ذكريات شاعر مناضل: 22- فى سجن القلعة

22- فى سجن القلعة


  كان الضابط شخصاً مهذباً. أخبرنى باسمه "نبيل".. ولا أذكر بقية الاسم، وقال لى إنه منتدب من شرطة الأرياف لهذه المأمورية. وفهمت من ذلك ان الحملة حملة واسعة، استدعت انتداب ضباط ضابط من الأقاليم للمشاركة فيها. أخرج لى الضابط ورقة كتب بها إذن الضبط والتفتيش، واسمى وعنوانى، وذلك قبل أن أطلبه أنا. واستعرض الضابط مكونات الشقة، فتجاوز غرف النوم التى كانت بها زوجتى وأولادى، اللذين كانوا لم يستيقظوا بعد، ونظر إلى بقية الشقة. ثم توجه إلى غرفة المكتب فدخلها. وكان قد ترك القوة المرافقة له خارج الشقة ولم يأمر أحداً منهم بالدخول. سألنى:
  -غرفة مكتبك؟ فأجبته بالإيجاب. وبدأ تفتيشه بإدراج المكتب، ثم بضبفة المكتبة. لم يجد سوى كتباً وأوراق لا صله لها بما جاء من أجله، فطلب منى أن أحضر بعض الملابس والحاجات التى تلزمنى لمدة أيام قليلة - إن شاء الله. ففعلت. ثم نزلت معه وقد اطمأننت إلى أن التفتيش لم يسفر عن وجود أى مضبوطات.
 وفى الشارع، ركبت معه بوكس الحكومة، وكان به ضابط آخر وبعض الجنود. وسار بنا البوكس، ولكنى - بدلاً من أن أراه يتجه بى صوب منتصف البلد، رأيته يأمر السائق بالتوجه إلى إمبابة. فلعب فى عبى الفأر. إمبابة: لماذا؟ ولكنى رجحت أن يكون مكلفاً بتسليمى فى قسم إمبابة. فقرت مخاوفى. ما أن وصلنا إلى شاطئ النيل عند الكيت كات، حتى أمر الضابط السائق بالتوقف، وقال وهو يقرأ من ورقة معه:
  -بس هنا يا  أسطى. واتجه إلى إحدى العوامات الرابضة هناك على شاطئ النيل، وقرأ الرقم، ثم طلب منى أن أتقدمه إلى سلم العوامة، فتأكدت أن البوليس كان يراقبنى، وأنه على أننى كنت أستأجر هذه العوامة، واستخدمها لأغراض حزبية. كتابة التقارير والبيانات، وحفظ الأوراق والمطبوعات.. إلخ، طلب منى الضابط مفتاح شقة العوامة، فأنكرت صلتى بها، وأنكرت وجود مفتاح لها معى، وكنت بالفعل قد أخفيت هذا المفتاح فى مكان ما بشقتى. وتقدم الضابط وأخذ يتحسس جيوبى، فلم يجد بها أى مفاتيح.
 وألهمه حدسه، أن يسأل أصحاب العوامة، وكانوا يقيمون فى شقتها العليا. عن المفتاح، وكان لديهم نسخة منه بطبيعة الحال، ولما علموا أن الرجل ضابط بوليس، أحضروا له المفتاح، وفتح به، ودخل وأنا معه.
  لم يعلم الضابط، أننى منذ هذه اللحظة، قد انقطعت صلتى القانونية بأى شئ يمكن ضبطه والعثور عليه فى داخل الشقة، لسبب قانونى بسيط، هو أننى لم أكن الحائز القانونى للشقة، أو الشخص المستقل بحيازتها. لم يفطن الضابط لهذا الأمر، فإن ثقافته القانونية كانت محدودة، ولذلك فقد بدا عليه العجب من هدوئى وثباتى وهو يدخل بى إلى العوامة.
 لم تستغرق عملية تفتيش العوامة سوى دقائق، فسرعان ما عثر الضابط لدى دخوله إلى الغرفة الداخلية بالعوامه على دولاب، وبفتحة - دون مفتاح - عثر على حقيبة صغيرة - هاندباج - كانت بداخلها كمية من المطبوعات الحزبية. عدد من نسخ اللائحة الداخلية للحزب، وعدد من نسخ برنامج الجبهة التى يدعو إليها الحزب، وبعض التقارير والوثائق الأخرى. ومرة أخرى شعر الضابط بالدهشة لثباتى وهدوئى، وكان ذلك راجعاً إلى اطمئنانى إلى أن كل تلك الأوراق، هى مطبوعات، وليس فيها شئ بخط يدى، وأن ذلك مع عدم ثبوت حيازتى للمكان، كان كافياً لبراءتى.
 سألنى الضابط، عن تلك الأشياء، فأجبته بانه لا صلة لى بها. فابتسم. ثم خرجنا، وركبنا البوكس، واتجه بنا إلى مبنى المباحث العامة بالجيزة، فى منطقة الدقى، حيث سلمنى الضابط للمختصين هناك، ومعى حقيبة الأوراق المضبوطة.
 جلست فى منور مكشوف شديد البرودة، على مقعد خشبى، وجلس على جانبى مخبران بائسان يرتعدان من البرد. كنا فى صباح اليوم الثانى من شهر يناير سنة 1975، وجلست أفكر وأنا أعجبت، لماذا يختار البوليس دائماً شهر يناير بالذات، لشن حملات القبض والاعتقال للسياسيين من خوم النظام، وكان هذا قد حدث لى مرتين من قبل، وحدث لآخرين عدة مرات. ثم توصلت إلى أن هذا البرد الشديد يضمن وجود الناس فى بيوتهم، ومن ثم يصبح القبض عليهم أيسر وأضمن.
 ثم بدأ ضباط الإدارة يتوافدون، وكثير منهم يمرون بى لإلقاء نظرة على هذا الصيد الجديد. وتقاطر عدد آخر من المقبوض عليهم، فأجلسوا فى أماكن أخرى من المبنى. وسمعت أذان الظهر، ثم أذان العصر، ثم أذان المغرب. من مسجد قريب، وأنا جالس فى مكانى، دون طعام، أو شراب، وأنا أكاد أتجمد من شدة البرد. إلى أن أقبل نحوى ضابط طويل عريض المنكبين، مفتول العضلات، يبدو أنه كان مصارعاً، ووقف أمامى، وجعل ينظر إلى شذراً نظرة طويلة، ثم قال وهو يخرج من جيب سترته كلبشاً من الحديد، قوم معايا. ومد نحوى الكلبش فوقفت إلى أن أدخل فردة الكلبش فى يدى اليسرى وأدخل فردته الأخرى فى يد مخبر كان واقفاً إلى جواره. ثم أشار للجندى فتقدم - وانا معه - خارجاً من المبنى، إلى سيارة ترحيلات كان بها عدد من المعتقلين. كنت أعرف بعضهم ولا أعرف الباقين.
سارت بنا سيارة الترحيلات فاجتازت أحد الكبارى القائمة على النيل، ثم اتجهت شرقاً، ثم أخذت تسير فى طريق صاعد، إلى أن وقفت بنا أمام مبنى غريب الشكل، أدركت أنه واجهة سجن القلعة العتيد.
 أنزلنا الضابط المصارع أمام الباب، ثم أدخلنا من بوابة عتيقة إلى فناء صغير، واتجه هو إلى غرفة ضابط استقبال، حيث قدم إليه أوراقاً وقعها، وبهذا تمت عملية التسليم والتسلم.
 بدأ إدخالنا إلى داخل السجن، فرداً فرداً. أدخلت أنا إلى حجرة صغيرة، حيث أوقفت، وقام بعض المخبرين بربط عينى بعصابه سوداء محكمة، بينما كلتا يدى مقيدتان بالكلبش الحديدى، وكان هناك مخبر - او جندى آخر، يسحبنى من أحد ذراعى. سرنا قليلاً، ثم توقف الجندى فوقفت. ما ان وقفت حتى سمعت صوتاً غريباً يكلمنى بلهجة غريبة وبنبرات معدنية، قائلا بغضب:
 - اسمك؟
 قلت له:
 - محمود توفيق
 صاح غاضباً:
 - اسمك الثلاثى؟ فقلت له بهدؤ:
 - محمود محمد توفيق.
 فصاح بغضب:
 - سنك؟
 فقلت له:
 - تسعة واربعين.
 فتمهل قليلاً، ثم قال وكأنه يخاطب الجندى الذى يسحبنى:
 - نمرة اتناشر.
 وسكت. وتقدم بى الجندى فى الظلام الدامس، وفى طريق موصوف بالأحجار، التى عرفتها من ملمسها تحت قدمى. وكان يتوقف كل بضعة خطوات بلا سبب، فأسمع أصواتاً غريبة من حولى، صليل سلاسل حديدية، أهو همهمة أصوات غاضبة، أو وت عصى غليظة تسحب على الأرض الحجرية. وفجأة تكف الأصوات، وأسمع صوت سكون عميق منذر.. وهكذا. لم يكن الأمر صدفة، وإنما كان برنامجاً معداً سلفاً ومسجلاً على شريط صوتى.
  ثم انقطع الصوت. وتقدم بى الجندى فى فناء طويل، شعرت أنه مكشوف بلا سقف، وأخذ الجندى يفك العصابة عن عينى، ويفك الكلبش من يدى، ويقودنى نحو زنزانة كتب على بابها بخط ردئ رقم: 12.
 وفيما بعد، بعد حوالى ربع قرن من هذا التاريخ تسلمت - عن طريق ابنتى منى، رسالة من الأديب عبد الرحمن أبو عوف، يذكرنى بهذا الموقف ويقول فيها:
 - الزميل الكبير، الشاعر والإنسان النبيل: محمود توفيق - حبى واحترامى، أذكرك بلقائين لنا...
 الأول عام 1972 فى كافتيريا لاباس مع الروائى العظيم سعد مكاوى..
 والثانى: فى معتقل القلعة فى يناير 1975، كنت قد وصلت قبلك وأنظر من نظارة الزنزانة، فرأيتك والعصابة السوداء على عينيك متماسكاً كالأشجار الواقفة ضد الريح.
 سعدت برؤية ابنتك "منى" فى مكتب الزميل الناقد الكبير جابر عصفور. وأشكرك على ديوانك الجديد ... إلخ.
 مع حبى واحترامى،
عبد الرحيم أبو عوف
...
 فتح السجان لى باب الزنزانة رقم 12 ودخلت إليها، ومعى حقيبة ملابسى الصغيرة. كانت الزنزانة مظلمة تقريباً إلا من نور مصباح كهربائى صغير خافت معلق فى سقفها، وكنت لا أكاد أرى شيئاً فى داخل الزنزانة، ولكن بعد قليل، وبعد أن أمعنت النظر، رأيت فى داخلها سريرين من الحديد وشخصاً واحداً لم أتبين ملامحه أو أتعرف على شخصه، إلى أن سمعته يقول بصوت واضح:
 -مين .. محمود توفيق، مرحب يا أبو حنفى.
 عرفته من صوته، ثم تبينت صورته فى الضوء الخافت، كان هو محمد على عامر، الشهير بشيخ العرب. تصافحنا وتعانقنا وأنا أقول:
 -مرحب يا شيخ العرب.
 وكان هو يصيح:
 -مرحب يابو حنفى.
 قضينا بعض الوقت فى أحاديث تتصل بالموقف والمناسبة. ثم رقد كل منا على سرير من السريرين الحديديين المضعضعين، وكانت على كل منهما مرتبة فى حالة يرثى لها، وبطانية مهلهلة من صوف خشن مخلوط بالخيش. ووسادة مليئة بالخرق. وكان البرد شديداً فى هذه البقعة التى تفر منها الشياطين. وسرعان ما سمعت شخير شيخ العرب، وسمعت شخيرى أنا، قبل أن أغوص فى سبات عميق.
 عندما طلع الصباح بدأت أرى ما حولى ببعض الوضوح، على جدران الزنزانة وعلى بابها، كان روادها السابقون - منذ المعتقلين فى ثورة سنة 1919 قد خطوا أسمائهم، وأسماء البلدان التى جاءوا منها، ابتداء من القاهرة، مروراً بالكثير من بلدان الوجهين البحرى والقبلى.
 ولفت نظرى أن أحد المعتقلين قد كتب بشئ يشبه المسمار على الجدار المجاور للباب، بيتاً من الشعر يقول:
 إذا ما شنقتم غريد الطيور
تدب الحياة على المشنقة
 وعرفت أن هذا البيت هو من الشعر الحديث، ثم عرفت بعد ذلك أنه لشاعر من الشعراء المناضلين الشبان، هو - غالباً - عز الدين فؤاد.
 استيقظ شيخ العرب، وبدأ ثرثرته المعتادة. وبعد قليل حضر السجان وفتح لنا الباب وقادنا إلى دورة المياه فى آخر الممر. ثم أحضر لنا إفطارنا، كل واحد رغيفاً من الخبز البلدى، وقطعة جبن أبيض ردئ، وقطعة حلاوة طحينة سمراء اللون. ثم بعد ذلك مر علينا ببراد من الشاى الأسود المغلى، ليملاء لكل منا كوبه من الصفيح كانت موجودة بالزنزانة. وظللنا فى الزنزانة لا نبرحها لنرى الشمس أو ترانا، حتى حان وقت العصر، حيث وزعت علينا وجبة الغداء الذى يحضره المتعهد، صحناً صغيراً من الفاصوليا الجافة المطبوخة، بها قطعة من مادة تشبه اللحم، ورغيف من الخبز البلدى، وحبة يوسفندى صغيرة.
 عندما حل المساء، قادنا السجانه والضباط إلى سيارة ترحيلات تقف أمام بوابة السجن، وكل اثنين منا مقيدين بكلبش واحد، حيث أمرنا بالركوب، وسارت بنا تلك السيارة، تسبقها وتتبعها عدة سيارات بوكس تقل عدداً كبيراً من الضباط والجنود، وقبل لنا، إننا ذاهبون للعرض على النيابة، وكانت تلك هى نيابة أمن الدولة العليا، الكائن مقرها وقتذاك بشارع زكى، بمنطقة التوفيقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق