينصحونى بتوكيل محام وإلا سوف أتعرض للسجون لا محالة. وقد جئت إليك بلا سابق معرفة، عندما قرأت لافتة مكتبك وعلمت من البواب أنك فتحت مكتبك حديثاً فى هذه العمارة. فلما قابلتك، وعرفت منك أنك تعرف شقيقى شهدى، شعرت بأن القدر هو الذى ساقنى إليك لإنقاذى. ولو كان شهدى حراً، لكان قد وقف إلى جانبى وساعدنى على الخروج من هذا المأزق، ولكنه - كما تعلم، ملقى به فى غياهب السجن..
 وتوقف جمال عن الحديث، ثم بدأ يبكى وينتحب، وأخذت دموعه تنهمر بصورة غريبة، وكأن فى عينيه صنبوراً يسح بالدموع. قلت له لأواسيه:
 -كفى بكاء يا جمال. لقد وعدتك بالمساعدة، وسوف أقف إلى جانبك طالما أنت فى حاجة إلى. اعتبرنى أخاً لك مثل شهدى، وتوكل على الله، إذهب وأحضر لى ملفات تلك القضايا، وأرم حمولك على الله، وعلى العبد لله.
 قاطعنى جمال قائلاً:
 -بس عاوز أقول حاجة، أنا مفلس..
 قاطعته بقولى:
 -يا جمال.. اعتمد على الله، وروح هات الملفات.
 قام جمال، وتقدم فصافحنى، ومال على رأسى يقبلها. ثم انصرف. وفى مساء اليوم التالى عاد إلى وهو يحمل عدداً كبيراً من الملفات، مختلفة الألوان، ومربوطة بحبل. وقام بفك الحبل، وبدأت ألقى عليها نظرة عاجله. وكانت حوالى عشرين ملفاً، على كل منها اسم أحد المحامين. حوالى خمس أو ست محامين. وقرأت ما هو مكتوب على الغلاف فى كل منها. اسم المحكمة، اسم الخصم، نوع القضية، سجل الجلسات السابقة، تاريخ الجلسة القادمة وسبب التأجيل. بحر من المشكلات العويصة المعقدة. كانت هناك العديد من القضايا مؤجلة ليوم واحد فى محاكم مختلفة. وكثير منها - مطلوب فيها مذكرات أو مستندات. أحسست بأن الدنيا تنهار فوق رأسى. ولكنى تمالكت نفسى، وقلت لجمال:
 -يا جمال، أنت ترى أنه ليس معى أحد يساعدنى، لا محامى، ولا كاتب. ومن الآن أنت ستكون مساعدى. سأحضر فى القضايا بقدر استطاعتى، أما باقى القضايا، فسأكتب لك فيها نوته لإنابة محامين آخرين توزعها عليهم قبل الجلسة فى قاعة الجلسة، ليثبتوا حضورهم معك بالنيابة عنى، ويطلبوا من المحكمة ما سوف أكتبه لهم فى النوتة. وهذا نظام وعرف متبع بين المحامين. قال جمال:
 -عارف. قله له
 -تمام، وسوف أكلفك أنت بإنجاز بعض الأعمال التى يقتضيها الدفاع عنك، نسخ الأوراق والمذكرات التى أكتبها أنا، فى مكتب للآلة الكاتبة مجاور لنا هنا، تقديم أوراق إلى المحضرين وكتبة المحاكم والنيابات .. إلخ.
 قال جمال وهو يتفهم الموقف:
 -حاضر .. حاضر.
 وهكذا بدأنا فى تنفيذ الاتفاق. وعلى مدى شهرين، كان جمال يحضر إلى مرتين أو ثلاث مرات فى الأسبوع، ليأخذ التكليفات. وفعلاً بدأت أحصل له على أحكام لصالحه فى بعض القضايا.. يا مسهل... وأخذت العجلة تدور.
...
  كان ذلك فى يوم 18 يونية سنة 1960، وكنت مازلت نائماً نوماً عميقاً كعادتى، حين أيقظنى رنين جرس الباب المتكرر، قمت من نومى ونظرت إلى ساعة يدى  فوجدتها تشير إلى السادسة. يا إلهى.. من السخيف الذى أيقظنى فى هذا الوقت، وتصورت أنه ربما كان بائع اللبن أو الزبال، وتوجهت لفتح الباب وأنا أنوى توبيخ الطارق على إيقاظى فى هذه الساعة، وإعاج نومى على هذه الصورة. فتحت الباب، فرأيت جمال وافقاً فتعجبت وتراجع غضبى، ثم طلبت منه الدخول، فرأيت أن الشخ الذى دخل، يشبه جمال، ولكنه لم يكن جمال. كان وجهه مكفهراً متغير الملامح زائغ النظرات، وكانت عيناه ككاسات الدم من شدة الاحمرار. تعجبت لأمره وسألته بإشفاق:
 إيه يا جمال .. مالك؟
 أجابنى وهو يجهش ببكاء مرير:
 -شهدى مات. أتقتل فى السجن.
 لم أستوعب الأمر جيداً، وكأنى أردت ألا أصدق، فظللت أنظر إليه مستفهماً وقد عجزت عن النطق. فقال بطريقة لا توحى بأى شك:
 -أتقتل أول إمبارح من شدة التعذيب. فضلوا يضربوا فيه بالشوم والكرابيج لحد ما مات. أخطرونا امبارح بموته، وطلبوا حضورنا لاستلام جثته. فأنا رحت المشرحة وشفت الجثة، لقيتها مليانة إصابات فى كل إجزاء جسمه، كأن أسداً افترسه. رفضت استلام الجثة ورحت النيابة، وحكيت لوكيل النيابة على اللى حصل، فقام بفتح محضر وقام معى إلى المشرحة وعاين الجثة وأثبت حالتها فى محضره، كان يملى على كاتب النيابة وصفه لحالة الجثة وهو يبكى. وأخيراً كتب لى رقم المحضر فى ورقة صغيرة سلمها لى، وقال إنه سيحيل المحضر إلى نيابة أمن الدولة، ولكنه نصحنى باستلام الجثمان ودفنه، خوفاً من مزيد من البهدلة، وأن إكرام الميت هو دفنه. واستلمناه الجثمان بعد غسله وتكفينه فى المشرحة، ثم قمنا بدفنه فى مقبرة الأسرة بالإمام الشافعى مساءً، فى حضور البوليس.
 وصمت قليلاً، ثم عاد يقول:
 -والآن.. ماذا نفعل. ما هى الإجراءات القانونية التى نفعلها؟
 أجبته بسرعة:
 -الإجراءات القانونية ليس وقتها الآن، المطلوب الآن هو فضح هذه الجريمة، فضحها فى مصر، وفى العالم كله. اتركنى لحظة أفكر:
 ثم أخرجت ورقة وقلماً من درج المكتب وبدأت أكتب:
 أول ما قفز إلى ذاكرتى هو بيت من شعر أبو تمام، الذى قاله فى رثاء محمد بن حميد الطوسى، فى رائيته الشهيرة، والذى جاء فيه:
 فتى مات بين الطعن والضرب ميتة
تقوم مقام النصر إن فاته النصر..
 وجدت أن هذا البيت ينطبق على الحالة التى نحن بصددها تمام الانطباق. وتبلورت فى ذهنى فكرة أن أكتب نعياً لشهدى يكون محوره الرئيسى هذا البيت. ولذلك قمت بكتابة النعى على النحو الآتى:
شهدى عطية الشافعى
 عطية الشافعى وأسرته ينعون بعد أن واروا عزيزهم فخر الشباب، الأستاذ شهدى عطية الشافعى مقره الأخير، ويقولون لمن واساهم فيه: لن نشكركم فالشكر لكم فى هذا الموقف نكران لوفائكم وشهدى وذكراه ملك لكم وأمانة فى ضمائركم.
 أما أنت يا عزيزنا الغائب فإننات نرثيك بهذا:
فتى مات بين الطعن والضرب ميتة
تقوم مقام النصر إن فاته النصر
تردى ثياب الموت حمراً فما دجى
لها الليل إلا وهى من سندس خضر
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده
إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنما
هو الكفر يوم الروع أودونه الكفر
 سلمت جمال هذا النص، وأعطيته ورقة وقلما، وطلبت منه أن ينقل هذا النص حرفياً بخط يده، وأن يجلس مكانى على المكتب ليقوم بهذا النسخ. فقام بذلك وهو غير مقتنع، وسألنى:
 -وماذا سيفعل هذا النعى؟ قلت له:
 -سيفعل الأعاجيب. سيقلب الدنيا رأساً على عقب. قال:
 -وكلن الصحف لن تنشره؟ قلت له:
 -اذهب به إلى جريدة الأهرام، وقدمه إلى الموظف المختص بتلقى نشرات النعى، ولا تقل له أى شئ. وسوف يتسلمه منك دون أن يقرأه أو يعرف ما فيه، وسوف يدفع به إلى المطبعة. قال جمال:
 -وكلن هناك الرقابة على الصحف؟ قلت له:
 -من حسن الحظ أن الرقابة لا تتدخل فى صفحة الوفيات.
 وكتب جمال نص النعى بخط يده. وكنت حريصاً على ألا يتقدم بالنص المكتوب بخط يدى، من باب الحرص والحذر، وخوفاً من أن يتخذ ذلك دليلاً على قيامى أنا بكتابة هذا النعى، مما يعرضنى - فى ذلك التوقيت - إلى خطر عظيم، حده الأدنى أن أعاد إلى السجن بجرة قلم.
 راجعت ما كتبه جمال، فلم أجد به أية أخطاء. فطلبت من أن يذهب به إلى جريدة الأهرام دون تأخير. وقد فعل.
 سارت الأمور على النحو الذى تصورته وتمنيته، وبعد يومين بالضبط، أى فى صباح يوم 20 يونية، تناولت جريدة الأهرام، وفتحتها على صفحة الوفيات، فوجدت النعى منشوراً بنصه فى مكان بارز من الصفحة، ورأيته خالياً من أى خطأ مطبعى، على خلاف ما يحدث كثيراً فى نشرات النعى. وتصورت أن عمال الجمع والتوضيب قد أضافوا، باهتمامهم وتعاطفهم، قدراً طيباً من الأثر الذى يتركه هذا النعى العجيب فى نفوس قرائه. وكان شكل النعى، وما به من شعر يصف الطعن والضرب، يحمل القارئ حملاً على الاهتمام به وقراءته بكل عناية.
 شعرت بارتياح عظيم، وكأننى قد نجحت فى إلقاء قنبلة ذرية على هؤلاء المجرمين الذين قتلوا شهدى ومن سبقوه من الشهداء، والذين عذبوا وأهانوا الكثير من ضحايا البطش والطغيان، سواء فى مصر أو فى غيرها من بلاد الله.
 وفى نفس اليوم شعرت بأن الدنيا قد تلقت الرسالة، فقامت ولم تقعد. كثير ممن رأيتهم فى ذلك اليوم أو ما بعده بأيام، كانوا قد قرأوا النعى وفهموه حق الفهم. قدرت أنه سوف يكون موضوع اهتمام للصحافة ووكالات الأنباء العالمية، وأن المجرمين قد أحيط بهم، وضبطوا متلبسين بالجرم المشهود، وأياديهم ملطخة بالدماء.
 كنت قد عرفت شهدى منذ أكثر من خمس سنوات، ورأيته مراراً وتكراراً فى دار الأبحاث العلمية التى كان يديرها بكفاءة منقطعة النظير. ثم رأيته بعد ذلك فى سنة 1947 وهو يرأس تحرير صحيفة الجماهير وسلمته بعض قصائدى فقام بنشرها، ثم رأيته عدة مرات فى سنة 1954 بعد خروجه من ليمان طره، أيام أن كنت مسئولاً سياسياً للجنة المركزية المؤقتة، ثم رأيته بعد ذلك فى سجن مصر فى أواخر عام 1959، عند حضوره - هو ومن معه من المتهمين فى القضيه الجديدة من سجن الوحات، استعداداً لترحيلهم إلى الإسكندرية لمحاكمتهم أما المجلس العسكرى هناك. وكانت آخر مرة رأيته فيها كانت بسجن مصر يوم الإفراج عنى فى 29 ديسمبر 1959، حين قابلته هو والزملاء القياديين الآخرين - مبارك عبده فضل، وإبراهيم عبد الحليم، وأطلعتهم على نبأ خروجى فى ذلك اليوم، وبأننى - رغم إدراكى بأننى لن أستطيع العمل الحزبى التنظيمى، لخروج ذلك عن حدود قدرتى وقدرة أى شخص آخر فى الظروف الراهنة، إلا أننى أتعهد رغم ذلك ببذل كل جهدى فى خدمة القضية بصفة عامة. وأذكر أنه كان متحمساً لما قلته، كما كان ذلك أيضاً رأيى الزميلين الآخرين. وأحسست بأن شهدى يعرف الآن، ما فعلته من أجله، وأننى لم أتخل عن واجبى نحوه ونحو القضية، ونحو سائر الزملاء.
 لم أكن قد عرفت بعد تفاصيل ما حدث لشهدى ورفاقه بسجن أوردى أبو زعبل، صباح يوم 15\6\1960، والذى وقع بسببها شهيداً، كما أصيب عدد كبير من رفاقه إصابات بالغة، ولكنى عرفت كل ذلك تفصيلياً فيما بعد. عرفته من الروايات الشفوية التى وصلت إلى، ثم بعد ذلك من الروايات المكتوبة التى قدمها العديد من الرفاق، ومنهم بعض شهود العيان الذين شهدوا ذلك اليوم المشئوم ونالهم الكثير من العذاب والإهانه التى حدثت فيه.
  قرأت ما كتبه الكاتب المبدع صنع الله إبراهيم، والذى كان زميلاً لشهدى فى تلك القضية، وفى اليوم المشئوم، فى كتابه "يوميات الواحات". الذى جاء فيه:
 -"نقلنا عقب انتهاء المحاكمة مباشرة إلى معتقل أبى زعبل الملحق بالليمان الشهير فى ضواحى القاهرة، ولم يكن أغلبنا يعلم أن إحدى الصفحات السوادء فى التاريخ السياسى المصرى الحديث تكتب فيه.
 "غادرنا الإسكندرية بعد منتصف ليلة 15 يونيو فى سيارات الترحيلات الكبيرة المغطاه. وجاء نصيبى فى سيارة واحدة مع شهدى الذى تميز بقامة طويلة وعظام عريضة بينما كنت ومازلت نحيف البنية ضئيلها، ولهذا السبب اختار أن نشترك سوياً فى القيد الحديدى لمعمينا. وقضينا الوقت فى حديث عن الكاتب الأمريكى هيمنجواى. وكان يرفع يده بين الحين والآخر ليتناول مشطاً صغيراً من جيب سترته الأعلى، ويمر به على شعره الخفيف، وهى عادته فى لحظات القلق.
 "وصلت بنا السيارات فى الخامسة والنصف صباحاً إلى ساحة تحيط بها أكوام من القاذورات، وتشرف عليها فرقة من الجنود المسلحين بالمدافع الرشاشة والضباط المزودين بالسياط فوق خيولهم، يقودهم حسن منير مدير الأوامر - التى تخللتها الشتائم - بالجلوس القرفصاء، وخفض الرءوس. ومن الطبيعى أن رأس شهدى كانت بارزة بسبب طول جسمه، فصاح به أحد الضباط وهو يضربه بالعصا على عنقه (عرفت فيما بعد أن أسمه النقيب مرجان اسحق مرجان).
 -وطى راسك يا ولد.
 -ولمحته بطرف عينى يضرب شهدى بالعصا على رقبته، وأنهال ضابط آخر بالسوط على بهيج نصار الذى كان قريباً منى ولا يتحكم عادة فى تعبيرات وجهه وهو يصيح به:
 -انت مشمئنط ليه يا بن القبحة.
 انصرمت ساعة ونصف ونحن على هذا الوضع حتى لم أعد أشعر بساقى. ثم سمعت صوتاً يصيح:
 -فين هو شهدى؟
 ولعله ظن فى تلك للحظة أن تدخلاً سياسياً ما قد تم وأنه استدعى لحوار سياسى أو لاستثنائه من التعذيب، بحكم سنه ومكانته الاجتماعيه والسياسية. ولكن النداء عليه لم يكن إلا إيذاناً ببدأ الحفل".
  ويبدأ صنع الله فى وصف حفل التعذيب الذى جرى للمعتقلين، على يد نفر من الزبانية من الضباط والجنود، المسعورين الهمووسين، من مختلف الرتب العسكرية، وبمختلف أنواع العصى والهراوات والسياط تحت إشراف لواء شاذ الملامح والتصرفات، هو إسماعيل همت، ضرب على الرءوس والأعناق والأجسام، وإلقاء فى مصرف ماء قذر وغمر للرءوس فيه، هذا عدا الشتائم والإهانات:
 -أجرى يابن الكلب.
 -انت شيوعى يا ابن الكلب، قول أنا مرة.
 -اسمك يا ولد، قول أنا مرة.
 اسمك يا بن القبحة.
 -نام على ظهرك، قول أنا مرة.
 -قول أنا مرة.
 ويستمر ذلك لعدة ساعات.
 -وهكذا - إلى أن سقط شهدى قتيلاً، كما أصيب عدد آخر بإصابات بالغة.
 ...
 ومع ذلك، فقد استمر جو الهيستريا إلى اليوم التالى، ولكن:
 -" ولحسن الحظ أن الموقف تغير تماماً بعد لحظات، إذ اقتحمت النيابة مبنى المعتقل، وأمام مكاتب صغيرة انتشرت فى ساحة المعتقل أدلينا جميعاً بشهادتنا عما حدث".
 ثم يفسر صنع الله هذا التغير التام فى الموقف، فيقول:
 -كانت زوجة شهدى قد اقتفت أثرنا من الإسكندرية إلى أبى زعبل فى سيارتها الخاصة، وسمعت من الحراس بمصرع زوجها. وظهر نعى له فى جريدة "الأهرام" (لم تكن الرقابة المفروضة على الصحف تهتم بصفحة الوفيات، وتضمن النعى - الذى أعده الشاعر محمود توفيق - السجين الشيوعى السابق، وصهر يوسف صديق - عدة أبيات من شعر أبى تمام فى الرثاء، استلهمت بهذا البيت:
 فتى مات بين الطعن والضرب ميته
تقوم مقام النصر إن فاته النصر
 "ألمحت هذه الأبيات إلى الظروف التى جرى فيها مصرع شهدى. وتناقلت وكالات الأنباء الخبر. وكان عبد الناصر وقتها فى بلغراد، ودعاه تيتو لحضور مؤتمر شيوعى، ووقف مندوب يوغوسلافى وسك الجلسة المهيبة ووجه التحية إلى ذكرى الشهيد الذى قتل فى مصر بسبب التعذيب". وتعرض عبد الناصر لسؤال من أحد الصحفيين عن الأمر فقال:
 لم نقتل أحداً، والذى يخرج على النظام يقدم للقضاء العادل.
 ولكنه أبرق لوزارة الداخلية فى القاهرة بإجراء تحقيق عاجل فى الحادث، ووقف التعذيب، وترحيل المعتقلين إلى مكان أكثر أمناً".
 ...
 لقد كتب العديدون من الكتاب قصة وفاة شهدى، بدرجات مختلفة من الدقة والأمانة. ولكن ما كتبه صنع الله إبراهيم، كان ومازال هو أصح وأدق وأكثر هذه الكتابات نزاهة وأمانة وموضوعية. ولم يكن ذلك فقط لأنه شاهد رؤية وحضور للأحداث، وإنما لأنه كاتب حر الضمير، حر الفكر، لم تلون شهادته الأضغان والأهواء. وربما أيضاً لأنه لم يكن مؤرخاً، ولا كان من حملة الدكتوراه، التى تبيح لكثير من حملتها، أن ينظروا إلى الأحداث التى يقومون بتأريخها، من خلال ذواتهم المتضخمة. وصدق النابغة الذبيانى حين قال: وما آفة الأخبار إلا رواتها.
...
 لم أكن، وأنا أتصدى لمسئولية التأر لدم شهدى عطية، وفضح جريمة قتله، وتعذيب وإهانة المئات من المسجونين والمعتقلين، الشيوعيين وغير الشيوعيين، لم أكن وحدى، وإنما كان معى توفيق الله وعونه، وهو القائل لرسوله الكريم: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". صدق الله العظيم". فهو الذى ألهمنى أن أفكر فى طريقة لفضح الجريمة والمجرمين، من خلال ثغرة ضيقة فى جدار التعتيم والتجهيل الإعلامى، وهى ثغرة عدم وضع نشرات النعى والوفيات، تحت سلطة الرقابة، كما ألهمنى أن أصوغ نعى شهدى على هذا النحو الجامع المانع، الذى أدى الغرض منه من أقرب الطرق.
 كذلك كان معى عمى الشاعر العظيم، أبو تمام الطائى، الذى ألهمنى شعره بهذا القول العبقرى الذى فتح أمام النعى الذى قمت بصياغته، كل الأبواب، للذيوع والتأثير. وقد كنت وما أزال، من أخلص تلاميذ أبى تمام، واعتبره كما اعتبره الكثيرون على مر العصور، من أعظم شعراء العربية، ولعل أعظم ما تركة أبو تمام لنا، هو قوله عن الشعر والشعراء:
 ولولا خلال سنها الشعر مادرى
بناه العلا من أين تؤتى المكارم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق