ذكريات شاعر مناضل: 9- فى دوامة الحياة

9- فى دوامة الحياة


  كانت سنوات عملى فى قطاع التوزيع ودور العرض السينمائى، سنوات من العمل الشاق، فقد كان العمل القانونى فى ذلك القطاع عملاً كثيراً ومعقداً ومتشابكاً. كنت أشرف على أعمال المحامين والموظفين فى الإدارة، فى دراسة القضايا وتحضيرها، ومباشرتها فى المحاكم والنيابات ومكاتب العمل، كما كنت أتولى بنفسى القضايا الهامة، فى محاكم الاستئناف والابتدائية ومجلس الدولة، كما أشرف على التحقيقات التى يجريها المحامون، وأتولى بنفسى التحقيقات التى تقتضى إشرافى المباشر. وكان نطاق عملى واسعاً، يمتد من القاهرة إلى الإسكندرية إلى المنصورة إلى بنى سويف إلى أسيوط، سواء للحضور فى القضايا الهامة فى محاكم تلك الجهات، أو لحضور لجان لتقييم دور السينما المؤممة فى تلك البلدان.
 وكان منير عبد الوهاب، وبعده محمد الدسوقى، حريصين على أخذ رأيى وإشراكى فى اتخاذ القرارات الهامة فى الأمور التى تعرض لهما فى عملهما، سواء كان لها صلة بالنواحى القانونية أم لم يكن، فقد كانا يعتدان بخبرتى فى مجال هذا النشاط بصفة عامة.
 ومع ذلك فلم أستفد مالياً بأى استفادة طوال هذه السنوات، منذ عينت مستشاراً قانونياً لشركة مصر للتمثيل والسينما فى عهد موسى حقى سنة 1961 إلى أن انتهت صلتى بمؤسسة السينما وشركاتها فى عام 1989، وكانت المائة جنيه العمياء التى حددت كمرتب لى منذ البداية، هى هى لم تزد جنيهاً واحداً. وكانت قد صدرت لائحة لنظام العاملين بالقطاع العام، اعتبرت مبلغ المائة جنية الذى أتقاضاه زائداً عما هو مستحق لوظيفتى - بسحب اللائحة - وعلى ذلك جمد مرتبى، وظلت كل علاوة أستحقها بموجب اللائحة، تخم من الزيادة التى أتقاضاها، لحين استهلاك هذه الزيادة مع الوقت، وهو ما لم يحدث أبداً.
 ظللت احتفظ بمكتبى للمحاماة مفتوحاً طيلة تلك السنوات، ولكنى لم أزاول فيه أى عمل فى البداية، إلى أن حصلت على تصريح كتابى من يوسف صلاح الداين، رئيس شركة التوزيع ودور العرض والذى كنت قد ألحقت للعمل بها، بالعمل فى المحامة فى غير أوقات العمل الرسمية، وكان هو نفسه قد حصل على تصريح مماثل من صلاح عامر، رئيس المؤسسة، بالعمل فى مكتبه للمحاسبة، وكان هذا أحد أفضاله على. وقد ساعدتنى بعض الموارد المالية المحدودة- التى كنت أحصل عليها من عملى المسائى فى المكتب، من مواجهة أعبائى المالية العائلية المتزايدة، خاصة وقد كبر أولادى الثلاثة وتزايدت احتياجاتهم زيادة كبيرة.
  فى تلك السنوات دخلت فى تجربة جديدة، فبحكم وجودى فى وسط سينمائى. وقربى من العمل السينمائى، كتبت قصيدة سينمائية اسمها "الجسر"، استوحيتها من العمل الهائل الذى كان يشغل مصر كلها، وهو مشروع بناء السد العالى، وكان يحمل دعايه غير مباشرة لمشروع السد وأثره المنتظر فى وقايه البلاد من أخطار الفيضانات العاليه، من خلال قصه قريه كان بغرقها فيضان النيل فى بعض الأعوام. وكنت قد أطلعت على هذه القصة بعض أصدقائى ومعارفى، ومنهم سعد كامل، الذى تحدث عنها مع المخرج توفيق صالح، الذى قرأها، وتحمس لها، وأخذها وقدمها بنفسه إلى المخرج صلاح أبو سيف الذى كان رئيساً لشركة فيلمنتاج للإنتاج السينمائى، طالباً التعاقد معى عليها وإسناد إخراجها إليه. وقد قامت الشركة بعرض القصة على لجنه القراءة بها. ووافقت عليها، واستدعتنى للتعاقد على شرائها، وتكليفى بكتابة السيناريو والحوار لها. وبالفعل تم إبرام التعاقد بين الشركة وبينى على ذلك.
  قبضت مبلغاً طيباً من شركة فيلمنتاج ثمناً للقصة، ودفعة من أجرى عن السيناريو والحوار، وبدأت فى كتابتهما بالفعل. غير أنى فوجئت بموقف شديد العداء والعدوانية من الأخ توفيق صالح، احترت وقتها فى فهمه أو تفسيره، إلى أن أستطعت بعد ذلك معرفة توفيق صالح وفهم تصرفاته ودوافعه على نحو أفضل. كان توفيق مخرجاً موهوباً وواعداً، وكان قد أخرج فيلماً اسمه "درب المهابيل" حقق نجاحاً فنياً ملحوظاً، رغم فشله الجماهيرى والتجارى، كما كان قد أخرج بعض الأفلام التسجيلية الناجحه. ولكن توفيق كان قد حقق سمعة غير طيبة فى طريق تعامله مع الآخرين، فى سرعة غضبه، وحدته المفرطة فى التعامل معهم، وإذ كانت السينما تقوم على العمل الجماعى، وتتطلب التوافق والمرونة، فقد أدى سلوم توفيق إلى كثرة مصادماته وخلافاته مع شركائه فى العمل، فتعثرت مسيرته السينمائية. وأذكر أن صلاح أبو سيف كان قد حذرنى من ذلك وقت أن ذهبت إليه لتوقيع العقد، قائلاً لى:
 توفيق صالح شخص صعب جداً، وأنا أحذرك من التعامل معه.
 فقلت له:
 -بالعكس، أنا أراه شخصاً لطيفاً للغاية، وفناناً كبيراً أيضاً. فأبتسم صلاح وقال لى:
 -على خيرة الله، بكره نشوف.
 ومرت أيام قليلة، تطور فيها موقف توفيق صالح إلى رفض تام للتعاون معى، وأبلغ موقفه هذا إلى الشركة. فكان ذلك مبعث سرور لصلاح أبو سيف، فقال لى:
 -عادى، هذا ما كنت أتوقعه، على كل حال نحن مرتبطون معك بعقد، ونحن سنحترم هذا العقد، وسوف نبحث للفيلم عن مخرج آخر. أسفت لموقف توفيق، وحاولت مراجعته فيه، ولكن عبثاً، فقد ازداد موقفه تصلباً.
 أنهيت كتابة السيناريو والحوار، وسلمتهما إلى الشركة. فقامت بنسخهما من عدة نسخ، ثم قامت بتوزيعهما على عدد من السينمائيين المقتدرين: حسن رمزى، المخرج والمنتج، عاطف سالم، فطين عبد الوهاب، المخرجان. ولم أفاجئ عندما قرأت التقارير التى كتبوها عن النص. أجمعت آراؤهم على الإشادة به، عن القصة والسيناريو والحوار معاً، وعن صلاحيته للبدء فوراً فى إنتاجه، دون حاجة إلى أى تعديلات. ثم علمت أن الشركة قد بدأت فعلاً فى تنفيذ الفيلم وتعاقدت مع: حسن رمزى على القيام بعمل المنتج المنفذ، وعاطف سالم على الإخراج، وعبد الحليم نصر على إدارة التصوير. وشرع هؤلاء فى العمل على الفور.
 كان من أول الأعمال أن انتقل معى طاقم العمل: المنتج حسن رمزى ومعه عدد من مساعديه، والمخرج عاطف سالم وعدد من مساعدى الإخراج، وعبد الحليم نصر، وعدد من مساعدى التصوير، انتقلوا جميعاً معى فى عدد من السيارات، إلى المواقع التى اقترحتها لتصوير أحداث الفيلم، وهى فى قريتى زاوية المصلوب، وبعض المناطق حولها، حيث تمت المعاينات والاختبارات، واتفق على صلاحيتها، بل وجرى تصوير الكثير من المشاهد المتصلة بأحداث الفيلم، الفيضان، والجسر، وما يتصل بهما من مشاهد. واستغل بعض أقاربى هذه الفرصة: أخى محمد، وابن خالتى أحمد عبد الحليم، فأقاما وليمة غداء كبيرة لجميع الطاقم الذى جاء للمعاينة والتصوير، حيث نحرت ذبائح، وظهر الكرم الصعيدى فى أجلى معانية، وظل حسن رمزى سنوات يتحدث عن ذلك كلما قابلنى أو قابلته.
 ولكن للأسف الشديد، ما لبثت بعض الأغراض والعوامل التى لم أعرفها فى ذلك الوقت، بل وحتى الآن أن تدخلت لوقف إنتاج الفيلم، فتعثر إنتاجه.
 كل ما استطعت استنتاجه وقتها، هو أن هذا الفيلم قد وصف وقتها بأنه "فيلم شيوعى"، وكان ذلك كافياً وقتها لوقف إنتاجه. كان ذلك فى وقت الفيضان سنه 64، وكان هذا هو آخر فيضان للنيل إذ توقف الفيضان بإقامة السد العالى فى سنة 1965، وبذلك تعذر عمل الفيلم لتعذر تصوير مشاهد الفيضان.
 ومما يذكر أنه بعد ذلك بعامين، حين تغيرت الأوضاع وجاء الدكتور ثروت عكاشة إلى وزارة الثقافة، وبدأ يعمل على انتشال السينما من وهدتها، فقد أمر بإدراج فيلم "الجسر" فى قائمة أوائل الأفلام التى يعتزم الدفع بها إلى الإنتاج، واعتمدت هذه القائمة بمعرفة المؤسسة التى كان قد أعيد إنشاؤها من جديد، وأسند إخراج الفيلم إلى المخرج الراحل سيد عيسى، الذى كان متحمساً لإخراجه. ولكن الموضوع ما لبث أن تعثر مرة أخرى. وما لبث أن دخل فى ظلمة النسيان، ولم يبق من مشروع فيلم الجسر، غير النص الذى مازال عندى، ومجموعة اللقطات المصورة من فيلم فى موسم فيضان سنة 1964، التى يفترض أن تكون مودعه فى معامل مدينة السينما، وأرجو أن تكون مازالت هناك.
...
 لم تمر تلك السنوات، من عام 1961 إلى عام 1965 فى العمل المهنى، القانونى والسينمائى فحسب، ولكنها اتسعت أيضاً للنشاط الإبداعى فى مجال الشعر. فى تلك السنوات فاضت ينابيع الشعر بالكثير من القصائد.
 -فى عام 1961 كتبت قصيدة "فى قطار الصباح" ونشرت فى جريدة الأخبار فى يناير 1961، وهى قصيدة عاطفية فلسفية كان مطلعها:
 كان يمضى فى مراح وانطلاق..كحمامة.
كجواد أشهب أرخت له الريح زمامه.. إلخ
  وجاء بها:
 ما الذى جاء بنا كى نلتقى من غير موعد
فتلاقينا بلاسعى وعين الحب تشهد
لحظة..ظلت بها أيامنا تشقى وتسعد
جذوة..شبت بها فى القلب نار تتجدد
حبة..ألقت بها الأقدار فى حقل ممهد!.
وفى ذلك العام أيضاً كتبت قصيدة "إلى جاجارين" التى نشرت بجريدة الأخبار بالقاهرة يوم زيارته للقاهرة فى سنة 1961، وكان مطلعها:
تحى شبابك كل الشعوب
وتهتف باسمك كل الدول..
 وأنت هنالك بين الجموع..
وبين الغناء..وبين القبل
وحولك ترقص كل القلوب..
على رنة الفرح المتصل
إليك جاجارين يهدى القصيد..
وتهدى إليك زهور الأمل..
   وجاء فيها:
خرجت وحيداً تشق الطريق..
إلى عالم منذر بالخطر..
وفى ساعة فذة فى الزمان..
تلاقى حواليك كل البشر..
تلاقوا على لهفة الأقربين..
إلى عودةالغائب المنتظر..
تلاقوا على فرحة الناظرين..
إلى وجهك الباسم المنتصر..
إلى عالم مشرق بالجلال..
يضئ خلال غد مزدهر..إلخ
 وعلمت أن هذة القصيدة قد ترجمت إلى اللغة الروسية ولغات أخرى، ونشرت فى عدة صحف أجنبية فى تلك الفترة.
 -وفى ذلك العام أيضاً كتبت قصيدة "إلى لومومبا الشهيد"، فى رثاء المناضل الأفريق العظيم، البطل الشهيد باتريس لومومبا، ونشرت فى حينها فى صحيفة الأخبار بالقاهرة، وجاء فى مطلعها:
 فليكن شعرى كأنات الجراح..
فليكن شعرى كأنفاس الرياح..
فليكن أحزان ليل حائر..
فليكن دمعاً على خد الصباح..
...
     وجاء فيها:
فليكن لوعة حب ضائع
عصفت فى قلب "بولين المصاب"..
حين قت فى حداد شعرها..
ومشت حافية فوق التراب..
تطأ الأشواك من لوعتها..
وهى تمشى فوق صخر وحراب
بعثت إيزيس من مرقدها..
ومشيت فى الأرض سوداء الإهاب
وعلى الثغر سؤال حائر..
وعلى الوجه ضياع وعذاب..
  -وبولين هى زوجة لومومبا، والوصف هو ما جاء عنها فى الحف العالمية والمصرية.
  -وجاء فيها أيضاً:
فليكن صيحة حزن وانفعال..
صيحة جاش بها صدر جمال
إذ مضى والأرض نار حوله..
طالباً ثأر أخيه فى النضال
حمل العبء على كاهله..
وهو يمشى تحت أعباء ثقال.. إلخ
 -وفى عام 1962 كتبت قصيدة "فى مكان ما" - وهى قصيدة مطولة، ذات ظاهر عاطفى. ولكنها ذات محتوى فلسفى. وقد نشرت فى مجلة "المجلة" التى كان يرأس تحريرها الكاتب الكبير يحيى حقى، فى تلك الفترة، وكان مطلعها:
ها أنا أرنو إلى نفس الرؤى..
ها أنا أمشى على نفس التراب
ها هو المشهد حولى قائم
لم تغير منه أيام العذاب
وكأن القلب لم يعرف به..
حسرة عاش بها عبر الشباب..
حسرة لم تنطفئ نيرانها..
وشباباً راح من غير مـأب!.
 -وفى عام 1964 كتبت قصيدة بعنوان "قصيدة للسد" تتحدث عن ملحمة بناء السد العالى، وقد نشرت بجريدة الأخبار فى حينها، وجاء فى مطلعها:
المارد الجبار خلص ساعديه من القيود..
وأزاح أستار الظلام..وقد أغلال الحديد..
ومشى يتيه على الضفاف بنشوة الأمل الجديد
ومضى يقيم السد جباراً على أقصى الصعيد..إلخ
 -وفى أكتوبر سنة 1964 كتبت قصيدة بعنوان "إلى جمال"، كانت هى المقدمة للطبعة الأولى من ديوانى الأول "أعياد"، الذى نشر فى تلك السنة. وجاء فى مقدمتها:
 كخضرة الربيع فوق سهلنا الخصيب
كنضرة الصباح فوق أفقنا الرحيب..
كرقة النسيم فوق نيلنا الحبيب..
يطوف صوتك الذى يجيش فى القلوب..
  وجاء فيها:
يدعوك شعبك الذى يعيش للنضال
يا قائد النضال..يا محرر القنال
يا باعث آمال فى القلوب يا جمال.
حقق بنا بقية الأهداف والآمال..
...
يدعوك كن حرباً على الأغلال والقيود..
على بقايا الظلم..والطغيان..والجمود..
على الذين أجرموا فى سالف العهود..
على الوصوليين كى لا تسلب الجهود.. إلخ
 -وفى مايو سنة 1964 كتبت قصيدة عنونها "لقاء الأحرار" وهى قصيدة مطولة، تحدثت فيها عن زيارة خروشوف، الزعيم السوفييتى للقاهرة لحضور حفل افتتاح مشروع السد العالى، وتحويل مجرى النهر، وتشتغل محطة توليد الكهرباء العملاقة، وقد نشرت هذه القصيدة بجريدة الجمهورية يوم وصول خروشوف إلى القاهرة، وتركت أثراً بعيداً فى العديد من الأوساط الأدبية والسياسية، سواء فى مصر أو فى الاتحاد السوفييتى. وكان نشرها بجريدة الجمهورية - التى كان مدير تحريرها الأديب سعد الدين وهبه - حينذاك، بداية تعارفى به، ثم صداقتى معه بعد ذلك.
 وجاء فى مطلع القصيدة:
أهو الربيع يطل فوق ربوعنا..
أم ذلك وجهك كله أضواء!
أهلاً بداعية السلام ومرحباً
سعدت بركبك أرضنا الخضراء
لم يأت ركبك فى الغزاة وإنما
تحدو الركاب صداقة وإخاء.. إلخ
  -وجاء في ختامها:
من عهد "مينا" لم يطوع عزمه(عن النيل)..
عزم ولا غلب المضاء مضاء
حتى تخلت مصر عن أغلالها..
وأظلها للثائرين لواء..
ولدت جمال وأرضعته غرامها
فغرامها فى قلبه مشاء
فمضى يقود إلى الخلاض مصيرها
ولكم تحرر أمها الأبناء
ضم الفوف ورد عادية العدا
فنفوسهم من غلها سوداء
وسعى إلى أركانها فأقامها
فبكل ركن ثورة..وبناء
يمشى على أرجائها..ووراءه
يمشى الربيع..فخطوه إحياء.. إلخ
 -كانت تلك هى معظم القصائد التى كتبتها فى تلك السنوات. على أن أهم ما يمكن ذكره عنها، هو ظهور الطبعة الأولى من ديوانى الأول "أعياد". فى عام 1964. وقد تأخر هذا الظهور لسنوات طويلة، إذ كنت لسنوات طويلة قبلها أرسف فى أغلال السجون والمعتقلات والتشرد، ولم تكن تلك بالقطع ظروفاً مواتية لى لنشر دواوين شعرية، وتلك من الضرائب التى كان على مثلى أن يدفعها من سنوات عمره ومسيرته الأدبية والاجتماعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق