ذكريات شاعر مناضل: 28- سماء ملبدة بالغيوم

28- سماء ملبدة بالغيوم


  خلال فترة قصيرة تحقق ما توقعته. أفرجت محكمة الجنايات عن بقية المقبوض عليهم، وعاد الرفيق سالم - سعد كامل، من مخبئه، بعد أن قابل خاله الأستاذ فتحى رضوان - بناء على اقتراحى - وزير الداخلية وأقنعه بصرف النظر عن الأمر الصادر بحبسه، بعد أن أفرج عن سائر المحبوسين على ذمة القضية.
 وبدأنا نتنفس الصعداء، ونتطلع إلى المستقبل، بعد أن أصبحت صفوفنا متكاملة، خارج الأسوار. ولكن شعوراً غامضاً بدأ ينتابنى بأن الأمور لم تعد كما كانت، وكانت هناك بعض الشواهد الصغيرة على صحة ذلك الشعور.
  كان معاوية - رفعت السعيد، قد ظل حراً طليقاً لم يقبض عليه فى الحملة، رغم أن اسمه كان مدرجاً فى كشوف المطلوب القبض عليهم، التى كانت هيئة الأمن القومى - المخابرات، قد تقدمت بها لاستصدار أوامر الضبط والحبس، ولكن حين وصلت تلك الكشوف إلى المباحث العامة لاستصدار الأوامر، حدث شئ غامض، إذ استبدل اسم رفعت السعيد - المحرر بالأهرام - باسم قريب منه - هو رفعت السيد - المحرر بالأهرام أيضاً، والمقيم بنفس العنوان، رغم أن تقارير المراقبة والمتابعة كانت تنصب على الأول وعلى أماكن عمله وعنوانه، ولم ينفذ أمر الضبط على أى من الشخصين. وكانت هذه الواقعة قد أثارت لغطاً قوياً فى حينها، ولدى كل من وقف عليها، سواء المتهمين أو المحامين أو الأهالى، أو غيرهم، خاصة من أتيح لهم الإطلاع على أوراق التحقيق أو قرار الاتهام.
  وكان قد بدا من جانب زميلنا - القديس، أبو زيد - نبيل الهلالى شئ من التقصير فى حقى، وفى أمر الدفاع عنى، سواء كمحام زميل - أو كعضو فى اللجنة الحزبية الرئاسية التى كانت تضمنا معاً. وكان المفروض أن يتولى أبو زيد - كمحام وكرفيق، أمر الدفاع عنى، كما يتولى أمر الدفاع عن زميلنا الثالث - ناشد، زكى مراد، ولكنه لم يفعل، بلا سبب واضح. لم يقم بتقديم التظلم من أمر حبسى إلى النيابة كما فعل بالنسبة للزميل ناشد، ولم يطلب من النيابة تصريحاً بزيارتى فى السجن، وبتلك الزيارة، كمحام عنى،كما فعل بالنسبة للزميل، ناشد وترتب على ذلك تأخير النظر فى الاعتراض على حبسى أمام المحكمة عدة أسابيع، حتى قام زميلنا الأستاذ ماهر محمد على المحامى، بذلك الإجراء بناء على طلب زوجتى التى كلفته بذلك. ولم يقدم نبيل فى ذلك الحين، ولا بعده، تفسيراً لذلك الموقف.
  ثم كانت ثالثة الأسافى، حين نما إلى علمى، وأنا مازلت فى السجن، خبراً بالإعلان عن قيام الحزب، ولم نكن قد أعلناه من قبل، وذلك فى أوساط الحركة الشيوعية العربية والعالمية، وكان ذلك عقب القبض علينا مباشرة، ونما إلى علمى بعد ذلك، أن هذا الإعلان، تم بواسطة الرفاق: معاوية، وشاكر، والحاج، وهو عضو فى المكتب السياسى، من المحسوبين على مجموعة ناشد، وذلك لدى زيارة قام بها هؤلاء إلى بيروت وبغداد، ولم أكن - ولم يكن أحد من مجموعتى - سالم أو عاصم - قد علم بشئ عن الخطوة، خطوة الإعلان عن قيام الحزب، كما لم يشارك أحد منا فيها. وعجبت لهذا العمل الانفرادى، وللظروف التى أحاطت به، وتوجست منه شراً، فقد تم بطريقة تآمرية، واستند إلى موقف تكتلى، يقوم على تحالف بين مجموعتى ناشد، وشاكر، من وراء ظهر مجموعتنا، ودون علم أو موافقة منها. وذكرنى ذلك بأجواء التآمر التكتلى التى سادت حزب 8 يناير قبل انقسامة وانهياره عام 1958 وما بعده، وقبل ذلك بأجواء التكتل والانقسام اللذان وقعا فى الحركة الديموقراطية فى عام 1948 وما بعده. وتعجبت من موقف "الحاج"، ودهشت لإقدامه على المشاركة فى مثل ذلك الموقف التكتلى التآمرى، وتذكرت انه كان فى أول العهد بالوحدة، مجرد عاطف على التنظيم، وكنت أنا الذى اقترح إعطاءه العضوية، وضمه إلى عضوية المكتب السياسى، حتى يكون اتصاله بالعمل الحزبى القيادى، من الأبواب الأمامية، لا من النوافذ الخلفية. وكنت أتصور أن له من المكانه والاحترام، ما يجعل انضمامه إلى قيادة الحزب مكسباً لنا جميعاً، رغم علمى بقلة خبرته الحزبية، وبسهولة تأثير المحيطين به عليه وكنت قد وقعت فى مثل هذا الخطأ مع شخص آخر، هو شيخ العرب - محمد على عامر، الذى كان عضوا فى اللجنة المركزية حين إتمام الوحدة، وكان من مجموعة شاكر، وكان الثلاثة المرشحون عنها فى المكتب السياسى هم: شاكر، أبو زيد، عصام. ولكننى اقترحت تصعيد شيخ العرب إلى عضوية المكتب السياسى، انصافاً لسنه وخبرته العمالية، وتم ذلك فعلاً، ولكن العجيب أن شيخ العرب تحول بعد ذلك إلى واحد من ألد خصومى الماوئين لى.
 بعد قليل من خروجنا من ليمان أبو زعبل، أصابتنى وعكة ألزمتنى الفراش، وكان من ضمن من زارونى أثناء مرضى، صديق عزيز، من الأعضاء القياديين فى الحزب الشيوعى العراقى، كان فى زيارة لمصر، ونقل إلى هذا الصديق كيف كان الحاج قد زار بغداد بعد وقوع حملة اعتقالنا، وكيف أنه هو الذى أبلغ الرفاق العراقيين بنبأ إعلان الحزب فى مصر. وكان من أهم ما قاله هذا الصديق لى، إن الحاج كان قد تحدث مع الرفاق القياديين فى الحزب الشيوعى العراقى، عن ظروف الضربة التى حلت بنا، وأنه ذكر لهم، أننى - هاشم - كنت المسئول عن حصول هذه الضربة، وعن حصول الاختراق الأمنى لصفوف الحزب.
  أدهشنى وآلمنى ما نسبه إلى الحاج، لكونه عارياً تماماً من الصحة، وملفقاً كل التلفيق، ومناقضاً تماماً للحقيقة الثابته من أن هذا الاختراق الأمنى، إنما كان راجعاً إلى الرفيق ناشد، وكنت أنا - أحد ضحاياه - لا سببه أو المسئول عنه بحال من الأحوال.
 وعجبت كيف قال الحاج هذا الكلام، ولم يكن فى موقع حزبى يسمح له بمعرفة شئ عن هذا الاختراق الأمنى. ثم أدركت أن الحاج لم يأت بهذا الافتراء من تلقاء نفسه، وإنما نقل إليه من شخص قريب منه، ينمتى إلى مجموعة ناشد، ولم يكن ذلك الشخص سوى الرفيق معاوية - رفعت السعيد، الذى كان هو الرأس المدبر لكل ما تقوم به تلك المجموعة من افعال، وكان وثيق الصلة بالحاج ولا يكاد يفترق عنه فى أى يوم من الأيام.
 وفى أول اجتماع للمجموعة الثلاثية التى كانت تقوم بعمل القيادة السياسية للحزب، والمكونة منا: هاشم، ناشد، أبو زيد، أثرت هذه القصة، وطلبت إجراء تحقيق حزبى عن ظروف الضربة وتحديد المسئولية عن الاختراق الأمنى الذى وقعت بسببه، وقررنا - اللجنة الثلاثية - إجراء التحقيق الحزبى فى الموضوع، وإسناد مسئوليته إلى الرفيق أبو زيد، عضو اللجنة، والمحامى الكبير الذى شارك فى أعمال الدفاع عن تلك القضية.
 وكان المفروض أن يقوم أبو زيد بهذا التحقيق، وأن يعلننا، ويعلن الحزب بنتائجه فى أقرب وقت مستطاع، نظراً لخطورة الموضوع، وما تقضيه المصلحة العليا للحزب وأمانه. ولكن - القديس - لم يقم بإجراء التحقيق ولم يعلن نتائجه. وتيقنت أن ذلك إنما يرجع إلى رغبته فى حماية ناشد ومجموعته، الذين كان قد تورط فى علاقة تحالف وثيق معهم، تحالف تفوح منه رائحة التكتل والانقسام، التى كنت أعرفها جيداً..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق