ذكريات شاعر مناضل: 7- المستشار القانونى

7- المستشار القانونى


  أعد لى مكتب مناسب فى بمنى الإدارة بستوديو مصر، على مقربة من مكتب رئيس الشركة - موسى حقى. وما أن جلست إلى مكتبى هذا حتى بدأت أشمر عن ساعة الجد، لأحول هذه الكلمة "المستشار القانونى" إلى واقع عملى ملموس.
 بدأت بصياغة نماذج قانونية للعقود التى تبرمها الشركة مع الآخرين فى مختلف نواحى نشاطها. عقد العمل الذى تحرره الشركة مع العاملين بها من الموظفين والعمال، طبقاً لأحكام قانون العمل الذى كان حديث الصدور. ثم عقود المقاولة التى كانت تحررها الشركة مع العاملين فى أفلامها فى مختلف التخصصات: المؤلفون، المخرجون، المصورن، مدير الإنتاج، وغيرهم ممن يشاركون فى إنتاج الفيلم من غير موظفى الشركة وعمالها. وفى خلال أسبوعين، كانت تلك النماذج قد وضعت، ونوقشت، وأقرت، ثم طبعت وأصبحت جاهزة للاستعمال.
 ثم قمت بمراجعة كل القضايا القائمة بين الشركة والآخرين وكانت معظمها قضايا عمالية أقامها بعض العمال الذين جرى فصلهم. أو طبقت عليهم عقوبات أو إجراءات إدارية لم يقبلوها، أما باقى القضايا فكانت قضايا مدنية رفعت من الشركة أو عليها. ومعظم هذه القضايا أوصيت بإنهائها صلحاً، وتم تحرير محاضر صلح أنهيت بوجبها معظم المنازعات، وكان لذلك أثره فى إشاعة جو من الارتياح العام داخل الشركة، وفى أوساط المتعاملين معها.
 ثم قمت بمراجعة قائمة بالديون المستحقة للشركة على عدد كبير من عملائها. وبدراسة كل حال منها على حدة، وانتهيت من تلك الدراسة إلى تقسيم هذه الحالات إلى ثلاثة أنواع، الأول: حالات يمكن الوصول فيها إلى حل تصالحى، من خلال مفاوضات مع الأطراف الأخرى، يمكن مباشرتها بشئ من المرونة والتسهيلات والتنازلات، فى مقابل الحصول على نسب لا بأس بها من تلك المديونيات المجمدة. والثانى: حالات أكثر صعوبة وتعقيداً، يقتضى حلها إقامة قضايا أمام المحاكم المختلفة، وانتظار البت فيها قضائياً. والثالث: حالات ميئوس منها، لإفلاس الأطراف الأخرى أو هروبهم خارج البلاد، مما يتعين معه اعتبار تلك المبالغ ديوناً معدومة.
 وقد شكلت داخل الشركة لجنة من المختصين فى الشئون الفنية، والمالية، والتجارية، برئاسة رئيس الشركة، لبحث هذه الاقتراحات بحثاَ مفصلاً، انتهت إلى إقرار معظم ما أوصيت به من المقترحات، وبدأت العمل فوراً على تنفيذ تلك القرارات.
 أنشئت إدارة قانونية للشركة، تعمل تحت رئاستى. وكان بالشركة محام واحد أسمه الأستاذ محمد عبد الفتاح، يمارس عمله كيفما اتفق، كما كان بها خريج حديث من كلية الحقوق. يعمل فى الشئون الإدارية دون اختصاص محدد هو الأستاذ: عبد المنعم سيد، فطلبت أن يضم إلى هذه الإدارة، وأن يكلف بقيد نفسه فى سجل المحامين بالنقابة، وتم ذلك. كما قمت بتعيين اثنين من وكلاء المحامين، ذوى الخبرة، استعنت فى اختيارهما بصديق لى يعمل مديراً لإدارة القضايا ببنك مصر هو الأستاذ محمد أبو الدهب. وهكذا أصبحت لدينا إدارة للشئون القانونية، لمباشرة القضايا التى تقرر رفعها لاقتضاء مستحقات الشركة، ولمباشرة التحقيقات التى تطلب إدارة الشركة إجرائها.
  وفى خلال شهرين من الزمان، كانت كل الأعمال القانونية فى الشركة تسير فى طريقها المرسوم.
 كان قد وفد إلى الشركة عدد من العاملين الجدد، استكمالاً لطاقم العمل اللازم لها.
 فى النواحى الفنية حضر إلى الشركة مهندس كبير، اسمه المهندس منير عبد الوهاب، علمنا أنه كان يعمل قبل ذلك فى مصلحة التليفونات، وقد عين بالشركة مديراً للشئون الفنية، مختصاً بالآلات والمعدات الهندسية، لاستكمالها، والإشراف على تشغيلها وصيانتها. وكان رجلاً نشطاً وكفئاً، سرعان ما قامت بينى وبينه رابطة من الثقة والألفه، امتدت بعد ذلك لسنوات، وقام المهندس منير عبد الوهاب....
 -عربية إيه. مفيش عربية. مفيش عربية، قلت لك مفيش عربية.
 وحاول أحمد المصرى أن يهدئ من ثائرته. ولكنه استمر فى ثورته, وهنا نظرت إلى أحمد المصرى، وقلت له:
 -معلهش يا أحمد بيه، سيبه.
  تركتهما ونزلت. وخرجت من الأستوديو، نظرت فلم أر أى تاكس يسير فى مكان قريب، فقد كان الأستوديو يقع فى منطقة خلوية منعزلة. وظللت أسير حتى وصلت إلى شارع الهرم، وهناك أخذت سيارة تاكسى، وأمرت سائقها أن يسير إلى القاهرة. وصلت إلى ميدان عابدين، وكانت وزارة الثقافة فى ذلك الوقت تتخذ مقرها فى القصر الملكى بعابدين. دخلت إلى مكتب الوزير، وسألت عنه، فقال لى عادل شوقى، مدير مكتبه (وابن خالته)، إن الوزير فى مشوار فى الخارج. وسيصل بعد قليل، وطلب منى الجلوس لانتظاره. ثم سألنى لماذا أريد مقابلته، فرويت له ما حدث، وأخبرته عن سلوك "الشخص" وأفعاله، وكيف أنها تسئ إلى الوزارة والدولة كلها. فهز عادل رأسه، وطلب منى الانتظار.
 بعد ربع ساعة عاد الوزير. ما أن دخل وبدأ يستقبل بعض منتظريه، بينما جلست أنا انتظر دورى، إذ "بالشخص" يدخل مهرولاً، ويتجه إلى عادل شوقى، الذى أشار نحوى، فأقبل الشخص يجرى نحوى، وانحنى على رأسى يقبلها وأنا جالس لا أعيره انتباهاً، وظل هو واقفاً يعتذر لى بصوت خفيض كهديل اليمام، وسمعته يقول:
 -آخر مرة.. آخر مرة والله العظيم. فضحكت ونهضت، ثم توجهت إلى عادل شوقى، وأشرت له على الشخص الذى كان كازال يقول:
 -آخر مرة. ثم سلمت على عادل وانصرفت. وجال فى ذهنى أن عادل هو الذى - بادر إلى الاتصال بالشخص واستدعائه، وأراد بذلك أن يحل المشكلة قبل أن ياتى الوزير. وكان عادل يفعل أشياء من هذا القبيل، لتسهيل الأمور على وزيره، وابن خالته.
 مرت الأيام بعد ذلك هادئة. فلم أعد أسمع "للشخص" صوتاً بعد ذلك. انكمش فى مكتبه، وتولى المصرى كل أعماله. أما موسى حقى فقال لى:
 -برافو عليك، أنت عملت فيهإيه؟ أجبته مبتسماً:
 -أبداً والله، مالحقتش أعمل فيه حاجة.
 بعد أيام قليلة فوجئت بسعد كامل داخلاً إلى مكتبى فى الشركة. وسألته عن سبب تشريفه، فقال لى:
 -عينت أنا أيضاً بالشركة. عينت رئيس تحرير للجريدة الناطقة.
 لم أصدق أذنى - وسألته:
 -رئيس تحرير؟ إزاى؟ فقال:
 أليست هى جريدة؟ وكل جريدة لابد لها من رئيس تحرير. والجريدة بوضعها الحالى ليست على ما يرام، فمديرها - حسن مراد - يفعل بها ما يشاء، ويسخرها لأعراضه الخاصة. وقد اقترحت على الدكتور ثروت أن يعيننى رئيساً لتحريرها، فأقتنع بالفكرة، وأصدر القرار.
 كانت جريدة مصر الناطقة، من معالم شركة مصر للتمثيل والسينما، ستوديو مصر، وكان حسن مراد، الذى كان فى الأصل مصوراً، قد أرسل فى بعثة من أيام طلعت حرب إلى ألمانيا، للتخصص فى إصدار الجريدة الناطقة، وعاد إلى مصر، فأسند إليه أمر إصدار الجريدة، من وقتها - فى أوائل الثلاثينات، وهو يتولى هو وحده إصدارها، ولا أحد سواه يعرف أى شئ عنها. واستطاع حسن مراد أن يدخل فى علاقات ومجالات كثيرة، وأن يكون له نفوذ كبير فى البلاد، بفضل الجريدة، وقيل أيضاً أنه كان يتكسب من ورائها بمبالغ لا بأس بها. ولذلك، جاء تعيين رئيس تحرير للجريدة، أى رئيس له فيها، بمثابة صاعقة نزلت على أن رأسه. ظل أياماَ وأسابيع، يسير فى طرقات الأستوديو، ويدخل إلى كل مكاتبه وهو يهذى ويقول:
 -رئيس تحرير، رئيس تحرير، رئيس تحرير إيه وبتاع إيه، أما كلام فارغ. حاول سعد كامل أن يتفاهم معه، ولكن دون جدوى، ولم يمكنه حسن مراد من أى شئ حتى مجرد الكلام معه.
 ثم انتهى حسن مراد إلى حالة تشبه الجنون، فكان يسير فى طرقات الشركة وهو يقول:
 -يا خويا الدنيا جرى فيها إيه؟ الشركة اتملت مساجين، أى والله اتملت مساجين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق