ذكريات شاعر مناضل: 4- إلى عالم السينما

4- إلى عالم السينما


  كان شارع المهندس، المجاور لشارع نوال بالدقى، الذى انتقلنا للسكن فيه شارعاً هادئاً جميلاً، يقع خلف قصر عبد الرحيم باشا صبرى، الذى كان قد اتخذ مقراً لأكاديمية ناصر العسكرية، ويطل على حديقتها الواسعة الغناء، كما تحيط به وتجاوره شوارع جميلة هادئة تظللها أشجار مزهرة بزهور ذات ألوان متعددة جميلة. وكان الشارع هادئاً مسدوداً من أحد طرفيه بسور الأكاديمية العسكرية، ولم تكن تدخله أية سيارات (تقريباً)، ولذلك فقد كان ملعباً مثالياً لليلى ويوسف، على خلاف شارع الساحة الذى كنا فيه، والذى كان يصيبنى بالرعب خوفاً عليهما، لكثرة ما كان يحتوى عليه من أخطار.
 وكنا قد نجحنا فى تحويل ليلى إلى مدرسة الدقى الابتدائية المشتركة، الواقعة فى شارع قريب من شارع المهندس، حيث ألحقت فى السنة الثانية بها، كما نجحنا فى إلحاق يوسف بالسنة الأولى فى تلك المدرسة، وكانا يذهبان إليها ويعودان منها معاً، فى أمن وسلام. وكانت ناظرة المدرسة، السيدة زاهية، جارة لنا من سكان شارع المهندس، تعرفنا بها أنا وسهير، وأصبحنا مطمئنين تماماً إلى حسن رعايتها لهما.
 أما عن آخر العنقود، الأنسة منى، التى شرفتنا حديثاً، فما هى إلا أيام قليلة، حتى أسفرت ملامحها عن جمال فتان. شفاه قرمزية، وعيون جميلة ذات أهداب طويلة فتانة، وبشرة بيضاء عاجية، وشعر كستنائى ناعم، رغم أنه كان مازال خفيفاً بالطبع. سعدنا بها، وخفنا عليها من كل هذا الجمال، فى هذه الحياة التى لا ترعى الجمال حق رعايته. غير أنه أقلقنا أن رزق منى من لبن أمها كان قليلاً جداً. مما اضطر سهير إلى الأعتماد الأكبر فى إرضاعها، على الألبان الصناعية وسرعان ما انقطع اللبن الطبيعى، واضطررنا إلى الاعتماد على اللبن الصناعى بصفة أساسية.
 وكانت سهير فى ذلك الوقت قد قررت العودة إلى الانتظام فى دراستها بالمعهد العالى للخدمة الاجتماعية، بعد أن كانت قد انقطعت عنها منذ خروجى من السجن، وخلال فترة حملها، أى حوالى عام كامل. ولكن مشكلة الضيفة الجديدة - الآنسة منى - كانت تعتبر عقبة فى سبيل عودة سهير إلى الدراسة، إذ لم يكن فى وسعنا ترك منى لرعاية الخدم. وبعد حوالى شهرين من مولد منى، عرضت حماتى - السيدة توحيدة صبرى - أن تحل لنا هذه المشكلة - بأن تستضيف منى معها فى منزلها بحلمية الزيتون، وهو فيلا جميلة فسيحة، لتلقى منها رعايه واهتماماً لا شك فيهما، فى كنف يوسف - جد منى - وفى رعاية واهتمام أخوالها الشبان الثلاثة - محمد، ومحمود، وأحمد. وبالفعل تم تنفيذ هذا الاتفاق، على أن نقوم أنا وسهير، وليلى ، ويوسف، بقضاء عطلة الأسبوع، بحلمية الزيتون، فى ضيافة حماتى ، وفى صحبة الىنسة منى. وكانت زيارتنا لها كل أسبوع، تحمل إلينا سعادة لا توصف، خاصة وأننا كنا نلاحظ تطور نموها، وتحسن صحتها، وازدهار جمالها، أسبوعاً بعد أسبوع. وفى نفس الوقت، استطاعت سهير أن توالى دراستها بارتياح.
 ...
كانت الشقة التى اتخذناها مكتباً مشتركاً لنا، أنا والزميل سعد كامل، فى عمارة ستراند بباب اللوق، شقة جميلة فسيحة، تقع فى الدور الثانى - فوق الأرضى - بتلك العمارة. التى كانت قد أقيمت حديثاً. وكانت الشقة تطل على شارع التحرير المؤدى إلى ميدان عابدين، وكانت لكل منا - أنا وسعد - غرفة جميلة تطل على شارع التحرير، وقد أسسناها بأثاث جميل. وكانت هناك صالة، وغرفة ثالثة فسيحة، كان المفروض أن تكون للمساعدين من المحامين والكتبه، ولكن لم نكن قد اخترنا أحداً منهم من قبل، ولذلك لم يكن بهذه الحجرة إلا مكتب واحد، وكذلك كرسى واحد. وبعد أيام، أهدانا صديقنا الشاعر الفنان عبد الرحمن الخميسى، هدية طريفة، تتفق مع لطفه هو وفكاهته، أهدانا - سكرتيرة وتابعه المخلص، الأخ فكرى الجوهرى ياسين، الشهير فى أوساط أصدقاء الخميسى باسم: فكرى سندوسط، نظراً لانتمائه إلى قرية فى الدقهيلة اسمها: سندوسط. وقال لنا الخميسى، إن فكرى شاب ذكى وله قدرات متعددة، وأنه - بقليل من التمرين، سيصبح كاتب محام لا بأس به. وقبلنا نحن أن نخوض هذه التجربة، فقد كنا فى حاجة إلى مجرد شخ يتواجد بالمكتب فى غيابنا.
 كانت هناك مشكلة. فاعلمارة كانت حديثة، ولسبب ما كانت شبه خالية، وهى عمارة هائله تتكون من جاحين، كل منهما به اثنا عشر دوراً، ويتكون كل دور من ثمانية شقق. وعلى سبيل المثال، كان الدور الذى نحن فيه، وبه ثمانية شقق، لا توجد فيه شقة آخرى ساكنه إلا شقتنا. وكنا - طوال الوقت - نجلس فى مكاتبنا وباب الشقة مفتوح لاستقبال الزوار، فلا يدخل إلينا أحد، لا زوار، ولا موكلين، بل ولا نسمع دبيب أى قد تمشى فى الدور بأكمله، لم يكن هناك من كائن حى معنا. أو بالقرب منا، إلا السيد فكرى سندوسط، وكان يجلس وحيداً فى غرفة المساعدين، وكان كثيراً ما يستولى عليه الملل، فيداهمة النعاس، ويتمدد فوق المكتب وينام.
 كانت أعمالنا قليلة، فسعد كامل، رغم أنه كان أقدم منى تخرجاً من الكلية، إلا أن يكاد لم يمارس المحاماه من قبل، وكانت هذه اول مرة يفتح فيها مكتباً، ولم يكن عنده أيه قضايا، ولا موكلين، بل كان يعتمد على سعة دائة معارفه وأقاربه وأصدقائه، فى استجلاب الزبائن - ويعتمد على خبرتى أنا فى ممارسة تلك القضايا - حين تأتى. وأما أنا- فكان عندى عدد من القضايا - منها قضايا الأخ جمال عطية، وبعض قضايا أخرى، منها القضايا الجنائية التى كانت قد أتتنى من الواسطى. وفى خلال عدة شهور جاءت إلى المكتب، لى ولسعد، عدد قليل من القضايا فى القاهرة، قضايا إيجارات، قضايا عمالية، قضايا جنح، فضلاً عن بعض قضايا الجنايات فى الواسطى وبنى سويف.
 وكانت موارد المكتب تكاد لا تغطى مصروفاته، الإيجار المرتفع،النور، السيد فكرى سندوسط، المواصلات، تكاليف المطبوعات.. إلخ، وما تبقى بعد ذلك -إن تبقى شئ - كان زهيداً لا يفى باحتياجات كل منا فنكمل الباقى بالاستدانه.
 والواقع - أن هذا لم يكن حالنا وحدنا، بل كان حال الكثير من المحامين فى ذلك الوقت. كساد فى العمل، وقلة فى الدخل، وكان معظم المحامين، الجدد والمتوسطين، بل والكبار، يسعون إلى هجر المهنة، والقفز إلى الوظائف الحكومية، أو وظائف الشركات وكان القول السائد فى تلك الأيام، أن مهنة المحاماة، كمهنة حرة، قد "راحت عليها"، فلم يعد لها مستقبل، لأنها "مهنة رأسمالية"، لا تروج سوقها إلا فى المجتمع الرأسمالى، وأن مصر لم تعد مجتمعاً من هذا النوع، بعد أن سارت الدولة فى ركب التأميمات والسيطرة الاقتصادية. وكان ذلك صحيحاً إلى حد كبير.
...
 كان يوسف صديق، يتابع أحوالى عن كثب، ويعرف بالضائقة المالية التى كنا نمر فيها. وكان يوسف فى تلك الفترة يلتقى بجمال عبد الناصر من حين إلى آخر إذ كانت الجفوة التى قامت بينمها فى طريقها إلى الزوال. وفى آخر لقاء بين يوسف وبينه، سأله جمال عن أحوالى، فشرحها له، وتناول الحديث الأزمة التى يمر بها المحامون، والمحاماة، وألمح له جمال أنه يمكن أن يجد حلاً مناسباً لهذه المشكلة، بالنسبة لى، ثم ألمح له بأنه سيعهد بهذا الموضوع إلى أخينا وزميلنا القاضى أحمد فؤاد الذى كانا يعرفانه معاً مما قبل الثورة، والذى كان قد عين حديثاً رئيساً لمجلس إدارة بنك مصر، بعد أن جرى تأميمه. وكان يوسف قد تحدث مع جمال أيضاً، عن زملائنا الضباط، أعضاء اللجنة التحضيرية للجبهة، والذين كانوا قد قبض عليهم، ثم فصلوا من أعمالهم، بسبب نشاطهم فى الجبهة أيام أزمة مارس، وتحدث يوسف عما آلت إليه أحوالهم وأحوال عائلاتهم من سوء، وتوصل إلى إقناع جمال بإلحاقهم بوظائف مناسبة، ليستطبوا الحياة بدخلها إلى جانب معاشاتهم العسكرية الضئيلة. وأحال جمال الأمر إلى السيد على صبرى، الذى كان قد عين رئيساً للوزراء فى ذلك الحين. ولم يتأخر يوسف عن الاتصال بعلى صبرى ومقابلته، وأبلغ هو يوسف أن الرئيس جمال قد أصدر له توجيهاته فى هذا الشأن، وبناء عليه تم تعيين الصاغ حسن الدسوقى بشركة مصر للبترول، والصاغ صلاح عبد الحفيظ، بشركة عمر أفندى والصاغ يوسف صبرى، وكانت له ميول أدبية وصحفية، تك إلحاقه بالعمل فى مؤسسة روز اليوسف.
 ولم يطل بى الانتظار أنا أيضاً، فبعد أيام، تلقيت مكالمة تليفونية من مكتب القاضى أحمد فؤاد، رئيس مجلس إدارة بنك مصر، وحددت لى المتكلمة، مديرة مكتبه موعداً للقائه فى اليوم التالى.
 كنت قد سمعت كثيراً عن أحمد فؤاد، الذى كان وكيل نيابة وقاضياً قبل الثورة، وكان عضواً قيادياً فى تنظيم حدتو، ومسئولاً سياسياً عن تنظيم الجيش بالحركة الديموقراطية، وبهذه الصفة، كان قد تعرف على يوسف صديق، ثم تعرف على جمال عبد الناصر قبيل الثورة، وأصبح مقراباً إليه، واستطاع عبد الناصر بعد نجاح الثورة أن يقنع أحمد فؤاد بالتفرغ ليكون مستشاره السياسى، على أن ينهى صلته التنظيمية بحدتو، وبالمنظمات الشيوعية بصفة عامة، ورغم ذلك فقد ظلت علاقة أحمد فؤاد بعدد من الضباط الشيوعيين قائمة، منهم يوسف صديق، وأحمد حمروش، ولكن على أساس شخصى.
 ولم أكن قد التقيت بأحمد فؤاد من قبل، ولكنى كنت متأكداً من أنه يعرفنى، كما تبين لى ذلك أيضاً بعد أن قابلته.
 ذهبت إليه فى الموعد المحدد، فى مكتبه ببنك مصر، وكان مكتبه فخماً، كان يحتله من قبله الباشوات الذين كانوا رؤساء لبنك مصر. وبعد انتظار لم يطل كثيراً، أدخلتنى مدام عائشة، مديرة المكتب إلى الرئيس، الزميل السابق، القاضى أحمد فؤاد.
 استقبلنى استقبالاً جيداً، ودعانى إلى الجلوس أمامه، ملقياً على نظرة تعارف، وتعرف، ثم سألنى عن أحوال المحاماة، وكان يعرف عنها مثلما أعرف، أو أكثر. ثم سألنى:
 -هل تحب السينما؟
 فأندهشت لهذا السؤال الغريب المفاجئ. ونظرت إليه ملياً نظرة استطالع. ثم قلت:
 -نعم، أحب السينما، ولكن لماذا؟
 فأجابنى بلهجة محايدة:
 -الريس جمال عبد الناصر عايز يشغلك فى مجال السينما.
 وصمت قليلاً حتى يتيح لى فرصة الاندماج فى الموقف العجيب، ثم - وكأنه وجد أن الأمر يستوجب منه بعض الشرح والإيضاح، ثم قال:
 -أصل الريس بيحب السينما ومهتم بيها جداً، ولديه فى منزله آلة للعرض السينمائى، وقلماً تمر ليلة لا يشاهد فيها فيلماً أو اثنين بعد أن ينهى عمله، وقبل أن يأوى إلى فراشه. وأنت تعرف أن من الشركات التابعة لبنك مصر، شركة تسمى "شركة مصر للتمثيل والسينما"، وهى شركة تملك ستوديو مصرن ومعمل سينمائى كبير، ودار عرض اسمها سينما ستوديو مر بشارع عناد الدين، كما أن بها قسماً للتوزيع السينمائى - الداخلى والخارجى. شركة كبيرة، ولكن أوضاعها المالية ليست على ما يرام. ويرغب الرئيس فى تدعيمها وإيقافها على قدميها، ويرى أن بداية ذلك، هو تعزيزها بالعناصر القادرة على ذلك. وها هو قد اختارك أنت، لتكون من بين هذه العناصر. فما رأيك؟
 قلت له وأنا لا أكاد أصدق ما أسمع.
 -هذه ثقة أسعد بها وأعتز. وأشكر الرئيس، كما أشكرك، على هذا الترشيح والاختيار. ولكنى أود أن أعرف، ماذا سيكون عملى فى تلك الشركة بالظبط؟
 تفكر أحمد فؤاد ثم قال بتمهل:
 -كل حاجة. ستكون عضواً بمجلس إدارة الشركة ممثلاً للبنك. هناك أعضاء منتخبون فى مجلس الإدارة يمثلون المساهمين فى الشركة، فهى شركة مساهمه، وهناك أعضاء آخرون يختارهم البنك بصفته الشريك الأكبر فى ملكية الشركة، ويقوم هو بتعيينهم، وستكون انت أحدهم. بمعنى أنه سيكون مطلوباً منك التدخل فى كل أمور الشركة، والعمل على حسن سير العمل فيها من كل النواحى، الفنية، والإدارية، والمالية، والقانونية. ويتوسم الرئيس فيك أن تكون قادراً على أداء هذا الدور. وأنا أيضاً. فما قولك.. نقول مبروك؟
 كنت مفعماً بالفرحة، وأردت أن أستوثق الموقف، فسألته:
 -هل يتفق هذا العمل مع استمرارى فى العمل بالمحاماة، أم أنه سيعين على أن أترك هذا العمل؟
 قال مؤكداً:
-لا.. استمر كما تشاء، على ألا تعطلك المحاماة عن واجباتك فى أعمال الشركة. وبالمناسبة، ستكون مكافأتك على هذا العمل، محدودة:
 -أيوه مناسب، متشكر جداً. بس للأسف أنا ماعنديش عربية تجيبنى الهرم، ممكن تبعتولى عربية؟ -فوجئ الرجل قليلاً وكأنه لم يكن يتصور أن عضو مجلس- الإدارة الجديد- الممثل للبنك، لا يملك سيارة. ولكنه قال:
 -لا، مفيش مشكلة، سأرسل لك سيارتى وسائقى، واسمه الششتاوى. قلت له شاكراً:
 -مرسيه أوى يا محمد بك.
 -مع السلامة.
 -مع السلامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق