ذكريات شاعر مناضل: 18- مزيد من المصائب

18- مزيد من المصائب


  احتدمت الخلافات بين عبد الرازق حسن، وبين خصومة. وكان خصومه هم: أولاً، جميع السينمائيين بلا استثناء، إذ كان عبد الرازق يعتقد اعتقاداً جازماً أن السينمائيين جميعاً، منتجين ومخرجين وممثلين، رجالاً ونساء، هم لصوص، استولا بدون وجه حق على ملايين من أموال الدولة، الماثلة فى رءوس أموال شركات الإنتاج، ويعتبر أن مهمته الأساسية، هى استخلاص هذه الأموال من أنيابهم ومخالبهم بجميع الوسائل الممكنة. لذلك فقد أمر بإعداد دفتر يتضمن أسماء هؤلاء السينمائيين مرتباً تبع الحروف الأبجدية، مثل دفتر التليفون، وكان يحتوى على أسماء السينمائيين، وقرين كل اسم من أسمائهم، الملبغ المدين به منهم لأى شركات المؤسسة، وسبب هذه المديونية. وكانت كل هذه المبالغ عبارة عن عرابين استلمها كل سينمائى للقيام بالعمل فى فيلم من الأفلام، التى شرع فى أنتاجها، ثم توقف العمل فى هذا الإنتاج لأى سبب من الأسباب. ولذلك كان هذا الدفتر يسمى عند السينمائيين. دفتر العرابين.
  وكان عبد الرازق يتصور أنه يستطيع - بالضغط على هؤلاء السينمائيين - أن يجبرهم على سداد تلك المبالغ، أو جزء منها على الأقل. ولكنه لم يفلح فى مسعاه، واكتشف بعد لأى، أن الضرب فى الميت حرام، وأن السينمائيين، رغم ما يبدو فى مظهرهم من وجاهة، فإنهم قوم مفلسون، ويعيشون من اليد إلى الفم. وكانوا يردون على مطالبته لهم بأنهم ليسوا مسئولين عن توقف الإنتاج فى تلك الأفلام، وأنهم بالعكس، يستحقون باقى أجورهم عن تلك الأفلام. وأقنعه بعضهم، أو حاولوا إقناعة، بأن الأولى به أن يتعاقد معهم على أفلام جديدة، تخصم مديونياتهم - أو جزء منها - من أجورهم عنها، وهكذا يمكنه أن يستخلص تلك الديون - شيئاً فشيئاً منهم، ولكنه اكتشف الحيلة، وأدرك أن الهدف منها هو حملة على صرف المليون جنية،التى حصل عليها من البنك الصناعى - بشق الأنفس، هى الأخرى. ولذلك فقد توقف عن الإنتاج تقريباً، فما عدا قلة من الأفلام كانت لها ظروف خاصة دفعته دفعاً إلى إنتاجها، منها ثلاثية نجيب محفوظ، وفيلم البوسطجى، قصة يحيى حقى. وكان هناك اتجاه - تبناه الوزير ثروت عكاشة لإنتاج فيلم الجسر من تأليفى، وكان قد اسند إخراجه إلى المخرج سيد عيسى، ولكنه عاد فعثر على يد عبد الرازق حسن هذه المرة.
  ومع ذلك، فقد عمد عبد الرازق، إلى التلويح لى بمديونيتى عن المبلغ الذى تقاضيته عن تأليف فيلم الجسر، قصة وسيناريو وحوار، متجاهلاً أننى كنت قد وفيت بالتزاماتى عن هذا التأليف، وأن الفيلم كان قد بدئ فى تصويره منذ سنوات.
 وثانياً: معظم العاملين فى الشركة الجديدة، التى كانت قد اندمجت فيها شركات الغنتاج السابقة - ومنها شركة كوبروفيلم. إذ كان عبد الرازق يعتبرهم زائدين عن حاجة العمل فى شركته الجديدة، وعبئاً على اقتصادياتها، وكان قد أعد دفتراً - بمساعدة زميله سيد الرباط - يحتوى على أسماء الكثيرين من هؤلاء العاملين، ويسمى بدفتر "العمالة الزائدة"، كان يحملة معه دائماً، ويواجه به العاملين فى كل مناسبة، وبلا مناسبة - فإذا قابله أحد هؤلاء العاملين لأى سبب من الأسباب، كان يسأله عن اسمه الثلاثى، ثم يفتح دفتر العمالة الزائدة، ويقول له: فلان الفلانى، أنت عمالة زائدة. ومن ثم يحجم العامل أو الموظف عن الخوض معه فى أى موضوع آخر.
 وكان اسمى مدرجاً لدية فى كلا الدفترين: العرابين، والعمالة الزائدة، وهكذا أصبح من المستحيل أن تنشأ بينه وبينى أى علاقة إيجابية، بل كان كل لقاء بيننا يتحول إلى مشاجرة.
...
 فى أواخر سنه 1967 أصدر عبد الرازق حسن قراراً بتنظيم العمل فى الشركة، وتشكيل مجلس إدارة لها. وفوجئت وأنا فى مكتبى بشركة كوبروفيلم، بالقرار يعرض على فيما يعرض على من البريد الوارد فى ذلك اليوم. وما أن أطلعت على القرار، حتى توقفت مباشرة عن أى عمل من أعمالى الجارية، وقمت بجمع أوراقى الخاصة، ووضعها فى حقيبة، وتركت الشركة عائداً إلى منزلى.
 ومن منزلى اتصلت بمكتب الوزير، وقلت لمدير مكتبه - عادل شوقى - وكانت بينى وبينه موده، ثم طلبت منه أن يبلغ الدكتور ثروت عكاشة -الوزير- بأننى أتحدث من نزلى، وأنى تركت مكتبى بالشركة. ولما سألنى عادل عن السبب، قلت له:
 -عبد الرازق حسن فصلنى. وعندما سألنى عما حدث رويت له، فقال لى:
 -سأبلغ الدكتور ثروت.
 خلعت بدلتى، ولبست ملابسى المنزلية، وجلست فى منزلى وقد شعرت بالراحة.
  بعد ساعة تقريباً، دق جرس الباب، وذهبت لأفتحه، فوجدت أمامى عبد الرازق حسن، ومعه حسن فؤاد، وسعد كامل. ودخلوا، وجلست معهم فى غرفة الجلوس وأنا أرتدى جلبابى. وبدأ حديث. حديث سخيف لا طعم له ولا لون ولا رائحة. حاول فيه حسن فؤاد أن يقلب الموقف إلى مداعبة فكاهية، وحاول عبد الرازق أن يبرر موقفه بأنه لم يكن يعنى أى إساءه إلى، بل إنه يقدرنى ويقدر صهرى يوسف صديق .. إلخ .. إلخ.. وحاول سعد كامل أن ينقل الموقف إلى اتفاق جاد على الصلح.
 وانفض الموقف، على أن يقوم عبد الرازق بإلغاء القرار السخيف الذى كان سبب غضبى، وعلى إصدار قرار آخر يصحح الوضع. وفعلاً صدر القرار الجديد، وأرسلت إلى نسخة منه بالمنزل. وفى اليوم التالى توجهت إلى مكتبى فى موعدى الصباحى، فوجدت أمام باب الشقة عدداً من سلال الزهور، وفى المدخل، وفى الصالة، وداخل مكتبى، عشرات من السلال الأخرى. اندهشت من مدى حب الموظفين، والسعاه، والسائقين ووالئهم لى، رغم أننى لم أمكث معهم فى العمل بالشركة إلا بضعة شهور، ولم أعمل لهم شيئاً يذكر، اللهم إلا حسن المعاملة.
...
 عدت إلى عملى المعتاد بالشركة، وتعمدت تحاشى أى احتكاك بعبد الرازق، كما تعمد هو عدم الاحتكاك أو الاتصال بى. وكان التعامل بيننا يتم عن طريق الأوراق، وعد الضرورة القصوى بالتليفون.
 وقامت حرب يونيه سنه 67، وكنت مشغولاً وقتها بالإشراف على تنفيذ فيلم "الحضارة المصرية" للمخرج روبرتو روسللينى، وكان يجرى تصويره فى منطقة صحراء سقارة، وكذلك على الفيلم التسجيلى الأمريكى - الآثار المصرية، للمخرج "أوتو لانج"، الذى كان يتم تصويره وقتها فى الأقصر.
 بعد قيام الحرب فى 5 يونيه، كنت يوم 6 يونيه فى موقع التصوير بسقارة مع روسللينى، حين طلب منى مساعدته فى السفر هو وفريقه من مصر، فى اليوم التالى، حيث أن رجاله خائفون ويريدون العودة إلى إيطاليا، فطلبت منه الاتصال بالدكتور ثروت، واستئذانه فى ذلك. وبعد عودتى إلى المكتب اتل بى الدكتور ثروت وأخبرنى بما يريده روسللينى، وقال لى إنه يطلب منى التصرف فى الموقف لإخراج روسللينى ومن معه من البلاد، والتصرف بمعرفتى حيث أنه - الدكتور ثروت - ليس عنده وقت فى الظروف الراهنة - لمثل هذا الأمر.
  وفى نفس اليوم، حضر إلى المكتب، المستر أوتو لانج، المخرج الأمريكى ومعه فريقه من المصورين والفنيين، وطلب منى نفس الطلب، مساعدته فى الخروج هو وفريقه من البلاد. واتصلت بالدكتور ثروت، وأبلغته بالأمر، فكلفنى بالتصرف فى الموقف بمعرفتى، حيث أنه لا وقت عنده لمثل هذه الأمور أيضاً.
 فى اليوم التالى - صباحاً، توجهت فى موكب مكون من حوالى عشر سيارات - من مختلف الأشكال والأحجام، إلى الإسكندرية، تحمل كلا من روسللينى، وفريقه، وأوتو لانج وفريقه، ومعهم كل متعلقاتهم وملابسهم ومعداتهم، كما تحمل - حسن موافى - مدير الإنتاج المصرى، وبعض معاونيه.
 وصلنا إلى الإسكندرية وأنا لا أعرف ماذا سأفعل فى هذه الورطة التى وجدت نفسى فيها، وحاولت الاستعانه بمدير فرع الشركة فى الإسكندرية. حسين حتاته - فلم أجد منه معونه فى هذا الموقف. وأخيراً، طلب منى روسللينى، أن أوصله إلى القنصل الإيطالى بالإسكندرية ففعلت، فذهب وقابله، ثم عاد وأخبرنى بأن المشكلة قد حلت، وأنه من حسن الحظ أن سفينة ركاب إيطالية ترسو الآن فى ميناء الإسكندرية، وسوف تبحر فى الصباح التالى إلى إيطاليا، وأن القنصل قد اتصل بقبطانها وأخبره بالموقف، فوعده بالمساعدة، واتقف معه على أن يصحب روسللينى رجاله ومعداتهم إلى السفينة فى الصباح الباكر، وسوف تأخذم السفينة بما معهم - بدون تذاكر أو أى أوراق. وأخبرت روسللينى عن مشكلتى الأخرى. أوتو لانج الأمريكى ومن معه، فوافق روسللينى - بجدعنة إيطالية - تشبه الجدعنه المصرية - على أن يأخذ هؤلاء معهم على أنهم جزء من فريقه. وقد كان.
 قضيت الليله ومعى كل الأجانب فى بعض الفنادق والبنسيونات الصغيرة فى محطة الرمل بالإسكندرية، وفى الصباح الباكر، انتقلت معهم بسيارات الشركة إلى الميناء، وأمكننى الدخول بهم، على مسئوليتى الشخصية كرئيس لشركة كوبروفيلم، إلى الميناء، حيث وجدنا السفينة الإيطالية على وشك الإبحار.
 سعد روسللينى أولاً إلى السفينة، فقابل القبطان، ثم عاد فوقف على أعلى السلم، وأشار إلى بأن يصعد جميع الرجال، من الفريقين، ومعهم حقائبهم ومعداتهمن فاخبرتهم بذلك، ففعلوا، وصعدوا على السلم وهم يحملون أغراضهم، وعانقنى أوتو لانج شاكراً ومودعاً، ووقف روسللينى يستقبلهم أعلى السلم، ويلوح لى بيده مودعاً هو الآخر. ثم سرعان ما أطلقت السفينة صافراتها، وبدأت رحلتها.
 عدت إلى القاهرة، فوصلتها فى المساء بعد رحلة قاتلة لم أذق فيها طعم النوم ولا طعم الطعام يومين متتاليين. وماكدت أصل إلى المنزل، حتى وجدت جرس التليفون يرن، ووجدت عبد الرازق حسن يقول لى:
 -حمد الله على السلامه. يا سيدى هو ده وقت فسح؟ بقى يعنى ما يحلش ليك الفسحة فى إسكندرية إلا دلوقت.
 وجدت نفسى أقول له:
 -فسحة أيه يا حيوان أنت. الله يخرب بيتك أنت وحسن فؤاد اللى بلانا بيك.
 ثم أغلقت التليفون فى وجهه. وكانت هذه آخر مرة يجرى فيها أى اتصال بيننا.
 فى ذلك المساء أذاع التليفزيون نبأ استقالة الرئيس جمال عبد الناصر. وقامت مظاهرات 9 ، 10 يونيه اعتراضاً على هذه الاستقالة، وللمطالبة بالرجوع عنها. ووجدت نفسى أنزل أنا وزوجتى إلى الشارع فى ظلام الليل، لننضم إلى المتظاهرين، وكانت المدافع المضادة للطائرات تطلق قذائفها بينما الأنوار الكاشفة تجوب سماء القاهرة باحثة عن طائرات مغيرة.
 ولم تتوقف المظاهرات، إلا بعد أن ظهر الرئيس جمال عبد الناصر على شاشات الليفزيون مساء 10 يونيه، يعلن رجوعه عن الاستقالة،وقبوله العودة إلى تحمل المسئولية لحين رفع آثار العدوان.
...
 لم أعد إلى مكتبى فى الشركة بعد ذلك. وفى الصباح التالى توجهت إلى مقر المؤسسة، وقابلت نجيب محفوظ، رئيس المؤسسة حينذاك لأقدم له استقالتى. قابلنى نجيب مقابلة ودية، وعرفت منه أنه عرف كل ما حدث. وقال لى:
 -يؤسفنى يا أستاذ محمود ما حدث لك. لقم قدمت لنا أحسن ما عندك، ولكننا قدمنا لك أسوأ ما عندنا.
 ثم اتفقنا على أن يتم نقلى من شركة الإنتاج إلى شركة التوزيع، لأعمل مع يوسف صلاح الدين، بعيداً عن عبد الرازق حسن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق