ذكريات شاعر مناضل: 14- الموازين تعتدل

14- الموازين تعتدل

  بعد فشل المؤامرات التى حاول الأخ عبد المنعم أن يحكيها لعرقلة عملى بالشركة، ثم بعد نقله هو نفسه منها (بناء على طلبه)، أخذت الموازين كلها تعتدل، وأخذت سفينة الشركة تواصل سيرها فى هدوء وانتظام.
 وبعد أيام قليلة. أبلغنى الدكتور ثروت عكاشة. بأنه قد نجح فى استصدار قرار بفتح اعتماد مفتوح لصالح الشركة، لتمكينها من أداء أعمالها، والوفاء بالتزاماتها مع الشركات الأجنبية التى كانت قد تعاقدت معها. وجاء الخبر فى وقته المناسب، إذ سرعان ما جاء المطالبون.
 بدأ الأمر برفود رجل إيطالى اسمه السينيور جيونى، وطلب مقابلتى، وكان معه شخص يدعى: شارل ليفشتز، وهو أجنبى متمصر، يعمل وسيطاً ومترجماً للشركات الأجنبية التى لها مصالح فى مصر، وقابلتهما، وعلمت أن السيد جيونى هو مدير الإنتاج لإحدى الشركات السينمائية الإيطالية، التى كانت شركة كوبروفيلم قد تعاقدت معها على إنتاج فيلم مشترك اسمه: "كيف سرقنا القنبلة الذرية"، وأنه قد جاء ليتفق معى على موعد حضور الفريق الإيطالى، لبدء التصوير فى مصر. أخذت من جيونى موعداً فى صباح اليوم التالى، لاستئناف الحديث، بعد أن أكون قد رجعت إلى أوراق الشركة، وأخذت فكرة واضحة عن الموضوع. وبالفعل، رجعت إلى أوراق الشركة، وإلى عقد الاتفاق المحرر بينها وبين الشركة الإيطالية، قم إلى ملف الفيلم. وعرفت أن هذا الموضوع، وهو من اختيار الشركة الإيطالية، هو موضوع كوميدى يقوم ببطولته نجمان كوميديان إيطاليان، مثل لوريل وهاردى، اسم ظظاشهرهما: توتو، وهو فى إيطاليا مثل إسماعيل ياسين فى مصر، ومعه طاقم من الممثلين الثانويين الإيطاليين، ومجموعة من عناصر الإخراج والإنتاج والتصوير الإيطاليين، ويدور موضوع الفيلم حول عصابة من اللصوص الإيطاليين، جاءوا إلى مصر، للبحث عن قنبلة ذرية كان الإيطاليون قد خبأوها فى مكان ما فى مصر، منذ الحرب العالمية الثانية. وكان المفروض أن تشارك مصر فى هذا الإنتاج بعدد من الفنيين وممثلى الكومبارس، وأن يشترك فى التوجيه الفنى، المخرج الكبير نيازى مصطفى بما عهد فيه من قدرات فى هذا النوع من الأفلام، وذلك كمستشار للمخرج الأصلى، الإيطالى، للفيلم.
 أما من الناحية المالية، فقد كان متفقاً على أن يتحمل الجانب الإيطالى أجور كل الممثلين والفنيين الإيطاليين، وكذلك كل مصروفات الإنتاج التى تدفع فى الخارج، ومنها إيجار معدات التصوير وثمن الفيلم الخام، وأجور المعامل عن عمليات التحميض والطبع والتسجيل، والمونتاج والميكساج.. إلخ، ثم أجور السفر للأفراد الأجانب إلى مصر، ومنها.
 وكان متفقاً على أن يتحمل الجانب المصرى كل النفقات التى تصرف فى مصر، من نفقات الإعاشة، وإيجار أماكن التصوير، والانتقالات الداخلية، وأجور الأفراد المصريين من الفنيين والكومبارس.. إلخ.
 وأما عن عائدات الفيلم، فقد كان متفقاً على أن يختص الجانب الإيطالى بكل الإيرادات التى تعود من عرض الفيلم فى إيطاليا، وكل الدول الأوربية، وأن يختص الجانب المصرى بإيرادات الفيلم فى مصر، والبلدان العربية والأفريقية، وكلها إيرادات وهيمة، إذ لم يكن لمثل هذا الفيلم الإيطالى، الشعبى. سوق فعلية فى تلك البلدان. كما كان متفقاً على أن تقسم الإيرادات الناتجة عن عرض الفيلم فى الأمريكتين على الطرفين بالتساوى، على أن يتولى الجانب الإيطالى عملية التسويق فيها، وهو ما يعنى أن الإيرادات التى تتوقع لمصر من هاتين القارتين، هى صفر آخر.
 جمعت كل هذه البيانات، وقابلت السينور جيونى، واستمهلته يومين لإفادته بموقفى النهائى.
 فى نفس هذه الأيام، حضر إلى شارل لفشتز ومعه سينيور آخر، يدعى السينيور لوتشيزانو، وهو صاحب الشركة الإيطالية الأخرى التى كانت شركة كوبروفيلم قد تعاقدت معها على فيلم مشترك آخر.
 كان لوتشيزانو هو الآخر يطلب الاتفاق على موعد حضور فريقه، وبدأ التصوير. واستمهلته هو الآخر يومين، ثم توفرت على دراسة الأمر.
 كان اسم هذا الفيلم الآخر هو: "أبو الهول الزجاجى"، وكان موضوعه هو أيضاً يدور حول عصابه لسرقة الآثار فى مصر، تبحث عن أثر بعينه لسرقته، هو تمثال فرعونى لأبى الهول، مصنوع من الزجاج، علمت بأمره إحدى العصابات الدولية المختصة بسرقة الآثار والإتجار فيها، فحضرت إلى مصر للبحث عن التمثال الزجاجى لتسرقة وتهربه، وخاضت فى سبيل ذلك مغامرات ومطاردات متنوعة، بما فى ذلك مطاردات ذات طابع بدور - على ظهور الخيل، غلى أن عثرت على التمثال واستطاعت سرقته فعلاً.
 كانت الميزة الوحيدة فى هذا الفيلم هى أبطاله الأجانب، فنجماه هما روبرت تايلور النجم الأمريكى الذائع الصيت، رغم أنه كان فى مرحلة أفوله فى ذلك الوقت، والنجمة السويدية الصاعدة ما تزال، انيتا اكبرج، نجمة الإغراء التى كان قد عرض لها فيلم شهير منذ عامين أو ثلاثة اسمه: لذة الحياة - لادولشافيتا. وكان الهدف من إشراكهما فى الفيلم واصطناع دورين لهما فى أحداثه، هو الجاذبية التجارية المتوقعة لاسميهما.
 ومن الجانب المصرى، فلم يكن هناك مشاركة تذكر فى بطولة الفيلم، ولكن كان متفقاً على مشاركة المخرج الكبير كمال الشيخ فى إخراج الفيلم، إلى جانب مخرجة الإيطالى. ومما يذكر أنه فى فيلم القنبلة الذرية - كان الاتفاق يتضمن قيام الأستاذ الكبير يوسف وهبى بدور فى الفيلم، وذلك لكونه يجيد اللغة الإيطالية كأحد أبنائها.
 ومن ناحية الأعباء المالية لهذا الإنتاج، فقد كان الاتفاق بشأنها مطابقاً تماماً لتمثيلة فى الفيلم الآخر - كيف سرقنا القنبلة الذرية. وكذلك الحال فى شأن وتوزيع الإيرادات المنتظرة عن هذا الفيلم أيضاً.
 حملت أوراقى وذهبت لمقابلة الدكتور ثروت عكاشه. لإطلاعه على الموقف قبل اتخاذ قرارى فيه، وشرحت له ما توصلت إليه من حقائق، وما وقفت عليه من بيانات. سألنى:
 -وما رأيك أنت؟ -أجبته.
 -رأيى أنها كارثة. فالفيلمان لا يستحقان أن ننفق عليهما شيئاً، وما سوف ندفعه فيهما، لا ينتظر أن نسترده. ولو كان الأمر بيدى لمزقت هذين العقدين، وألقيت بهما فى سلة المهملات. هذا من النواحى الفكرية والفنية والاقتصادية أيضاً. ولكنى للأسف، أنا أيضاً رجل قانون، وأعلم أن هذا المسلك سوف يكبدنا خسائر فادحة. سألنى الدكتور ثروت:
 -وما هى هذه الخسائر؟ أجبته:
 -سيهرع الإيطاليان إلى روما ويقيمان دعويين على الشركة، وعلى الدولة المصرية، ويطالبان بتعويضات خرافية عما تكبداه من خسائر، ومافاتهما من أرباح، نتيجى إخلالنا باتفاقنا معهما. ومحاكم إيطاليا - كما هو معروف، سوف تحكم لهما بكل ما يطلبانه، وسوف يقومان بتنفيذ هذه الأحكام تنفيذاً جبرياً علينا، بما يفوق عن الخسارة الأدبية الكبيرة الناتجة عن إخلالنا بالعقدين.
 قال الدكتور ثروت وقد تملكه الغضب:
 -مصيبة فعلاً. أنت شخص عاقل جداً يا محمود، وكلامك صحيح. الأمر لله. نفذ العقدين.
 عدت فقابلت السيدين جيونى، ولوتشيزانو، واتفقنا على بدأ التنفيذ بعد أسبوع.
 كنت قد استشرت صديقنا المخرج الكبير أحمد كامل مرسى فى اختيار شخص مناسب موثوق به، وله خبره مسلم بها فى شئون الغنتاج، لتعيينه مشرفاً عاماً على شئون الإنتاج فى الشركة.. فرشح لى المرحوم عبد الحميد زكى، وكان بالفعل اختياراً موفقاً، لما عرف عنه من الخبرة وحسن السمعة والأمانة. فقمت بالاتصال به، وقابلته. واتفقنا على قيامه بالعمل مشرفاً عاماً على الإنتاج بالشركة، بداءاً من الفيلمين الجديدين، كيف سرقنا القنبلة الذرية، وأبو الهول الزجاجى، وكان عبد الحميد زكى عند حسن ظنى وظن كامل مرسى.
 حضر الفريقان الأجنبيان، وبدأ عملهما بالتعاون من المختصين المصريين.
 وأقام يوسف وهبى حفل استقبال فى منزله بالهرم لعدد محدود من العاملين فى فيلم: كيف سرقنا القنبلة الذرية، ومعهم المخرج نيازى مصطفى وحرمة - الممثلة كوكا، ودعانى أنا وحرمى أيضاً لحضور هذا الحفل، فحضرناه حيث سعدنا بكرم ضيافة يوسف وهبى، إلى جانب لطفه وظرفه.
 أما انا فقد أقمت حفل استقبال لبعض العاملين فى فيلم أبو الهول الزجاجى بفندق شبرد، دعوت إليه بعض المسؤلين فى المؤسسة، وبعض نجوم السينما المريين، منهم الفنانة ماجدة، والفنانة مريم فخر الدين، وكان نجما الحفل هما الفنان روبرت تايلور، والفنانة أنيتا أكبرج، الذين أضاف حضورهما إلى الحفل، مزيداً من الجاذبية والإغراء، كانت أيام تنفيذ الإنتاج المشترك للفيلمين، ووجود عدد من الممثلين والممثلات الأجانب، أيام نشاط واهتمام للصحافة الفنية فى مختلف الجرائد والمجلات، إذ كانت متابعة التصوير فى مواقعة، والحصول على صور وأحاديث من هؤلاء الممثلين والممثلات، وخاصة روبرت تايلور وأنيتا أكبرج، الشغل الشاغل للصحافة الفنية كلها. وكانت تلك الصحافة تولى اهتماما واضحاً بى، وتحرص على نشر الصور والأخبار والأحاديث معى، باعتبار المسئول المحرك لهذا النشاط.
 وكنت فى تلك الأيام، وعلى مدى الشهور المتتابعة، أبذل غاية جهدى وعنايتى بالعمل. كنت أخرج من منزلى قبل الاعة الثامنة صباح كل يوم، لأجد على الشاذلى - سائقى - ينتظرنى بسيارة الشركة، لأكون على مكتبى قبل الساعة التاسعة صباحاً، وأبدأ فى تلقى تقارير الإنتاج اليومية عن اليوم السابق، وأوامر العمل عن اليوم الحاضر، لألم منها بكل صغيرة وكبيرة عن سير العمل فى تصوير كل من الفيلمين، وأقوم بالتأشير عليها بالنظر، مع تسجيل كل ما يعن لى من ملاحظات وتوجيهات.
 ثم أبدأ فى مقابلة المسئولين عن الإنتاج، عبد الحميد زكى، وأنيس حامد، ومصطفى عبد اللطيف، وعدد من مديرى الإنتاج المسئولين عن سير العمل فى مواقعه، وأتلقى منهم تقاريرهم الشفوية وملاحظاتهم، مبدياً لكل منهم أية ملاحظات وتوجيهات تعن لى.
 ثم أبدأ فى الإطلاع على كل ما يعنى الشركة من الأخبار والتعليقات التى تنشرها الصحف، مما يقدمة لى مصطفى السويفى، مسئول العلاقات العامة فى مكتبى.
 قم أبدأ فى مقابلة مسئولى الإدارات والأقسام فى الشركة، لأعرف منهم ما أريد معرفته عن سير العمل فى تلك الإدارات والأقسام، وما يريدون هم طرحه على أو أخذ رأيى فيه.
 وكثيراً ما كنت أتلقى مكالمات تليفونية من الدكتور ثروت عكاشة، الوزير يطمئن فيها على سير العمل، أو يوجه إلى بعض النصائح والتوجيهات، إلى جانب عبارات التشجيع والتقدير، التى كانت تسعدنى وتحفز همتى.
 وأنتبه فإذا بموعد العمل قد انتهى، ومازال أمامى الكثير من الأعمال تنتظر الإنجاز. بعض المقابلات، والإطلاع على البريد الوارد، والتوجيه إلى كيفية الرد عليه، أو أحياناً، كتابة الرد الذى أراه على بعضها.
 ثم يحل موعد الغذاء، وأنا جالس ما أزال فى مكتبى، فأرسل أحد السعاة لإحضار غذاء بسيط أدعو إليه كل من لا يزال فى المكتب من الموظفين والفراشين ليتناولوه معى، سندوتشات فول وطعمية. على حسابى الخاص.
 وأواصل البقاء فى المكتب بعد الغذاء، غالباً إلى ساعة متأخرة كل يوم، أتلقى خلالها مكالمات تليفونية من الوزير، وأحياناً من الأستاذ نجيب محفوظ الذى كان يحرص دائماً على توجيه النصح لى بالاهتمام بصحتى.
 وكنت أقوم أحياناً بزيارات إلى مواقع التصوير فى الفيلمين. بالنسبة لفيلم "كيف سرقنا القنبلة الذرية" أذكر زيارتى لموقع التصوير فى إحدى الفيللات المختارة على شاطئ النيل، جنوبى مدينة البدرشين. حيث كان التصوير يجرى ليوسف وهبى، وتوتو، وغيرهما، وهم منهمكون فى ممارسة الحيل والمناورات، للبحث عن القنبلة الذرية فى أرجاء الفيللا، وممراتها، وحدائقها وفى تدبير الحيل والمكائد لتضليل بعضهما البعض. وكان المخرج نيازى مصطفى يستعرض قدراته الممتازة فى مجال الحيل السينمائية.
 وبالنسبة لفيلم أبو الهول الزجاجى، زرت المعسكر الذى كان قد أقيم لتصوير العديد من أحداث الفيلم، فى منطقة صحراوية - جبلية، وقد صحبتنى سهير - زوجتى - وأولادى - ليلى ويوسف ومنى، لمشاهدة تصوير أحد المشاهد، حيث كانت عصابة من البدو يغيرون - وهم على صهوات جيادهم على المعسكر الذى أقامته العصابة الأجنبية، وكان روبرت تايلور يقاومهم بمسدسه على طريقة الكاوبوى. أما أنيتا اكبرج - نجمة الإغراء فكانت تأخذ حمام شمس، وهى تستلقى بالمايوه على الشيزلونج تحت أشعة الشمس المصرية الساطعة. وفى إحدى فترات الاستراحة، تلطف كل من روبرت تايلور، وأنيتا أكبرج، وجياناسيرا - نجمة إيطالية، فقاموا بالتصوير معى ومع أولادى - ليلى ويوسف ومنى، فى عدد من الصور التذكارية، التى نحتفظ بها حتى اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق