ذكريات شاعر مناضل: 21- عود على بدء

21- عود على بدء


  منذ حدوث نكسة يونيو وما أعقبها من تطورات أليمة، أحاط بى، شأنى فى ذلك شأن الكثيرين من المصريين، بل والعرب، شعور بالإحباط والتشاؤم، وزاد من هذه المشاعر السلبية، مالمسناه من همود حركة التنظيم الطليعى، بل والاتحاد الاشتراكى نفسه، وظهور التصدعات والتشققات فى بناء النظام الحاكم، مدنياً وعسكراياً. أحسست، ومعى الكثيرون، بهتزاز قدرة النظام الناصرى على الصمود، وعلى اجتياز المحنة، وبالتالى باهتزاز ثقتنا فى قدرته على حماية أمن الوطن وسلامته. وضاعف من هذه التنبؤات السلبية، أن اختيارات النظام فى تأمين خلافته، لم تكن تبشر بالثقة.
 ثم تواترت إلينا الأخبار عن اعتلال صحة الرئيس عبد الناصر، فازداد إشفاقنا عليه، كما ازداد توجسنا مما قد يحدث للبلاد فى حالة حصول مكروه له. ثم فوجئنا بوفاته فعلاً، تلك الوفاة الصادمة، التى لم يكن يصاحبها أى تعليل مقنع، بل صاحبتها شبهات لم تزل آثارها قائمة حتى الآن.
 أصابنا الجزع، وأحسسنا بان البلاد مقبلة على حالة من الفراغ الكبير، سياسياً، بل وأمنياً كذلك. وبدأنا نراجع موقفنا ونشعر بالخطورة التى تحيط بنا نتيجة لافتقادنا للغطاء التنظيمى الذى يوفر لنا الحماية من هذا الفراغ السياسى المنتظر.
 باختصار، بدأت تراودنى، فكرة العودة إلى إقامة الكيان السياسى المستقل، الذى كان قد انتهى بحل التنظيم الشيوعى، سواء تنظيم جناح حدتو، أو التنظيم المقابل ل فى حزب 8 يناير.
 لم نكن من المشاركين فى اتخاذ قرار الحل، لا أنا ولا زملائى الذين كانوا قد التحقوا بالتنظيم الطليعى من قبل، وذلك التزاماً منا بالتزامنا التنظيمى نحو التنظيم الطليعى، ولكننا كنا موافقين ضمناً على القرار، ومدركين لواقعيته، إذ أن التنظيمين الشيوعيين السابقين، كانا قد انحلا واقعياً على أرض الواقع، وكان أحياؤهما يمثل نوعاً من التعلق بالمستحيل، فى ظل الأوضاع الفعلية والأمنية القائمة.
 ولكن وفاة عبد الناصر، والأخطار القائمة حول نظامه، وحول مصير البلاد، ومصائرنا الشخصية، جعلت من مراجعة الموقف، ضرورة ماسة. وما أن توارى عبد الناصر عن مسرح الأحداث، وجاء أنور السادات، بكل ما كان يحيط باتجاهاته من شكوك وغموض، حتى تبلورت لدينا فكرة الحاجة الماسة إلى إعادة تكوين الكيان السياسى المستقل للشيوعيين المصريين.
 كنت على اتصال مستر بعدد من الرفاق الشيوعيين القدامى، وكنا نتداول فى تلك الأفكار، إلى أن استقر قرارنا على البدأ بتأسيس تنظيم شيوعى، يكون نواة لحزب شيوعى جديد.
 وشملت هذه المداولات، بالإضافة لى، الزملاء، سعد كامل، ومحمد شطا، وزهدى العدوى، ورشدى أبو الحسن، وأحمد حمروش، وأخرون. وبدأنا نتأهب لممارسة واجباتنا، كمسئولين ومؤسسين للتنظيم الجديد. لم نكن قد اخترنا له اسماً بعد، وكان المفهوم لدينا أنه مجرد حلقة تنظيمية، سوف تتتطور مستقبلاً فى اتجاه تكوين حزب شيوعى جديد.
 وانهمكنا فى العمل على إنجاز مهمتنا، وخلال عدة شهور تطور وضع هذه الحلقة وتزايد عدد المنضمين إليها والمحيطين بها من الأصدقاء والعاطفين. ثم نما غلى علمنا وجود حلقتين أخريين، الأولى، هى الحلقة التى كانت قد تكونت حول زكى مراد (ناشد)، ومبارك عبده فضل، ومعهم رفعت السعيد، وبهيج نصار وآخرين، والثانية، هى الحلقة التى كونها ميسشيل كامل "شاكر"، ونبيل الهلالى، وكان معهما فوزى حبشى، ومحمد على عامر، وآخرين. وبدأنا نتصل بهاتين الحلقتين، ونتعرف عليهما، ثم بدأنا نبحث فيما بيننا وبينهم إمكانيات العمل المشترك، ثم إمكانيات الوحدة التنظيمية الكاملة. وكان واضحاً لنا أنه لا توجد موانع حقيقية تحول بيننا وبين الوحدة مع هاتين المجموعتين. فالأساس الفكرى والسياسى واحد تقريباً، إذ لا يوجد خلاف بيننا وبينهم من الناحية الأيديولو جية والسياسية، كما لا يوجد خلاف على المبادئ التنظيمية، كما أن التكوين الطبقى والاجتماعى للعناصر التى تتكون منها الحلقات الثلاثة، هو تكون متقارب ومتجانس. ولذلك، فقد انتهت محادثاتنا مع المجموعتين، إلى إماكنية وضرورة إتمام الوحدة بين الحلقات الثلاثة، فى أقرب وقت مستطاع، وذلك تمهيداً لإعادة إقامة الحزب الشيوعى المصرى من جديد.
 أعددنا الوثائق الضرورية لإتمام الوحدة، وكانت تتكون من: تقرير سياسى، يتضمن تحليلاً للوضع السياسى والطبقى القائم، وتحليلاً للأوضاع التى مثلتها ثورة يولية وتطوراتها، ومن مشروع اللائحة تنظيمية تقوم على الأسس اللينينية المعروفة.
 وتم الاتفاق على الأسس التنظيمية لإقامة الوحدة، ومنها تشكيل هيئة قيادية موحدة تتكون من تسعة رفاق، ثلاثة من كل حلقة من الحلقات المشاركة فى الوحدة، وتم الاتفاق على اختيارهم كالآتى: من حلقتنا: هاشم (محمود توفيق)، سالم (سعد كامل)، حمدى (مبارك عبده فضل)، معاوية (رفعت السعيد)، ومن حلقة ميشيل كامل، شاكر (مشيل كامل)، وأبو زيد (نبيل الهلالى)، وعصام (فوزى حبشى). وإذ كان رفعت متغيباً عن البلاد فى تلك الفترة، فقد تمت الموافقة، على أن يحل محلة مؤقتاً - بهيج نصار، لحين عودته إلى البلاد.
 وتم الاتفاق على تشكيل لجنة رئاسية ثلاثية مكونة من ثلاثة زملاء، هم: هاشم، وناشد، وأبو زيد، لقيادة النشاط اليومى، كما تم توزيع المسئوليات القيادية على العناصر القيادية الموجودة فى الهيئة القيادية، وما حولها من الكوادر.
 لم تكن هناك أية أسباب جوهرية للخلاف، فسار العمل بصورة مرضية فى توحيد عناصر الحلقات الثلاثة، وفى ممارسة النشاط الحزبى، السياسى، والتنظيمى، والجماهيرى، وصرنا نقترب يوما بعد يوم من هدفنا الكبير، إقامة حزب شيوعى مصرى جديد.
 ...
 اندفعت بكل قواى فى العمل الحزبى، وكنت متفرغاً له، فى حين كان زميلاى - ناشد (زكى مراد)، وأبو زيد (نبيل الهلالى)، فى اللجنة الرئاسية، يشتغلان بالمحاماه، ولكل منهما مكتبه للمحاماه. أما أنا فكنت مازلت أعمل مستشاراً بؤسسة السينما، مستشاراً لا يستشيره أحد، ولا أذهب إلى المؤسسة إلا مرة كل شهر لتقاضى مرتبى، وكانت كلمات السحار - رئيس المؤسسة - ترن فى سمعى: لماذا أنت غاضب، ألست تتقاضى مرتبك؟ وكنت أدعو الله أن يغنينى عن هذا المرتب فى أقرب وقت ممكن. وكنت أعتبر نفسى مؤقتاً، محترفاً ثورياً متفرغاً للعمل الحزبى، ولكن على حساب الحكومة. كانت المسألة من وجهة نظرى مسألة سياسية، فأنا مبعد عن العمل - كموقف سياسى فى حقيقة الأمر - ولكنى أصبحت متفرغاً للعمل السياسى - من ناحية أخرى.
  وكنت مثقلاً بالعمل الحزبى، فقد كنت أكاد أكون أنا الوحيد الذى يتولى كتابه التقارير الحزبية، فقد كنت أكاد أكون أنا الوحيد الذى يتولى كتابة التقارير الحزبية التى تشرح مواقف الحزب وسياساته، والتى يجرى توزيعها داخل الحزب، والذى يكتب بيانات الحزب التى يحدد فيها مواقفه من الأحداث الجارية، والتى يتم توزيعها خارج الحزب على الجمهور المحيط به. وكنت أنا المسئول عن أعمال المتابعه لكل المسئوليات الأخرى، كما كنت مسئولاً عن منطقة القاهرة الحزبية. وذات مرة قال لى الرفيق مبارك - على سبيل النقد، إننى أصبحت مثل الثور الذى يحمل الحزب كله على قرنه. وبالفعل، كان ذلك وضعاً معيباً، وكنت أنا أول منتقديه والمطالبين بإعادة النظر فيه، على ما سيأتى ذكره فى حينه.
 ...
 كنت أنا - هاشم - مجتمعاً بالرفيقين ناشد وأبو زيد، فى كازينو قصر النيل فى حوالى الساعة الثانية ظهراً يوم 6 أكتوبر سنة 1973، حين قامت حرب أكتوبر. سمعنا بالخبر، وانتقلنا إلى منزلى لاستكمال الاجتماع، وللاتفاق على ما يجب عمله. اتفقنا على إدار بيان من الحزب لتأييد قرار الحرب، وهو القرار الوطنى الذى طال انتظاره، والذى كان الشعب كله ينتظره ويطالب به، لتحرير أرضنا المغتصبة، ولردع العدو الصهيونى ورده على أعقابه. وقمت أنا بكتابة البيان، والإشراف على طباعته ودفعه للتوزيع. كما قمت بالإشراف على إدار عدد خاص من المجلة الحزبية "الكفاح"، التى كان يدرها الحزب لجماهيره. وتابع الحزب أحداث الحرب ومجرياتها، ومواقف النظام منها محيياً ومؤيداً لكل المواقف الإيجابية، ومنتقداً لكل المواقف والأوضاع السلبية، التى صاحبت قرارات وقف إطلاق النار، ومحادثات الهدنه، والجنوح إلى وضع مصير الأمور فى يد الوسيط الأمريكى المنحاز، والدور الخطير الذى كان كيسنجر يقوم به خدمة لإسرائيل، تحت ستار الوساطة الأمريكية.
 وقد تابعنا وراقبنا التطورات المؤسفة فى الموقف العسكرى والسياسى، والتى انتهت بتحول الموقف تدريجياً إلى ترجيح كفة إسرائيل، واستمرار احتلالها لسيناء المصرية، والجولان السورية، وللأراضى الفلسطينية فى القدس والضفة الغربية وقطاع غزة. تابعنا كل ذلك، واستمر كضفنا له، ونقدنا إياه، فى وجه التعتيم والتضليل الذى كانت تمارسه أجهزة الإعلام والصحافة الحكومية.
 ...
 بعد نهاية الحرب، صدمت الجماهير مرتين، مرة لتطورات الحرب ونتائج السياسة الحكومية فى الرضوخ للهيمنة الأمريكية على مجريات الأمور، ومرة ثانية باتجاه نظام السادات إلى ممارساته المنافقة لمصالح الجماهير على الصعيدين  الاقتصادى والاجتماعى. وترتب على هذه السياسات، تصاعد حركة التذمر والاحتجاج لدى الجماهير العاملة والفقيرة، يوماً بعد يوم.
 وفى يوم الأول من يناير سنه 1975، فوجئت الجماهير، فى صبيحة ذلك اليوم، بأنباء مفاجئة نشرتها كل الصحف، عن رفع أسعار العديد من السلع والمواد الغذائية والضرورية.
 وتحت تأثير هذه المفاجآة، تحركت جماهير من عمال منطقة حلوان، فى مظاهرات صاخبة، نزلت إلى منطقة وسط القاهرة، حيث وقعت منها أعمال عنف وشغب، كما وقعت مصادمات دامية بين العمال المتظاهرين، وبين رجال الشرطة، وقع فيها العديد من القتلى والجرحى، كما ألحقت العديد من عمليات الإتلاف بالممتلكات.
 وباتت القاهرة هذه الليلة وهى تغلى تحت وطأة الإحساس بالمخاطر والنكبات.
...
 وفى الساعة السادسة من صباح يوم 2 يناير سنة 1975، صحوت من نومى على وقع طرقات شديدة على باب شقتى بمنطقة الدقى.
 وتوجهت إلى الباب وأنا أسأل:
 - مين؟
 وأجابنى الصوت الأجش:
 - بوليس. افتح الباب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق