ذكريات شاعر مناضل: 19- أيام ضائعة

19- أيام ضائعة


  كانت الأيام التى تلت هزيمة يونيه 1967، أياماً حالكة السواد. كان المصريون جميعاً، وأنا منهم، يسيرون على الأرض وكأنهم أعجاز نخل خاوية. يحنى رؤسهم الهم الثقيل، ويدمى قلوبهم الحزن والإحباط. وزادنى هما على هم، وإحباطاً على إحباط ، ما فعله عبد الرازق حسن معى، من عدوان واضطهاد، دون سبب أو مبرر، وكأن بينى وبينه ثأراً لا أعرفه، بل ورغم ما كان ينتظر أن يقوم بينى وبينه من تفاهم وتقارب، باعتبارنا نحن الاثنان ننتمى إلى فكر تقدمى واشتراكى واحد. ولكن الأمر جاء على عكس ما كنت، وكان الناس يتوقعون. ودل عذا على أن التقارب الفكرى المزعوم، لا يكفى لقيام التفاهم والتقارب النفسى، وهذا ما ثبت لى مراراً وتكراراً، فكثيراً ما قام النفور والتباغض بينى وبين أشخاص ينتمون إلى نفس التيار الفكرى الذى أنتمى إليه، فى حين قامت المودة والتفاهم بينى وبين أشخاص كانوا ينتمون إلى تيارات فكرية أو سياسية مختلفة، وأحياناً مضادة. وكانت محنتى مع عبد الرازق حسن، تذكرنى بالمثل القائل: إن المصائب لا تأتى إلا من الأحباب!
 وكنت كثيراً ما أصب غضبى على الزميلين الصديقين، حسن فؤاد، وسعد كامل، اللذين انفردا بترشيح عبد الرازق للدكتور ثروت عكاشة، ليشغل منصباً ليس مؤهلاً له على الإطلاق، وكتما عنى ذلك الأمر كله، الذى ما لبث أن وقع وزره على رأسى أنا، فى المحل الأول.
 كان نجيب محفوظ قد توصل مع يوسف صلاح الدين إلى اتفاق على نقلى إلى شركة التوزيع، فى وظيفة - مستشار فنى، وهى الوظيفة الوحيدة التى كانت شاغرة فى تلك الشركة، ووظيفة المستشار - فى مختلف الأجهزة فى الدولة، وفى القطاع العام، هى وظيفة شكلية، أكثر منها وظيفة فعلية. فما أسها ما يوضع المستشار على الرف، لأنه لا يستشار فعلاً فى أى شئ. وهذا ما حدث معى فعلاً.
 ذهبت إلى شركة التوزيع، فلم أجد لى اختصاصاً محدداً، بل ولم أجد لى مكتباً أمارس منه عملى - إن وجد. وخصصت لى غرفة فى شقة بعيدة عن مقر الشركة، بها بعض الأجهزة التابعة لنشاط التوزيع. غرفة خالية، ليس بها سوى مكتب، وكرسى واحد، غير أنه كان بها، فى جانبها البعيد، أريكة طويلة، بطول الحائط، ثبت لى نفعها أكثر مما كنت أتصور. وكان على المكتب خط تليفون فرعى، يتل بسويتش تليفون خاص بالشقة كلها. وكان يمكن إذا أراد أحد أن يتصل بى، أن يطلبنى من السويتش، فيحول لى العامل المكالمة. أما إذا أردت أنا أن أتصل بأى رقم، داخلى أو خارج الشركة، فعلى أن أطلب من عامل السويتش، أن يحول لى الخط. بعد أن تعودت على العمل المتواصل - طيلة النهار، وشطرا كبيراً من الليل، فى كوبروفيلم، كنت أقضى ساعات العمل، عاطلاً بلا عمل، أقرأ فى الحف، أو فى كتاب، حتى يصيبنى الملل، ويداهمنى النعاس، فانتقل إلى الأريكة الطويلة، المكسوة بالجلد، فاستلقى عليها، حتى يلفنى النوم بجناحية. لأستيقظ بعد ساعة أو ساعات. وأنصرف فى ساعة الانصراف. لم يستشرنى أحد. ولم يزرنى أحد، ولم يرن جرس الهاتف على مكتبى، لمدة أسبوعين أو ثلاثة.
  بعدها، رن الجرس، وكان المتحدث هو يوسف صلاح الدين. أخبرنى يوسف أن المؤسسة قد شكلت وفداً برئاستى، وعضوية المخرج سيد عيسى، والناقدة الفنية مارى غضبان، للسفر إلى موسكو، لحضور مهرجان موسكو السينمائى، الذى يبدأ يوم 4 يوليو 67، أى بعد أيام قليلة، وسألنى هل أقبل هذا السفر، ولم يكن هناك ما يمنعنى من القبول، فوافقت.
 وسافرت أنا وسيد عيسى ومارى غضبان يوم 3 يوليو، وحضرنا المهرجان، وأخذنا معنا علب فيلم "خان الخليلى"، قصة نجيب محفوظ، وإخراج عاطف سالم، الذى عرض فى سينما الكرملين. ومكثنا أيام المهرجان، ثم عدنا إلى مصر. وقدمت إلى المؤسسة تقريرى عن المهرجان - كما جرت العادى. ثم عدت إلى النوم على الأريكة.
 بعد عودتى من السفر ببضعة أيام، استدعانى الدكتور ثروت عكاشة لمقابلته، فذهبت إليه، وكانت هذه أول مرة ألقاه فيها بعد تركى للعمل فى الإنتاج المشترك، وبعد قيام الحرب. وجدته حزيناً حزناً شديدا على ما أصاب الوطن من كارثة النكسة، شأنه فى ذلك شأننا جميعاً. بدأ اللقاء بسؤالى عن أحوالى، فأجبته بأنى أحمد الله الذى لا يحمد على مكروه سواه. فقال لى:
 -استدعيتك اليوم لأقول لك أنك ما زلت موضع ثقتى، ولهذا فقد قررت أن أعهد إليك بموقع يحتاج إلى كفاءتك وأمانتك وإخلاصك، وهو أن تكون مسئولاً عن الإنتاج السينمائى الممول فى شركة التوزيع. وهو عمل بالغ الأهمية والحساسية، ويدور من حوله لغط كثير فى الوقت الحالى، فما رأيك؟
 قلت له وأنا أتمثل تجربتى مع عبد الرزاق حسن:
  -أشكرك مرة أخرى على هذه الثقة، وبصراحة، أنا الآن، بعد ما أصابنى من جراح فى تجربة عبد الرازق حسن، أشعر بأنى زاهد فى أى موقع يمكن أن تصيبنى فيه جراح جديدة. ولكننى من ناحية أخرى لا أستطيع أن أرفض لك طلباً أو أعصى لك أمراً. لذلك فأنا أقبل التكليف، ولكن لى شرطين:
 سألنى وهو يرفع حاجبيه بدهشة تشبه الاستياء:
 -شرطين يا محمود؟
 قلت له وقد عز على استياؤه:
 -أقصد رجائين.
 فتبسم ضاحكاً وقال:
 -اتفضل سمعنى شروطك.
 قلت له:
 -هما رجاءان. الأول أن تشملنى بثقتك وتأييدك دائماً. فمدى علمى أن هذه المسئولية هى أخطر موقع فى المجال السينمائى بأسرة. المسئولية فيها كبيرة، واللغط فيها كثير، لأنها تصطدم بمصالح كل السينمائيين. المنتجين، والمخرجين، والمؤلفين، والممثلين.. إلخ.
 وسبحان من يرضى كل العباد. وسأكون هدفاً لكل من أعارضه فى شئ ويحتاج الامر إلى ثقة واضحة للجميع، ودعم من سيادتك شخصياً. والثانى، هو حمايتى من التدخلات والضغوط، التى ستسعى إلى الضغط على حتى أقبل بأشياء لا أرضاها. فإذا كنت سأقبل هذه المسئولية، فسأقبلها ومعها السلطة الكاملة لأفعل ما أراه صواباً، ولا أكون مجرد باشكاتب يجمع الأوراق لكى يقوم غيره باتخاذ القرار.
 قال الدكتور ثروت:
 -لهذا بالذات أنا اخترتك أنت لهذه المسئولية. هل تطلب شيئاً آخر؟
 قلت له صادقاً:  -لا أطلب إلا ثقتك، ورضاك.
 قال:
 -وهما لك، وأنت تعلم ذلك. تفضل واستلم عملك الجديد من اليوم، وسظاصدر ظاوامرى بذلك ظغلى المؤسسة، وإلى شركة التوزيع. وإذا اعترضك أى شئن فبابى مفتوح لك فى أى وقت. مع السلامة.
...
 استلمت عملى الجديد، وكان يشغله قبلى الأخ محمود شافعى، والد الأخوين منيب، ومخلص شافعى، وأحد أصحاب شركة الشرق للتوزيع السينمائى التى كانت قد شملتها حركة التأمينات. وشعرت بأن ثقة الوزير بى، وحمايته لى، قد أبلغت إلى كل النختصين فى المؤسسة، وفى الشركة.
 وسرعان ما خصصت لى غرفة مكتب ممتازة، وعدد من الغرف للمساعدين الذين قمت باختيارهم. ثم نقلت إلى كل الملفات التى كانت فى حوزة الأخ محمود شافعى، بشأن الإنتاج الممول. وبدأت عجلة عملى تدور على النحو الذى أردته تماماً. وكنت أجد - والحق يقال - تفهما وتعاوناً كاملين من الأخ يوسف صلاح الدين، إذ كان لا يعارض رأيى فى شئ، بل كان مهذباً وودوداً معى إلى أقصى حد.
 وبدأت العديد من الأفلام تجد طريقها إلى الإنتاج. وطلبت من الأستاذ نجيب محفوظ، إعانتى بعدد من الشبان، العاملين بالمؤسسة من خريجى كليات الآداب، ومعهد السينما، ليكونوا أعضاء فى لجنة للقراءة، استعين بها فى فحص النصوص وإبداء الرأى فيها، القصص المرشحة، والسيناريوهات..إلخ، فأرسل لى كل من كانوا عنده من هرلاء الشباب.
 المأخذ الوحيد الذى أخذه على بعض السينمائيين، كما أخبرنى يوسف صلاح الدين، هو أننى دكتاتور، أستبد برأيى، فحمدت الله على أن هذا كان هو كل ما وجه لى من المطاعن. كانت الخلافات التى تدور بينى وبين بعضهم، تنحصر فى الخلاف على النصوص، القصص أو السيناريوهات، والكاست، أى الممثلون والممثلات الذين تسند إليهم أدوار البطولة. أما النوص، فكنت أتمسك برأيى فيها، وأما الكاست، فكنت أشرك يوسف صلاح الدين، والمختصين بالتوزيع - الداخلى والخارجى - فى البت فى الخلافات التى تدور بشأنهم، لتعلق هذه المسألة بمالح عملية التوزيع. وكانت الخلافات فى هذا الشأن تجد طريقها للحل فى سهولة ويسر.
...
 لم يكتف الدكتور ثروت بإسناد هذه المسئولية إلى، وكانت كبيرة وثقيلة، ولكننى فوجئت به يستدعينى بعد شهور قليلة ويقول لى:
 -قررت أن أسند إليك عملاً آخر، بالإضافة لعملك الحالى. كان عندى أيام وزارتى الأولى، مشروع لإنشاء نادى للسينما، تعرض عليه أفلام منتقاه من الأفلام المنتجة فى سائر البلدان، على غرار نادى باريس للسينما. ولكننى ظللت لعدة سنوات متردداً فى تنفيذ المشروع، خوفاً من الفشل، فهل تستطيع أن تساعدنى فى تحقيق هذا المشروع؟
 تحدثت مع الوزير فى هذا الموضوع حتى استوعبت كل أفكاره ومعلوماته فى هذا الشأن. ثم قلت له:
 -نعم أستطيع. أمهلنى ثلاثة أسابيع وأنا انتهى من وضع مشروعك موضع التنفيذ.
...
 قام الدكتور ثروت بتشكيل لجنة تضمنى أنا والدكتور مجدى وهبة ومصطفى درويش - مدير إدارة الرقابة على المصنفات، للإشراف على المشروع، على أن تترك لى مهمة التصرف فى كل النواحى الإدارية والتنفيذية وتترك لهما مهمة اختيار الأفلام التى سيتم عرضها، ووضع النشرات الدعائية الخاصة بتلك الأفلام.
  كان الدكتور ثروت قد اتجه إلى الاتفاق مع شركة شل بميدان التوفيقية، على أن يتم عرض الأفلام بصالة العرض السينمائى الخاصة بها، وقمت بمعاينتها، فوجدتها صغيرة لا تتسع لأكثر من ثلاثمائة متفرج، فناقشته فى ذلك، وقلت له إن العدد صغير، فقال لى إنه يخشى أن لا نستطيع جلب أعضاء للنادى يملأون هذا العدد، فتكون فضيحة له. فأكدت له إننى واثق من أن عدد أعضاء النادى سيزيدون عن هذا العدد بكثير. وبدأت البحث عن حل آخر، وأخيراً، تم الاتفاق مع إدارة الجامعة الأمركية، على أن تعيرنا صالة السينما الكبيرة بها لنقدم عليها عرضاً أسبوعياً، وكانت تتسع لألف متفرج، وكان الدكتور ثروت متخوفاً من أننا لن نستطيع تغطية هذا العدد. غير أننى كنت متأكداً أن العدد سوف يكون أكثر من ذلك بكثير. وبدأت بنشر اعلانات عن المشروع فى الصحف، فتقدم لى آلاف من الأشخاص يطلبون عضوية النادى، وأعدت لهم الكارنيهات، وتم قبول خمسة آلاف عضو والعتذار للآخرين.. واتفقت مع الجامعة الأمريكية على عمل خمسة حفلات أسبوعية ليتمكن هؤلاء الأعضاء من الحضور.
 وكانت هناك تفاصيل كثيرة تواجهنى فى تنفيذ هذا الموضوع، ولكن الله وفقنى، فذللت كل العقبات. وتم افتتاح النادى، بحضور الوزير الذى كان لا يصدق عينيه، وهو يرى هذا النجاح الساحق الذى لم يكن يتوقعه أو يتوقع عشر معشاره.
 وكان افتتاح النادى أهم حدث ثقافى نال اهتمام جمهور المثقفين فى الشهور الكئيبة التى ظاعقبت نكسة يوليو. وكان الوزير يتلقى اتصالات وطلبات عديدة من كثير من المسئولين فى الدولة، تطلب منه التوسط لبعض من كانوا يطلبون عضوية النادى، وكان يحيلها إلى أولاً بأول.
 وهكذا وجدت فى ليل القاهرة الحالك - بسمة مضيئة على غير انتظار.
 أغرب ما يمكننى قوله، أننى تلقيت مكالمة تليفونية على غير انتظار، من آخر شخص كنت أتوقع منه أن يكلمنى. كان يهنأنى على هذا "المجد" الذى تحقق لى، ويروجون أن أقبل عدداً من الأشخا - من طرفه - أعضاء فى نادى السينما وكان هذا الشخص هو الدكتور عبد الرازق حسن. والله فى خلقه شئون .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق