ذكريات شاعر مناضل: 10- مع التنظيم الطليعى

10- مع التنظيم الطليعى


  كانت أحوال النظام الناصرى تحيرنى، كانت أحوالاً متناقضة تستعصى فى حينها على الفهم.
 منذ أول سنة 1959 انخرط النظام فى حملة عنيفة متصاعدة ومتكررة الحلقات، من حملات العداء للشيوعية، تمثلت فى حملات الاعتقالات الواسعة المتلاحقة من السجن والاعتقالات للشيوعيين، والزج بهم فى المحاكمات العسكرية التعسفية، وانتهاج عمليات التعذيب الوحشى الممنهج ضدهم، مما ادى إلى قتل عدد منهم، منهم الدكتور فريد حداد، والمناضل محمد عثمان، وعدد آخر من المناضلين الشيوعيين، وكان آخرهم المناضل شهدى عطية الذى سقط شهيداً فى 15 يونية 1960، على النحو السالف ذكره، والذى كانت وفاته، وكشف جريمة قتله، سبباً فى وقف جرائم التعذيب الواقع على الشيوعيين. لم يخرج عن هذا السياق إلا واقعة الإفراج عنى فى 29 ديسمبر 1959، على النحو، وللأسباب التى ذكرتها فى حينها.
 هذا من جانب. أما من الجانب الآخر، فقد بدأ نظام عبد الناصر فى انتهاج سياسات مناقضة، تتجه كلها إلى أحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية متتالية، ترمى إلى إضعاف قبضة الرأسمالية، وتعزيز فرص الانتقال إلى نظام اشتراكى فى مصر:
  -ففى النصف الأول من ديسمبر عام 1960، أصدر النظام قراراً تاريخياً بتأميم بنك مصر وشركاته، وإلحاقها بالقطاع العام الاقتصادى، بعد أن كانت ركيزة أساسية للرأسمالية المالية والتجارية والصناعية المصرية الكبيرة. ومما يذكر أن هذه القرارات قد أعلنت أثناء محاكمة الشيوعيين من أبناء حدتو أمام المحكمة العسكرية بالإسكندرية، التى كان يرأسها اللواء هلال عبدالله هلال، وفى المحكمة، وقف شهدى عطية، المتهم الأول فى تلك القضية ليعلن باسمه واسم رفاقه، تأييدهم لإجراءات التأميم هذه، واصفاً إياها بأنها تساعد على الانتقال سلمياً إلى الاشتراكية.
 -وفى يوليو سنه 1961 صدرت مجموعة قرارت تضمنت تأميمات واسعة النطاق، لكثير من الشركات والمنشآت التجارية والصناعية فى مصر، ألحقت كلها بالقطاع العام، ومنها منشآت سينمائية كثيرة، وردت الإشارة إلى بعضها فيما تقدم.
 -وفى هذا التوقيت أيضاً، صدر قانون جديد مكمل لقانون الإصلاح الزراعى، تضمن النزول بالحد الأقصى للملكية الزراعية، إلى 50 فدناً للفرد، وإلى 100 فداناً للأسرة، أى لنصف ما كان عليه الأمر فى القانون الأصلى.
 -وفى مايو سنة 1962 صدر الميثاق الوطنى، بمثابة بيان لأفكار ومبادئ النظام، ولتوجهاته فى مختلف نواحى العمل الوطنى. وتضمن الميثاق النص على مبادئ تعتبر تحولاً كبيراً فى توجيهات النظام. منها: حتمية الحل الاشتراكى، ضرورة سقوط تحالف الرجعية مع رأس المال المستغل، وتحالف قوى الشعب العامل، وحقيقة وجود الصراع الطبقى وضرورة العمل على حله عن طريق العمل على تذويب الفوارق بين الطبقات..إلخ.
 وقد كان لهذه القرارات والخطوات صداها البعيد لدى الشيوعيين، وأعضاء حدتو بوجه خاص، فأصبح الفكر السائد بينهم يقول بوجود مجموعة بزعامة عبد الناصر فى قمة السلطة، تتبنى الاشتراكية، وتقترب رويداً رويداً من الاشتراكية العلمية، وتبلور هذا الموقف فى فكرة تنادى بضرورة العمل على توحيد قوى الاشتراكيين المصريين، الناصريين والشيوعيين، فى حزب واحد، وإنهاء الوجود التنظيمى المستقل للشيوعيين، بشرط وحد، هو إنهاء سياسة العداء للشيوعية. وهو موقف ظل مطروحاً ولكن معلقاً، لمدة سنتين أو ثلاث، إلى أن تم حسمه فيما بعد، على النحو الذى سوف نذكره فى حينه.
  كان أمر النظام الناصرى والتناقض العجيب بين توجهاته المختلفة يحيرنى ويثير عجبى. وكان يذكرنى بقصة تروى فى تاريخ الأدب العربى عن شخصية معروفة، هى شخصية النعمان بن المنذر بن ماء السماء، ملك الحيرة، والذى كان ممدوحاً للنابغة الذبيانى وغيره من كبار شعراء عصره. وكان معروفاً عن النعمان انه كانذا شخصية مزدوجه ومتناقضة، وكان يقال عنه إن دهره يومان، يوم سعد، ويوم نحس. ففى يوم سعده يفيض بشره وخيره على الناس، وفى يوم نحسه يفيض أذاه على كل من يلتقى بهم دون ذنب جنوه. وقد هممت عدة مرات أن أكتب قصيدة عن ظاهرة النعمان بن المنذر أعرض فيها لانطباعاتى عن هذه الشخصية، وبدأتها بمطلع يقول:
  دخلت ساحة النعمان يا رفاق..
دخلتها مع الأصيل..
على جواد أشهب جميل..
ولمأكن أعرف ما يخبئ القدر..
 ولكن للأسف، رغم محاولاتى المتكررة، لم أستطيع أن أكمل هذه القصيدة، ويبدو أن السبب، هو أن قصة عبد الناصر، والنظام الناصرى، لم تكتمل على أرض الواقع، ولذلك تعذر إكمالها فى عالم الشعر.
 ...
 فى أوائل سنه 1964 تلقيت مكالمة تليفونية من مكتب الأستاذ أحمد فؤاد -القاضى- ببنك مصر، تحمل دعوة منه لمقابلته، وتحديداً لموعد المقابلة. ولم أستطع أن استنتج شيئاً عن سبب هذه الدعوة لهذا اللقاء، فقد كانت العلاقة بيننا متوقفة منذ أكثر من عامين. لذلك توقفت عن التخمين، وذهبت للقاء.
 استقبلنى أحمد فؤاد استقبالاً طيباً، وبعد التحيات، والليمون، والقهوة، بدأ حديثه معى. قال:
 -لاشك أنك تتابع التطورات الهامة التى حدثت فى الوضع الاقتصادى والاجتماعى فى الأعوام الماضية، فالرئيس قد اتخذ خطوات كبيرة فى اتجاه التحول بالبلاد إلى الاشتراكية، وخلال ذلك اكتشف أن الاشتراكية يستدعى وجود حزب اشتراكى، يتكون من اشتراكيين حقيقيين، كما اكتشف أن الاتحاد الاشتراكى القائم لا ينطبق عليه هذا الوصف إلا بالاسم فقط، وأنه صورة من جهاز الدولة، مجرد بناء بيروقراطى متهالك. لذلك فهو يريد أن ينشئ فى داخل الاتحاد الاشتراكى حزباً اشتراكياً حقيقياً، يبدأ بتنظيم جديد يضم عناصر اشتراكية يمكن الاعتماد عليها، على أن تعمل هذه العناصر خلال فترة مناسبة على التحول إلى حزب اشتراكى حقيقى، على أن يتم ذلك تحت عباءة الاتحاد الاشتراكى شكلاً. ولكن بصورة مستقلة فعلاً. ومن أجل ذلك سوف يكون هذا التنظيم، فى وجوده، وفى نشاطه، سرياً. وقد بدأ الرئيس، وهو رئيس هذا التنظيم، فى جمع العناصر التى تصلح لهذا العمل، وأنا من المكلفين بترشيح هؤلاء، وعرض أسمائهم على الرئيس للموافقة عليهم، على أن يتم إخطارهم قريباً بالواحدات التى سيلتحقون بها فى التنظيم الجديد، وهو التنظيم الطليعى. وأنا قد رشحتك لتكون عضواً فى هذا التنظيم، وقد وافق الرئيس عليك. فما رأيك؟
 قلت له وأنا لا أكاد أصدق ما سمعته منه:
 -رأيى أن هذا أمر أجمل من أن يصدق، وأنا أوافق وأرحب به، وأشكرك وأشكر الرئيس على حسن ظنكما، وأرجو أن أكون أهلا له. ولكنى أود أن أبدى ملاحظتين:
 -الأولى هى كيف نعمل من داخل الاتحاد الاشتراكى ونحن لسنا أعضاء فيه، وأنا شخصياً طلبت عضوية الاتحاد الاشتراكى أكثر من مرة، فرفض طلبى، بدعوى أننى معزول عن العمل السياسى، لسابقة الحكم على فى قضية شيوعية. قاطعنى أحمد فؤاد بقوله:
 -يا محمود، هذه حجه شكلية، فأنتم سوف تكونون قريباً قيادة للاتحاد الاشتراكى نفسه، ولستم مجرد أعضاء فيه والثانية؟:
 قله له:
 -والثانية هى مسألة السرية هذه، إذ على من ستكون هذه السرية، فى حين أننا سنكون حزب الرئيس نفسه؟
 أجابنى أحمد فؤاد بتؤدة؟:
 -هذه السرية يقتضيها أنكم ستكونون حزب الرئيس نفسه، فالسرية مطلوبة لحمايتكم من كل أعداء الرئيس ونظامه الاشتراكى، وهؤلاء الأعداء كثيرون جداً وخطرون، وهم داخل النظام وخارج النظام، كل الأعداء سيكونون لكم بالمرصاد. مفهوم؟ أجبته:
 -نعم مفهوم، وأنا من الآن رهن الإشارة. قال:
 -إذن مبروك، وأهنئك، وسوف اتصل بك بعد أيام لأبلغك بالتفاصيل.
 وانصرفت وأنا فى غاية الدهشة والسرور. وبعد أيام استدعيت لمقابلة أحمد فؤاد الذى قال لى:
 -إن أسلوب التنظيم فى الحزب الطليعى سيكون هو التنظيم وفقاً لمجالات العمل. وأنت ستكون عضواً فى مجموعة من العاملين فى مجال السينما، وسيكون مسئول الاتصال فيها هو صلاح أبو سيف، وسوف يتصل بك هو قريباً.
 بعد أيام اتصل بى صلاح أبو سيف، وقابلته، وأبلغنى بما أبلغ إليه، من تشكيل مجموعة التنظيم الطليعى فى مجال السينما. واتفقنا على عقد الاجتماع الأول فى منزلى.
 فى الميعاد حضر أعضاء المجموعة، وكنت أعرفهم جميعاً، كانوا: صلاح أبو سيف، وأنا، وبكر الشرقاوى السيناريست والكاتب، وعبد القادر وحسن التلمسانى، وصلاح التهامى، وفؤاد التهامى، وسعد نديم، من رجال السينما التسجيلية المعروفين. شربنا المرطبات، والشاى، وأكلنا الجاتوه الذى كنت أنا الذى أحضرته كمضيف، ثم فتح صلاح أبو سيف حقيبة يده، وأخرج منها مظروفاً به أوراق فولسكاب زرقاء أنيقة وسلمها لى لأقرأ ما بها على الزملاء. كانت تلك هى النشرة الداخلية لتنظيم الاشتراكيين. كانت بها مجموعة من الأخبار التى كنا نعرفها، وبعض المقالات القصيرة عن: حتمية الحل الاشتراكى، وتحالف قوى الشعب العاملة، وغيرها من الشعارات الواردة فى الميثاق. ثم قال عن أهمية السرية فى عملنا. وكانت كلها مواد شديدة البساطة والسطحية والسذاجة. وكانت الأوراق كلها مرقمة بطريقة التخريم، وعلمنا أن ذلك ضماناً للسرية، إذ المفروض أن ترجع كل النسخ إلى مصدرها، وأن تراجع حتى لا يتم تهريب أى نسخة منها.
 حين بدأ اجتماع المجموعة بدأت المناقشات الحادة تدور بين الأعضاء، وكلها بلا استثناء، عبارة عن خلافات بين مجموعة التسجليين، وبين صلا أبو سيف. بصفته رئيساً لشركة فيلمنتاج، محورها اتهامهم له بأنه يهمل شأن إنتاج الأفلام التسجيلية فى الشركة، مرتكباً خطأ فادحاً فى حقهم، وفى السينما التسجيلية والسينما كلها. وضاع الاجتماع، واجتماعات كثيرة تالية فى هذه المشاحنات الحاده، العقيمة.
  عجبت فيما بعد، كيف أنه بعد اندثار التنظيم الطليعى، وفى معرض الهجوم عليه، مما قيل عن أن الدور الأساسى لأعضاء ذلك التنظيم، كان هو كتابة تقارير الوشاية بزملائهم فى العمل، وكيف كان الأعضاء يشون بهؤلاء الزملاء، والبعض يشى بأبيه أو زوجته أو أخيه، مبلغاً عنه السلطات لتقوم بالتنكيل به. وأشهد أن شيئاً من ذلك لم يكن يحدث فى مجموعتنا.
 بعد بضعة شهور طلب صلاح أبو سيف إعفائه من رئاسة المجموعة، وحل محله نجيب محفوظ، الذى كان مازال رئيساً لقطاع السينما فى مؤسسة السينما والمسرح والهندسة الإذاعية. كانت كل الاجتماعات تتم فى منزلى، وخفت حدة المناقشات والمشاحنات عن السينما التسجيلية بغياب صلاح أبو سيف. وكانت تجرى بعض المناقشات فى موضوعات سياسية مختلفة، ولكنها كانت تتسم بالسطحية والتفاهة. وحتى بعد وقوع النكسة فى يونية سنة 1967، جرت مناقشة تافهة عن أسباب تلك النكسة. ودعينا لمقابلة السيد أمين هريدى وزرير الحربية ورئيس المخابرات العامة، بصفته مسئولاً عن التنظيم الطليعى، حيث ألقى علينا كلمة سطحية عن النكسة. وكان ذلك آخر شئ سمعته عن التنظيم الطليعى، إذ توالت الأحداث إلى أن توفى عبد الناصر، دون أن أسمع عن هذا التنظيم. فى تلك السنوات، وقع حدثان هامان:
 الأول- حدث فى 14 مارس سنة 1965، وهو إعلان تنظيم الحزب الشيوعى حدتو، حل الحزب لنفسه فى مؤتمر عقد فى ذلك التاريخ، وتولى كمال عبد الحليم هذا الإعلان بصفته المسئول السياسى للجنة المركزية لذلك الحزب، وكان السبب المعلن لذلك هو الرغبة فى توحيد جهود الاشتراكيين داخل حزب واحد، يضم الشيوعيين مع الناصرين، وهو ما لم يتحقق بعد ذلك وحتى الآن. ولم أحضر هذا المؤتمر ولم أدع إليه رغم أنه انعقد فى منزل يوسف صديق بالهرم، لا أنا ولا سعد كامل، وصلاح حافظ، وشريف حتاته، لأن أربعتنا كنا قبل ذلك قد انضممنا إلى التنظيم الطليعى، بعلم حدتو وموافقتها، وكانت القاعدة التى تقررت فى ذلك الوقت، هى إسقاط العضوية عمن ينضمون إلى التنظيم الطليعى، وذلك حرصاً على دواعى الوحدة بين التنظيمين. ومما يذكر أن التكتل وهو الجناح الآخر من اجنحة الحزب الشيوعى، قد أعلن هو الآخر حل الحزب فى وقت مقارب، وبذلك تساوت الرءوس.
 -والثانى - حدث فى يونية 1967، وهو وقوع كارثه 5 يونية، وهى الكارثة التى أطلق عليها اسم النكسة، والتى كانت فى حقيقتها أكبر من هزيمة، كانت نكبة بمعنى الكلمة، دفعت البلاد، بل ودفعت الأمه العربية كلها، ثمنها الباهظ منذ وقوعها وحتى وقتنا هذا، وإلى أن يشاء الله أن يرفع عنا آثارها الوخيمة.
 وكان السبب الأول، المسئول عن تلك النكبة، هو نظام الحكم القائم وقتذاك، بسلبياته وقصوره، وقصر نظره

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق