ذكريات شاعر مناضل: 16- وعند صفو الليالى

16- وعند صفو الليالى


  كانت أعمال الشركة تتوسع وتزدهر، بل وتبشر بمزيد من التوسع والازدهار. فإلى جانب الفيلمين اللذين تم إنتاجهما، وهما "كيف سرقنا القنبلة الذرية"، "أبو الهول الزجاجى"، كما هناك فيلم روبرتو روسللينى، عن "الحضارة المصرية"، وهو الذى كان جاريا العمل فيه، وتم تصويره عند قيام حرب يونية، ويعتبر أنه قد تم العمل فيه تماماً من ناحيتنا، إذ أن بقية الأعمال الأخرى المطلوبة لإتمامه، كانت سوف تتم خارج البلاد، بمعرفة روسللينى نفسه، وهى أعمال الطبع والتحميض، والمونتاج والمكساج.. إلخ. كما كان هناك فيلم تسجيلى طويل، عن الآثار المصرية، تقوم إحدى الشركات الأمريكية - وهى شركة فوكس - بإنتاجه لحسابها، ويقوم بإخراجه مخرج أمريكى تسجيلى شهير، هو "أوتو لانج" ومعه طاقم من الفنيين الأجانب، وكان دورنا فيه هو تقديم الخدمات والمساعدات اللازمة للإنتاج، مقابل أجر، اتفقنا عليه وتقاضيناه فعلاً من الشركة الأمريكية عند بداية التصوير.
 إلى جانب ذلك، كانت هناك مشروعات إنتاج أخرى، قيد البحث والدراسة. فيلم مشترك مع الجانب السوفييتى، عن الشاعر الفارسى الأشهر "عمر الخيام" كان يفترض إنتاجه بيننا وبين جمهورية أوزبكستان السوييتة، وكان الكاتب المصرى: إبراهيم عبد الحليم، قد تقدم بدراسة عن هذخ الشخصية التاريخية الشهيرة، لتكون ركيزة لعمل المعالجة السينمائية، ثم السيناريو والحوار اللازمين لعمل الفيلم.
  وكان هناك مشروع آخر، لإنتاج مسلسل عن الموسوعة القصية الشهيرة، "ألف ليلة وليلة"، ومعها فيلم طويل ينتج إلى جانب المسلسل وتؤخذ مادته من المسلسل نفسه، وهو مشروع تقدمت به إحدى الشركات الإيطالية، وتم التعاقد بيننا وبين الكاتب المصرى الكبير: عبد الرحمن الخميسى، على المشاركة مع طرف إيطالى، فى إعداد النص المطلوب لهذا الإنتاج، وكان عبد الرحمن الخميسى، مشهوداً  له، بالتخصص والتفوق فى موضوع ألف ليلة وليلة، منذ قيامه بإعادة صياغة هذه الملحمة العربية الشهيرة، ونشرها فى جريدة المصرى، قبل الثورة.
 وكنت قد عينت المخرج التسجيلى، والمثقف السينمائى البارز، عبد القادر التلمسانى مستشاراً بالشركة، ومختصاً بقراءة النصوص فيها، وبدأ بالفعل فى ممارسة أعماله.
  كنت مقبلاً على عملى بكل حماس ونشاط، دون انتظار لأى جدوى شخصية، ولم أكن اتقاضى أى عائد عن عملى فى كوبروفيلم، وحتى مرتبى، فقد كنت أتقاضاه من شركة توزيع وعرض الأفلام، وهو نفس المرتب الذى عينت به فى شركة مصر للتمثيل والسينما، منذ بداية تعيينى مستشاراً قانونياً لها، فى عام 1961، دون أى زيادة. وكنت أعانى أنا وأسرتى، من ضيق ذات اليد، وشظف العيش، رغم الضجة الكبيرة، والسمعة الواسعة للوظيفة التى كنت أشغلها: رئيس مجلس إدارة شركة كوبروفيلم، والتى لم أجن منها إلا الإجهاد البدنى والعصبى، حتى لقد أصبت بالتهاب شديد فى العمود الفقرى، نتيجة لكثرة الجلوس والانحناء على المكتب فى معظم ساعات النهار والليل. وكنت أتلقى أنواعاً عديدة من العلاج منه. ويبدو أن الدكتور ثروت عكاشة كان على علم بكل ظروفى هذه، دون أن أفضى إليه بأى شكوى أو كلمة عنها، وقد بادرنى، فى أحد لقاءاتى به، بالتلميح إليها، والتعبير عن شكره وتقديره لما أقوم به من مجهود، ثم ألمح لى بأنه يريد أن يكافأنى على هذا المجهود وذلك التفانى فى العمل، وانتظر منى أن أتقدم له بأية طلبات شخصية، ولكنه فوجئ بقولى له:
 -أشكر لك عطفك واهتمامك، ولكنى لا أريد شيئاً لنفسى، وما أريده هو لوالدى.
  لم يفهم الدكتور ثروت ما أعنية، فسألنى أن أوضح له ما أريده.
 فمضيت أوضح له الأمر:
 قلت له إن والدى هو الضابط الشاعر الوطنى المرحوم محمد توفيق على، المتوفى سنه 1937، وأنه كان نداً ورصيفاً للشاعر حافظ إبراهيم. واستقال مثله من الجيش وهو شاب رفضاً لسيطرة الإنجليز عليه. وتفرغ للشعر، وأنه ترك خمسة دواوين كبيرة لم يسعفه الأجل لطبعها فى حياته. وأن طبع هذه الدواوين هو همى الأكبر. وأننى اعتبره من الضباط الأحرار مثلكم، ولكنه جاء سابقاً بنصف قرن. ثم مضيت أقرأ عليه - من ذاكرتى- بعض النماذج من شعره الوطنى. تأثر الدكتور ثروت بكل ذلك تأثراً بالغاً، ثم قال لى:
 -اكتب لى مذكرة بهذا الموضوع، وقل لى فيها كل هذا الكلام.
 قلت له:
 -لقد كتبتها بالفعل، وها هى ذى.
  ثم أخرجت له نص المذكرة المطلوبة، من حافظة أوراقى، وقدمتها إليه. قرأها الدكتور ثروت بامعان، ثم هز رأسه بما يفيد موافقتة على ما طلبته من قيام وزارة الثقافة فى عهده بطبع ونشر دواوين هذا الشاعر الضابط الحر المظلوم إحياء لذكراه، وللقيم والمبادئ التى وهب حياته لها. ثم أمسك بقلمه، وخط على الصفحة الأولى من المذكرة هذه العبارة:
 -"إلى الأستاذ محمود أمين العالم، رئيس الهيئة العامة للكتاب، برجاء اتخاذ اللازم، مع عظيم الأهتمام" -ثروت عكاشة.
 وناولنى المذكرة لأطلع على تأشيرته، ثم أخذها منى، قائلاً إنه سوف يرسلها بمعرفته إلى الأستاذ العالم، وسوف ينبه عليه بمزيد الاهتمام بها. ثم أضاف:
 -أهى المسألة بقت فى إيدك، مش العالم ده شيوعى زيك؟
 اتصل بيه وتابع معاه الموضوع.
 وبعد أيام اتصلت بالعالم، ثم ذهبت لمقابلته فى مكتبه بالهيئة العامة للكتاب. وقابلنى مقابلة فاترة، وقال لى أنه تلقى مذكرتى، ولكنه للأسف، لن يستطيع أن ينشر هذه الدواوين فى الظروف الراهنة، لأن الهيئة مفلسة، ولا تملك ما تطبع به هذه الدواوين.
 ولم أجد جدوى من مناقشته. وانصرفت من عنده وقد غلب على إحساسى بالهم والتشاؤم.
 تغيرت الأضاع كثيراً، واستطعت، فى عهد وزارة الدكتور سليمان حزين، وبمساعدة الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى. ولمعى المطيعى، وعز الدين إسماعيل، وفى عهد رئاسة الدكتور سمير سرحان للهيئة العامة للكتاب، وبمساعدة صديقى شريف عطية، المدير العام للمجلس الأعلى للثقافة، وصديقى الدكتور حسن فتح الباب، وبعد مضى ربع قرن، أستطعت أن أنشر أشعار والدى كاملة، فى أعمال كاملة تضم دواوينة الخمسة فى جزأين، عن طريق الهيئة العامة للكتاب نفسها. ولكن فى ظل رئاسة شخص آخر، وبذلك ارتاح ضميرى من الإحساس بالتقصير تجاه والدى.
...
 فى تلك الأيام، كان إحساسى بالحب والولاء للدكتور ثروت عكاشة يغلب على كل مشاعرى، كما كان إحساسى بالولاء للثورة، وللرئيس عبد الناصر، إحساساً أكيداً لا يخامره أى شك، حتى أننى أكاد أكون قد برئت من الجراح القديمة وخيبات الأمل ومشاعر الإحباط التى كانت قد انتابتنى تجاه الثورة، وقيادتها. وكنت قد بدأت أنظر إلى إيجابيات التجربة، وإلى النصف الممتلئ من الكوب.
 ولكنى بدأت أفاجئ بزحف الكثير من الوساوس والشكوك على نفسى. تجاه الثورة ونظامها.
 فتجربة التنظيم الطليعى كانت تبدو لى تجربة غير جدية بالمرة. كنا مازلنا نعقد اجتماعات المجموعة - مجموعة السينما - ونتلقى نشرة التنظيم ونقرأها، ونناقش ما جاء بها، وكان نجيب محفوظ قد انضم إلى المجموعة وأصبح رئيسها، بعد انسحاب صلاح أبو سيف لانشغاله بأعماله كمخرج سينمائى، وتركه حتى لرئاسة شركة فيلمنتاج، التى تولى رئاستها سعد وهبة. كانت كل اجتماعات المجموعة تتم فى منزلى. ولكن كان إحساسنا جميعاً، بأن الأمر فقد حيويته وجديته. فلا شئ مهم كان يحدث فى هذه الاجتماعات ولا فى التنظيم كله، كما كان يتضح من نشرته. وبدا واضحاً أن هذا التنظيم و نسخة مصغرة من الاتحاد الاشتراكى، بل هو زائدة بيروقراطية منه.
 ثم بدأت تترامى إلينا معلومات عن طبيعة النسيج السياسى والفكرى التى يتكون منها التنظيم. صورة مصغرة من الاتحاد الاشتراكى، الذى هو صورة باهته من الجهاز البيروقراطى للدولة. ونمت إلى بعض المعلومات عن شخصيات عديدة من الرجعيين وأعداء الاشتراكية، أصبحوا أعضاء، بل وقياديين فى التنظيم الطليعى، وبذلك أنطفأ حماسى لهذا التنظيم، كما انطفأ حماسى للاتحاد الاشتراكى، وتزعزت ثقتى فى الجهاز البيروقراطى للنظام.
 كنت ألاحظ وأقدر الأعمال الطبية والإصلاحات الجيدة التى تقوم بها الدولة فى مختلف المجالات، بناء السد العالى العظيم، وإقامة صروح صناعية شاهقة، - كالحديد والصلب والأسمنت والألومنيوم، والمصانع الحربية، والسيارات، وغيرها، وإقامة نظام تعليمى جيد، وآلاف من المدارس للبنين والبنات لنشر التعليم الأساسى، والعديد من الجامعات الجديدة فى الأقاليم، ثم نشر الوحدات الصحية العلاجية فى الريف، والنهوض بمستشفى القصر العينى وغيره من المستشفيات الكبيرة، ثم مشروع كهرباء الريف والتقدم الحثيث فى نشر الكهرباء فى الأقاليم والقرى.. إلخ. كل ذلك كنت عارفا به وسعيداً، ولكن. وآه من ولكن هذه، كانت هناك جوانب سلبية ظاهرة ومستترة، لا تخفى على العيون البصيرة. كان هناك زحف متواصل - ومنظم من العناصر الانتهازية والوصولية لاحتلال المواقع الهامة فى جهاز الدولة والقطاع العام، وفى الصحافة وأجهزة الإعلام، والتحصن فى تلك المواقع لعرقلة تقدم الإصلاح الثورى، وللحصول على النسبة الأكبر من عائدات عملية التنمية الاقتصادية، والاتجاه إلى تخزينها وإخفائها لتكون خميرة لقيام طبقة جديدة من الأغنياء الجدد، والقطط والسمان: ومع هذه العناصر والفئات، كانت بذور الاتجاهات الرأسمالية والموالية للغرب، والمعادية للاشتراكية، تنمو ويشتد ساعدها.
  وعلى الناحية الخارجية، كان الفشل فى الحفاظ على الوحدة بين مصر وسوريا واتخاذها قاعدة للوحدة أو التضامن العربى الشامل، والفشل فى تحقيق موقف وحدوى صحيح مع العراق، والأخطاء والنواقص والسلبيات، تنعكس آثارها على الأمن الوطنى المصرى، وتهدده تهديداً خطيراً.
 وكانت كل هذه المخاطر والتهديدات، تتخفى وراء ستار كثيف من الدعاية الفاقعة، ترمى إلى إخفاء النواقص والعيوب، تحت الكلام الدعائى الفاقع، لتمجيد وتضخيم الإنجازات وإخفاء السلبيات.
 وفجأة وجدت نفسى تمتلىء بالخوف والتوجس، وبالتشاؤم من عواقب هذه الأوضاع، ومن مخاطرها على الثورة. كانت الثورة تبدو لى لاهية غافلة عن المخاطر المحدقة بها من الداخل والخارج، كانت تبدو لى كحمل وديع أو كغزال برئ سارح على ضفة نهر، غافلاً عن وجود تمساح خطير رابضاً على ضفة النهر، وهو ينتظر فى ثقة اللحظة المواتية للانقضاض على فريسته، والغوص بها إلى أعماق النهر، لابتلاعها.
 وكان الخطر الإمريكى الاستعمارى الإسرائيلى فى الخارج، والانتهازية والوصولية اليمنية فى الداخل، هما مكمن الخطر الماثل، أما البيروقراطية المصرية الرجعية الكامنة فى جهاز الدولة العتيد، فكانت تبدو واثقة من فوزها فى النهاية بالغنيمة.
 فى تلك الفتره، وجدت وجدانى يجيش بالشعر معبراً عن هذه الخواطر والهواجس، فرتكت كل ما كنت فيه من الهواجس، وكتبت قصيدتى المساماة: "دوامة الكلام"، والتى جاء فيها:
 يا صاحبى..قد كرت الأيام..
ومرت الأعوام...
ولم تزل دوامة الكلام...
تدور بانتظامّ!..
أصابنا الدوار...
ولم تزل تدور باستمرار
تشدنا إلى القرار..
إلى الغرق!..
...
تفجر الكلام كالوباء..
يحمله المثقفون..والنساء!
وقيل هذا منحرف..
وذاك لص محترف..
وتلك تخطف الرجال..
وذاك يأكل العيال..
وقيل..قال..قيل..
وقال..قيل..قال!
...
فى الاجتماعات الطوال..
على موائد الجدال..
وفوق أعواد المنابر..
وفوق المقابر!
وفوق أركان المصاطب..
وفى المكاتب!
وفوق أنهار الصحف..
وفى رنين التليفون..
وتحت أكداس الورق!.
تصاعدت الطنين..
تفاقم العذاب..
نكاد نفقد الصواب..
نكاد نختنق!
...
الكل يعرف الحقيقة..
ويفهم المسائل الدقيقة..
الكل عالم الأسرار!
الكل يعشق الفضيلة
ويمقت الرذيلة..
الكل فارس مغوار!
الكل ملهم ذكى..
الكل عبقرى..
الكل ثاقب النظر!
وقيل قال..قيل
وقال..قيل..قال..
الكل فارس المقال!
...
لو ينقص الكلام تنقص الآثام..
وتنقص الآلام..
وينقص العتاب والملام!
لو ينقص الكلام..يزهر العمل..
ويشرق الأمل..
وتسلم الأغراض والسير..
وترتقى علاقة البشر!
 كتبت هذه القصيدة ونشرت فى مجلة روز اليوسف فى فبراير سنة 1967، أى قبل نكسة يوليو 1967 ببضعة شهور، وكانت تعبر عن استيائى من الأوضاع القائمة، وعن تشاؤمى منها، ومن عواقبها. والواقع أننى كنت قد كتبت هذه القصيدة وأنا أتمثل فى خاطرى ذكرى الشاعر السوفييتى، ما يكوفسكى، الذى مات منتحراً وهو شاب، فى العهد الستالينى، تحت تأثير الإحباط الذى شعر به فى هذه الفترة. وكان مايكوفسكى هو شقيق الأديبة الفرنسية (الورسية الأصل) "إلزا تريوليه"  زوجة لويس أراجون، شاعر المقاومة الفرنسية فى أثناء الحرب العالمية الثانية، والذى كتب لها وعنها، ديوانة الشهير: "عيون إلزا".
 أحدثت تلك القصيدة فى حينها، ردود فعل متباينة. كلمنى نجيب محفوظ تليفونياً يوم نشرها، وقال لى:
 -قرأت قصيدتك، وهى قصيدة جميلة، ولكنها وجعت قلبى.
 قلت له:
 -سلامة قلبك، ولكن..ماباليد حيلة.
 وقال لى زميلى وصديقى سعد كامل، إن القصيدة أعجبته من الناحية الفنية، ولكنها لم تعجبه من الناحية الموضوعية.
 أما زميلنا المرحوم زكى مراد، الشاعر المناضل الشيوعى، فقد رد على القصيدة معارضاً لها بقصيدة نشرت فى العدد التالى من مجلة روز اليوسف، كان مطلعها:
دوامة الكلام...
دورى على الدوام..
 وهكذا، أنبتت قصيدتى - التشاؤمية - تياراً مضاداً - تفاؤليا، مالبث أن عبر عن نفسه بعد ذلك بسنوات عشر، فى صورة أكثر وضوحاً. .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق