ذكريات شاعر مناضل: 1- فى ظلال الحرية

1- فى ظلال الحرية


  من أجمل أغانى محمد عبد الوهاب القديمة، أغنية اسمها: أحب عيشة الحرية، جاء فى مطلعها:
 أحـب عيشـة الحريـة  زى الطيور بين الأغصان
مادام حبايبى حوالية  كل البلاد عندى أوطـان
 وكنت دائماً أحب هذه الأغنية، وأطرب لسماعها، حتى قبل أن أعرف قيمة الحرية حين فقدتها. وإذا صح أن يقال: الصحة تاج على رءوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى، فإنه من الصحيح كذلك أن يقال: الحرية تاج على رءوس الأحرار، لا يراه إلا السجناء. لذلك فقد كانت أولى القصائد التى نشرت لى، والتى أصبحت أولى قصائد ديوانى الأول "أعياد"، هى قصيدة عنوانها "إلى الحرية"، والتى جاء فيها:
إيه يا أم..معصمى هده القيد..وسالت من الجراح دمائى
والسياط التى تعربد فى ظهرى تغنى..فياله من غناء!
أطبقت ظلمة الخطوب على عينى حتى جهلت لون الضياء..إلخ.
 كثير من الناس يمكن أن يتحدثوا عن الحرية، وقيمتها، وجمالها، ولكن لا يحدثك عنها مثل سجين فكت عنه القيود بعد سجن طويل. يكفى أن تنام آمنا فى سرير نظيف ترتاح فيه، وأن تفتح عينيك فترى وجوه أحبابك، وتسمع منهم تحية الصباح، وأن تجد حماماً نظيفاً لائقاً تستريح إليه، بدلاً من تلك البؤر القذرة البشعة الموجودة فى السجون، وأن تطل من نافذتك فترى شيئاً من الفضاء أو قطعة من السماء، أو غصن شجرة صغيرة خضراء تقوم فى الشارع، أو تسمع فيها صوت عصفور. ويكفى أن ترى أمامك فى الصباح فنجان قهوة وجريدة، وأن تتناول فى غذائك طعاماً آدمياً لا تعافه نفسك، بدلاً من هذا الفول والعدس واليمك، وما بها من سوس، وما يغمرها من أسوأ أنواع الزيت الذى لا يكاد يمت إلى الزيت بصلة.
 هنالك تبدأ فترى المرئيات جميعاً بعيون جديدة، وكأن الدنيا خلقت أمامك من جديد، وأنك تكتشفها مرة أخرى.
...
 كنت قد خرجت بعد خمس سنوات قضيتها فى غياهب السجون، وجاء الإفراج عنى بموجب عفو صحى أصدره الرئيس عبد الناصر، بناء على تدخل وطلب متكرر من يوسف صديق، الذى كان هو نفسه قد وضع فى السجن الحربى لمدة تزيد على العام، وحددت إقامته، قبل ذلك، وبعد ذلك، لمدة تزيد على عامين. ومن العجيب أنه رغم الخلاف السياسى بين يوسف صديق، وجمال عبد الناصر، والذى وصل إلى سجن يوسف وتحديد إقامته على هذا النحو، بل وإلى وضع زوجته "عليه" - شقيقتى فى السجن لمدة تزيد على سنة، ثم وضع العديد من أقارب وأصحاب، وأتباع يوسف فى السجن أيضاً، ورغم أن يوسف قد كتب وهو فى السجن الحربى أكثر من قصيدة فى هجاء جمال، منها القصيدة التى سماها: فرعون، والتى جاء فيها:
 أفرعون مصر وجبارها/ صحوت لها من وراء القرون.. إلخ.
 وقد وصلت هذه القصيدة إلى جمال، وأغضبته كثيراً، روى لى السفير وحيد جودة رمضان، الذى كان زميلاً وصديقاً ليوسف، وهو الذى رشح يوسف لتنظيم الضباط الأحرار وعرفه بجمال، ورى لى أنه قابل جمال أثناء وجود يوسف بالسجن الحربى، وكلمه عن يوسف، وعاب على جمال وضعه فى السجن بعدما أداه للثورة من خدمة جليلة، ففتح جمال درج مكتبه، وقدم إلى وحيد نص هذه القصيدة بخط يد يوسف، كتبرير لوضعه فى السجن، وهو تبرير غير مقنع. لأن القصيدة جاءت بعد وضعه فى السجن. ورغم هذا كله، فقد كانت بينهما مودة قوية مبعثها إدراك جمال لدور يوسف البطولى ليلة الثورة، والذى لولاه ما قامت لها قائمة. كما كان يوف - رغم كل شئ - يكن لجمال وداً وتقديراً كبيراً باعتباره قائد الثورة الفعلى، وتجلى ذلك واضحاً فى رثاء يوسف له بعد وفاته، وهو الرثاء الذى قال فيه:
 أبا الثوار ، هل سامحت دمعى
يفيض وصوت نعيك ملئ سمعى / ..إلخ.
وكنت أعرف أن الأحكام التى تصدر فى القضايا السياسية، هى بدورها أحكام سياسية، أى مرتبطة بالظروف السياسية التى تصدر فيها، وليست لها حجية أو ثبات الأحكام القضائية العاديةن وأنها تدور وجوداً وعدماً مع الواقع السياسى الذى صدرت فيه، وأن تغيير هذا الواقع السياسى يؤدى - فى معظم الأحيان، إلى انحلال تلك الأحكام، وزوالها. وكنت أعرف أن العفو الصحى الذى صدر لى، إنما كان هو الآلية القانونية التى اختارها النظام - أعنى عب الناصر - لوضع قراره السياسى بالإفراج عنى موضع التنفيذ. وكانت تلك هى المرة الأولى التى يصدر فيها مثل هذا القرار لشخص شيوعى، أو محكوم عليه فى قضية شيوعية. وكانت تلك هى الآلية التى تحقق للنظام رغبته فى الإفراج عن الشخص المعنى، وفى نفس الوقت تحقق له القدرة على إعادة القبض عليه، واستدعائة لتنفيذ باقى مدة العقوبة التى كان محكوماً بها عليه، وبلا أى إجراءات تذكر، بمجرد جرة قلم، إذا ما رأى النظام ذلك. إذ يكفى استصدار قرار طبى جديد، بأن صحة هذا الشخص المعنى، قد تحسنت بما يسمح بقضائه باقى مدة العقوبة.
 وكنت أعتقد أن عملية الإفراج عنى، كانت تتضمن فيما تضمنته من أسباب، إجراء تجربة جديدة على كيفية التعامل مع الشيوعيين الذين قد يقرر النظام إطلاق سراحهم فيما بعد، واختيار الآلية القانونية المناسبة لتحقيق هذا الغرض، والدليل على ذلك، هو أن النظام قد اتبع هذه الآليه ذاتها فعلاً، مع كل الشيوعيين الذين قرر - سياسياً - الإفراج عنهم بعد ذلك بعدة سنوات، وهى إليه العفو الصحى. وهكذا نرى طبيعة العلاقة بين السياسة والقانون فى بلاد مثل بلادنا. وفى بداية الثورة، تم استبعاد تطبيق العفو عن المحكوم عليهم فى القضايا السياسية قبل الثورة على المحكوم عليهم فى القضايا الشيوعية، بحجة "قانونية" هى أن القضايا الشيوعية ليست قضايا سياسية، بل هى قضايا "إجتماعية"، أما بعد ذلك، وحين شاءت السياسة، فقد أفرج عن الشيوعيين المحكوم عليهم، بحجة قانونية أخرى هى أنهم غير لائقين "صحياً" لتنفيذ تلك الأحكام. فتأمل..!
 كانت حياتى كلها قد تأخرت لمدة سبع سنوات، وكان على أن أحث الخطى لأعوض هذا الزمن، فى كل نواحى حياتى. بدأت - طبعاً - بإعادة بناء حياتى العائلية، مع زوجتى سهير، وابنتى ليلى التى كنت تركتها وهى فى الثانية من عمرها بينما بلغت الآن السادسة من العمر، ومع ابنى يوسف، الذى لم آره منذ ولد، وها هو الآن قد بلغ السنة الخامسة من عمره، ولم يكونا يريانى إلا فى ملابس السجن، وفى ظروفه الشاذه، أثناء زيارتهم لى مع سهير. وقد روت لى سهير أن ليلى قد سئلت وهى فى أول ذهابها إلى مدرسة الحضانة بحلمية الزيتون، عن وظيفة والدها، فأجابت دون تردد: مسجون شيوعى، مما حدا بناظرة الحضانة إلى رواية هذه القصة لبعض الجيران. وكان هذا كل ما تعرفه ليلى - وطبعاً يوسف - عنى.
 وبدأت أجدد علاقاتى بأسرتى، زرت شقيقتى عليه فى منزلها، مع يوسف بعزبة النخل - حيث أقاما لنا - أنا وسهير والأولاد، وليمة غداء فاخرة، كان قوامها الرئيسى، كم كبير من البط الشهى مما كانا يربيانه فى حديقة ذلك المنزل. كما قمت بزيارة شقيقاتى، خيرية، وبهيجة، وسعاد. كما قمت أنا وسهير والأولاد، برحلة إلى زاوية المصلوب، قريتى، حيث أقمت يومين فى السراية، التى كان يسكنها فى ذلك الحين، أخى الأصغر، محمد وأسرته، قمت خلالهما بزيارة شقيقتى هدى، وعماتى وخالاتى بالقرية، ورأيت عدداً كبيراً من أولاد وبنات الأعمام والعمات والخالات. وتعرفت ليلى ويوسف على كل هؤلاء لأول مرة.
 وفى القاهرة، بدأت بالبحث عن مسكن مناسب، يكون مقراً لسكناى مع أسرتى، ولعملى فى المحامة من جديد. وبدأت البحث بالعمارة التى كنت قبل القبض على استأجر غرفة فيها كمكتب للمحاماة فى القاهرة، وقد ساعدنى الحظ إذ وجدت بها شقة مناسبة تقع على شارع الساحة، وتطل على محكمة عابدين - إحدى أهم المحاكم فى القاهرة، وكانت شقة فسيحة تصلح لتخصيص حجرة وصالة منها لاستعمالها مكتباً للمحاماه، مع تخصيص بقيتها لإقامة الأسرة. واستطعت الحصول على غرفة مكتب جديدة، وعلى بقية الأشياء المطلوبة، للمكتب، وللإقامة إما بالتقسيط أو بعقد بعض القروض.
 قبل الإفراج عنى كانت ليلى ابنتى قد بلغت السادسة من عمرها، والتحقت بإحدى المدارس الإبتدائية بحلمية الزيتون، واستطعت إتمام إجراءات تحويلها إلى مدرسة جديدة بمنطقة عابدين، هى مدرسة القاضى شرف الدين، التى تقع خلف قصر عابدين. وكان ذلك فى حينه حلاً مناسباً، لولا أن الطريق من منزلنا بشارع الساحة، إلى تلك المدرسة كان طريقاً مرعباً. كان هناك شريط ترام يمر فى شارع الساحة أمام منزلنا، وتسير عليه عدة خطوط ترام، وبه محطة ترام قريبة من المنزل، وكان على ليلى أن تسير فى هذا الشارع حتى شارع عبد العزيز، الذى تسير فيه هو الآخر عدة خطوط ترام، ثم تسير فى شارع عبد العزيز إلى شارع حسن الأكبر، ثم تلتف خلف قصر عابدين لتصل إلى مدرسة شرف الدين، ثم تعود إدراجها إلى المنزل، فى تلك الطرق الموبوءة بقطارات الترام، وبالسيارات من كل نوع، هذا الوقت الذى لم تكن قد تجاوزت فيه السادسة من العمر، ولم تكن لديها أية دراية بمثل هذه الشوارع، إذ أنها كانت من قبل تقيم فى حى حليمة الزيتون، وكان حياً هادئاً - فى ذلك الحين. وكانت الأخطار التى تتعرض لها ليلى فى رحلة ذهابها إلى المدرسة وإيابها منها، تصيبنا، أنا وسهير، بالرعب، ولكننا كنا قد تمكنا من الحصول على خادم يدعى لطفى، من بيت والدها فى عزبة النخل، يبلغ من العمر اثنى عشر عاماً، وعلى درجة من النصاحة، توحى بدرجة من الثقة، فكلفناه بأن يصحب ليلى فى ذهابها وإيابها من المدرسة، وإليها. وكانت هذه هى مهمته الأساسية. وهكذا داخلنا شئ من الارتياح من جهة ليلى التى بدأت تتأقلم مع ظروفها الجديدة، بحيث أنها طلبت هى إعفاءها من مصاحبة لطفى لها، على أن تتكفل وحدها بمهمة الذهاب والإياب من المدرسة وإليها.
 وانحصرت المشكلة فى يوسف، الذى كان قد أتم السنة الخامسة من عمره فحسب، ولم يكن قد التحق بأى مدرسة بعد، سوى دار حضانة كان يذهب إليها فى حلمية الزيتون، فى مواجهة منزل الأسرة هناك، وكان كثيراً ما يمل البقاء فى هذه الدار، فيطلب الخروج منها، والإياب إلى المنزل فى أى وقت يشاء، وكان العاملون بالمدرسة، أو بعض الباعة المتجولون الذين يعرفونه ويعرفهم، أو حتى بعض الجيران، يقومون بتوصيله من الحضانة إلى المنزل. ولم يكن هناك أى حل متاح للتغلب على ملله من الجلوس فى شقة شارع الساحة، إلا جلوسه فى البلكونة للتفرج على ما يجرى فى الشارع، من حركة الناس والمواصلات، أو، تركه يلعب وحيداً بحبات البلى على سجادة حجرة المكتب، لساعات طويلة، وكانت لديه علبة من الصفيح، يحتفظ فيها بعشرات من البلى، ظل محتفظاً بها إلى أن أصبح طبيباً، ولعله مازال محتفظاً بها حتى الآن، على سبيل التذكار.
 ...
نجحت اللافته الكبيرة المعلقة على نافذة الشقة، فى مواجهة بوابة المحكمة، فى اجتذاب بعض الموكلين، فوردت إلى المكتب بعض القضايا - قضايا جنح، وقضايا مدنية، وبعض الاستشارات القانونية، معظمها فى موضوع إيجار المساكن. غير أن الأهم من ذلك، كان هو ورود عدد من القضايا من جهة الواسطى، موطنى الأصلى، كانت كلها قضايا قتل للثأر، أو قضايا إحراز سلاح بدون ترخيص، واقتضى العمل فى هذه القضايا ومباشرتها، اقتضى ذهابى كثيراً إلى الواسطى، وإلى بنى سويف، لمباشرة تلك القضايا أمام محكمة الجنايات بها، وفى فترة لاحقة، اضطررت إلى استئجار شقة بالواسطى، لاستخدامها مكتباً فرعياً لى هناك، وتعيين وكيل وكاتب لى لتسيير الأعمال هناك. وهكذا انقلب الوضع، فى الماضى كان مكتبى الأساسى بالواسطى، وكان لى مكتب فرعى بالقاهرة، أما الآن، فإن مكتبى الأساسى أصبح فى القاهرة، ومكتبى الفرعى بالواسطى، وفى الماضى كان مسكنى بالسراية- فى الزاوية، على مقربة من الواسطى، أما الآن فقد أصبح مسكنى بالقاهرة. فى الماضى، كنت انتقل من مسكنى إلى مكتبى بالواسطى على ظهر الفرس، أما الآن، فانتقل إليه من القاهرة، بواسطة قطارى الديزل، فى الصباح، وبعد الظهر.
 أول من التقيت بهم من الزملاء بعد الإفراج عنى كان هو سعد كامل، وكان قد أفرج عنه هو وزوجته مارى، بعد انتهاء مدة سجنهما -خمس سنوات، وقبل الإفراج عنى بعدة شهور، وذلك قبل أن يتم نقلنا -أن والأخرين - إلى عنبر بسجن مصر. وكانت العادة أن يحال من تنتهى مدة عقوبتهم من الشيوعيين إلى الاعتقال، ولكن ذلك لم يطبق عليهما - بصفة استثنائية بسبب قرابة سعد للأستاذ فتحى رضوان، الذى كان وزيراً للإرشاد فى عهد الثورة.
  ذهبت إليهما فى منزلهما بشارع شاهين، المتفرع من شارع سليمان جوهر بالدقى، وكنت أعرفه من قبل، فى المساء، فوجدتهما قابعين هناك، وكانت زيارتى لهما مفاجأة سارة لهما ولى. وكانا قد علما بخروجى من السجن. كنت قد تعرفت على سعد منذ لقاءاتى به فى مجلة الكاتب، فى حركة السلام، سنة 1951،ونشأت بيننا علاقة ودية، إذ أعجبنى ذكاؤه وروحه الفكاهية ودماثة أخلاقه.
 ثم التقينا فى سنة 1954 عندما أفرج عنه هو ومارى من الحبس الاحتياطى فى قضية الجبهة، وكنت أنا عضواً فى اللجنة المركزية المؤقته. ثم التقينا بعد ذلك فى ليمان طرة، وفى سجن واحة جناح، وفى سجن مصر، حيث توثقت علاقتنا إلى درجة الصداقة القوية، التى ظلت قائمة إلى أن أفرج عنه قبل نقلى - ومن معى - إلى عنبر ب، ثم الإفراج عنى.
 تجاذبنا الحديث فى مختلف الموضوعات، فوجدنا أننا متفقان فى الرأى فى كل الموضوعات والتقديرات. وكان سعد، مبتهجاً بالحرية، ولكنه كان مستاءً من وضعة تحت المراقبة - هو ومارى - من غروب الشمس إلى شروقها. خاضعاً للتمام عليه كل ليلة بواسطة مخبر من القسم، وإلا تعرض للحبس فى قضية "هروب من المراقبة". وكان ذلك ينغص عليه حياته. وقال لى:
 -هذا وضع لا يقل سوءاً، تقريباً - عن السجن. تصور أننى لم أخرج بالليل أبداً، مع أنك لا تعرف أننى من عشاق السهر. لم أذهب إلى سينما ولا إلى مسرح، ولا إلى أى مناسبة اجتماعية. وبالطبع هذا الوضع يشلنى عن ممارسة أى عمل مناسب. وأنا الآن لم أصل إلى نتيجة. وحتى المحامة - وأنا لا أميل إلى العمل فيها كثيراً، فإنها تقتضى منى أن أذهب إلى مكتب، وأن أقابل الناس وهذا يقتضى منى أن أعمل ذلك ليلاً. وكثير من أعمال المحاماة كالتحقيقات فى النيابة وأقسام الشرطة تتطلب الخروج ليلاً.
 تداولنا فى الموقف، وأخبرته أننى بصدد افتتاح مكتب محاماه، وأنه يسرنى، عندما ينجح فى إلغاء الرقابة عليه، أن نتعاون معاً فى أعمال المحاماه. وأخبرته بأن مسأله إلغاء الرقابة، ليست صعبة، كصعوبة الأفراج عنه والعدول عن إحالته إلى المعتقل.
 قبل أن أنصرف، أخبرنى سعد، بأنه سوف يحضر لى هدية جميلة بمناسبة الإفراج عنى، تذكرتين لحضور إحدى حفلات البالية التى يقدمها فريق البولشوى السوفييتى على مسرح الأوبرا بالقاهرة، وأنه يستطيع إحضارهما لى، من خلال صهره - الدكتور على الرعى، الذى يعمل رئيساً لمؤسسة المسرح. وسألنى أى العروض تود مشاهدته؟ فقلت له فوراً:
 -بحيرة البجع. وكانت تلك من أعز أمنياتى فعلاً.
 بعد يومين - التقينا ثانية. وقدم لى سعد التذكرتين.
 فى اليوم الموعود، ذهبت أنا وسهير إلى دار الأوبرا، فى ميدان الأوبرا، ودخلناها، ونحن فى نشوة من السعادة. نشوة الوجود فى هذا المحراب الرائع من محاريب الفن والثقافة. ونشوة الوجود مع هذا الجمهور الراقى من المصريين والأجانب، ثم نشوة السعادة بالعرض الرائع لبالية بحيرة البجع، سعدنا بالعرض، بالرقص والموسيقى، والملابس، والديكورات، وبالخشوع الذى كان يسود المكان، أثناء تقديم هذا العرض البديع، بل أثناء إقامة هذا الطقس المهيب من طقوس العبادة. وكنا ومازلنا، أنا وسهير مبهورين بهذا العرض الذى كنا نراه وكأنه حلم من أحلام اليقظة أو المنام، ومازلت أذكر مايا بليستسكايا، بطلة هذا البالية، وملكة البجع الذى تمثلة رواية البالية، وهى تطير فى الهواء، وكأنها بجعة حقيقية، فى أداء يأخذ بمجامع القلوب. وفيما بعد، عندما جاء خرشوف لزيارة مصر فى افتتاح السد العالى، ذكرت ذلك فى القصيدة التى نشرت يوم وصوله فى صحيفة الجمهورية وجاء فيها:
عرفتك أمتنا الوفية قبل أن
تشهد خطاك..وأن يحين لقاء..
...
فى روعة البولشوى بين ربوعنا
وقلوبنا بين الضلوع ظماء
وبهاء مايا-لم يضارع فنها
فن، ولا بلغ الرواء رواء
 ولم ينغص على صفو هذه السعادة إلا اسفى لان سعد كامل ومارى لم يتمكنا من حضور مثل هذا العرض رغم أن سعد هو الذى أتاحه لى، وإلا ألمى لحرمان زملائى الكثيرين، الذين يعانون فى أعماق السجون، فى الوقت الذى أنعم أنا فيه بمثل هذه النعمة.
 ...
 فى تلك الفترة تعرفت على الشاعر والكاتب والفنان العظيم عبد الرحمن الخميسى، عن قرب. كنت أعرفة منذ سنوات طويلة، أسمع عنه وأراه من بعيد، وأقرأ له إبداعاته الشعرية والنثرية فى صحيفة المصرى. ومنها صياغته الحديثة لحكايات ألف ليله وليلة، وغيرها، ولكن لم تتح لى فرصة التعرف عليه من قرب. رغم علمى أنه كان قد انضم إلى تنظيم حدتو فى عام 1953. وكان قد قدم للمحاكمة فى قضية شيوعية حكم له فيها بالبراءة، ولكنه أحيل إلى المعتقل، كما كانت تجرى العادة فى تلك الأيام، وظل فى المعتقل، كما علمت بعد ذلك، إلى أن حضر إلى مصر، رئيس وزراء السودان بعد استقلالة، وهو الشاعر، والمحامى، والمهندس، محمد أحمد محجوب، وكان صديقاً للخميسى ومن محبية. ذهب محجوب للقاء عبد الناصر، فأحسن استقباله، ولكن محجوب بقى متجهماً إلى أن سأله عبد الناصر:
 -خير.. زعلان ليه؟ فأجابة محجوب بكلمة واحدة:
 -الخميسى.
 سأله عبد الناصر؟
 -ماله الخميسى، واحد شيوعى، واعتقلناه.
 لم يدخل محجوب فى أى حوار مع عبد الناصر، ولكنه قال:
  على الطلاق ما أنا خارج من عندك دا الحين، إلا إذا أمرت بإخراجه من السجن، وإذا كنتم مش عايزينة فى مصر، أنا آخده معى السودان.
 ضحك عبد الناصر، ونفذ لمحجوب طلبه، وأفرج عن الخميسى، ولم يسافر محجوب من القاهرة إلا بعد أن زار الخميسى فى منزله، وتعشى معه، لحمة رأس.
 وفيما بعد، حين زرت السودان، مع الخميسى، أنا ورجاء النقاش فى سنة 1968، ومحجوب رئيس للوزراء، بدعوة من عبد الماجد أبو حسبو، وزير الثقافة بالسودان وقتذاك، رأيت من حفاوة محجوب ومن حوله من الوزراء والأكابر، بالخميسى، وبنا معه، مالا يصدر إلا من أصدق الأصدقاء، وأحب الأحباب. كان محجوب يأتى إلينا فى الفندق الذى ننزل فيه، ويأخذنا إلى بيته وهو يقود لنا السيارة بنفسة، ثم يقدم لنا الطعام بيده، سواء كنا معه فى بيته، أو فى بيت أى من أصدقائه وأقاربة وزملائه، الذين تقام لديهم الونسة فى ذلك اليوم. بعد خروجى من السجن، وسكناى فى شارع الساحة، التقيت بالخميسى كثيراً، وعرفته عن كثب، ونشأت بيننا مودة وصداقة، فأصبحنا كالأخوين الشقيقين. كان الخميسى يقيم فى عمارة قريبة منى، فى ارع الجمهورية، ناحية حسن الأكبر. وكان فى نفس الوقت يستأجر شقة أخرى يتخذها مكتباً يقابل فيها أصدقاءه وأحبابه ومعارفه الكثيرين، فى الدور الثانى من نفس العمارة، كما يتخذها مقراً لأعماله الفنية المتعددة. ودعانى لزيارته، أساساً فى مكتبه هذا الذى كان يقضى فيه معظم أوقاته. وترددت عليه فى ذلك المكتب كثيراً، بينما كانت سهير تصعد لزيارة ألطاف زوجته، التى كانت صديقتها وزميلتها فى المعهد العالى للخدمة الاجتماعية، ثم تنزل فتأخذنى لننصرف معاً إلى منزلنا القريب.
 وكان الخميسى فى تلك الأيام فى قمة تألقة الفنى والأجتماعى، كان قد انتهى لتوه من عمله فى فيلم - حسن ونعيمة، مؤلفاً وماتباً للسناريو والحوار، والأغانى، ومستشاراً للإخراج مع المخرج بركات، ومعلماً وموجهاً لبطلى الفيلم اللذين كان قد اكتشفهما وقدمهما، سعاد حسنى أسطورة السينما المصرية التى تربعت على عرشها بعد ذلك لمدة ثلاثين عاماً، ومحرم فؤاد، الذى أصبح ومازال من أشهر المطربين وأبطال الأفلام.
 وكان قد دخل لتوه فى تجربة رائعة جديدة، إذ كان يقوم بترجمة أوبريت - الأرملة الطروب، إلى اللغة العربية عن أصلها الفرنسى، ترجمة الحوار، والأغانى وضبطها على نفس الألحان والنغمات الأصلية للأوبريت، وهى تجربة جديدة - فيما أعلم - فى الفن المصرى، وقد نجح فيها نجاحاً عظيماً. وكان تكليفه بهذه المهمة الصعبة، عملاً جريئاً من الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة فى ذلك الحين، ودليلاً على ثقته فى قدرات الخميسى ومواهبة الفذه.
 اقتربت أنا والخميسى جداً، ولقيت الكثير من دلالات صداقته ومودته، وكرمة، ولطف معشرة، ومنذ ذلك التاريخ، وعبر زمن طويل، وفى ظروف صعبة وسهلة ومتغيرة، وفى مصر، وفى الخرطوم، وفى بغداد، وفى موسكو، وفى تبيليسى - جورجيا، سعدت بصداقة الخميسى، وبأخوته، لحين وفاته إلى رحمة الله. وقد رثيته عند وفاته بقصيدة طويلة نشرتها جريدة الأهرام يوم 1987/4/16 بعنوان "رحيل البلبل"، وجاء فيها:
قيثارة الشعر ناحت من فجيعتها
وربة الفن أجرت دمعها القانى
فمن سواك يفيض الشعر منسكباً
من قلبه نبع أشواق وألحان
ومن يرد القوافى بعد غربتها
ويبعث الروح فى نظم وأوزان
ومن يجوب رياض الفن مجتلياً
بدائع الروض من ورد وريحان
كأنه البلبل الغريد منطلقاً
على جناحين من وجد وحرمان
...
 فى تلك المرحلة أيضاً، تعرفت على السيدة الفاضلة، ماتيلدة جاك آريبه، والدة زميلنا وصديقنا وأخينا العزيز ألبير أرييه الذى كان آخر من رأيته وتحدثت معه - هو والدكتور شريف حتاته - فى سجن مصر، يوم الأفراج عنى، وكنت قد لقيت آلبير لأول مرة فى ليمان طره، قبل ترحيلنا منه إلى واحة جناح، ثم ظللت معه فى سجن جناح وسجن مصر، إلى يوم الإفراج عنى فى آخر سنة 1959 - حوالى خمس سنوات، لم نفترق فيها، ولم تشب علاقتنا وزمالتنا أى شائبة. حتى أصبحنا كأخين شقيقين. وكنت مع آلبير حين تلقى نبأ وفاة والده ونحن فى عنبر ب بسجن مصر، قبل الإفراج عنى بشور قليلة، ولمست مدى حزنه على أبيه، وقلقه على والدته التى أصبحت وحيدة، وقد تقدمت بها السن، وهو سجين لا يستطيع أن يقدم لها ما تحتاج إليه من عون. وكان آلبير، قد أوصانى وأنا خارج من السجن، أن اتصل بوالدته، وأن أقدم لها ما تحتاج إليه من عون.
 وهذا ما فعلته. ذهبت إليها أنا وسهير فى محل "نيولندن هاوس" بميدان مصطفى كامل بالقاهرة - وهو المحل المملوك للأسرة، والذى تتولى هى الآن إدارته، وقدمت لها نفسى، وأبلغتها تحيات ألبير، ورغبته فى أن أكون إلى جوارها، وفى خدمتها. وكانت السيدة قد عرفت بخروجى من السجن، وسمعت عنى - من ألبير ما شجعها على الثقه بى، فتلقتنى أنا وسهير - التى كانت قد عرفتها من قبل - بترحيب ظاهر، وود كبير.
 وتعددت زياراتى لها فى المحل، كما قامت هى بزيارتنا فى مكتبى بعد أن انتقلنا إليه. كانت هى تمثل حلقة صله بينى وبين ألبير، ومن ثم مع من معه فى السجن، فى حدود متابعة الأخبار العامة، كما كانت حلقة صلة بينى وبين الكثيرين من المعارف والأصدقاء، والعائلات. وكنت أقدم لها المساعدة بالنصيحة القانونية فيما تحتاجه من مشورات فى هذا الصدد. كما كنت أصحبها أحياناً فى ذهابها إلى طبيب العيون، الذى كانت مضطرة للذهاب إليه من حين لآخر، فى عيادة بعمارة اللواء، بباب اللوق.
 وكانت تتعامل معى كأم حقيقية، كما كنت أتعامل أنا معها، كأننى أخ شقيق لولدها - ألبير. رحمها الله، فقد كانت سيدة فاضلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق