ذكريات شاعر مناضل: 23- فى ليمان أبو زعبل

23- فى ليمان أبو زعبل


  عرضنا على نيابة أمن الدولة العليا فى ظلام الليل، وكان العرض شكلياً، كنا حوالى مائتين سجيناً شيوعياً تحت التحقيق، كان نصف هذا العدد تقريباً من تنظيمنا - الحزب الشيوعى المصرى الجديد، وكان الباقون من عدة تنظيمات أو مجموعات شيوعية أخرى: حزب العمال الشيوعى، حزب 8 يناير الشيوعى، ثم أفراد ومجموعات صغيرة أخرى.
  لم يكن هناك تحقيق بالمعنى الصحيح، مجرد سؤال عن الاسم والسن والعنوان، ثم العبارة التقليدية:
 -ما قولك فيما هو منسوب إليك (أفهمناه).
 وكان ما هو منسوب إلينا من جانب المباحث العامة، وهيئة الأمن القومى (المخابرات). هو تأسيس وإدارة، أو عضوية تنظيم شيوعى سرى يرمى إلى قلب نظام الحكم بالقوة والإرهاب والوسائل غير المشروعه، وإقامة نظام شيوعى .. إلخ.
 وكانت الإجابة من الجميع:
 -ماحصلش.
 س: هل لديك أقوال أخرى؟
 جـ: لا- تمت أقوله ووقع،
 وكان الهدف هو مجرد العرض على النيابة فى الميعاد القانونى بعد القبض، وصدور أمر منها بالحبس المطلق. والطلب مرة أخرى للتحقيق التفصيلى فى موعد يحدد فيما بعد.
 استغرقت هذه الإجراءات الشكلية عدة ساعات، ثم أعدنا بعدها بسيارة الترحيلات إلى سجن القطعة.
 فى مساء اليوم التالى، تنبه علينا، بالاستعداد للترحيل إلى محبس آخر، وأن نأخذ معنا حاجياتنا. ثم أخرجنا، كل اثنين فى كلبش، إلى تلك السيارات المقفلة. وتحركت السيارات فى طريقها إلى هذا المحبس الآخر، الذى لم يذكر لنا اسمه.
 بعد ساعتين، اخترقنا فيهما طرقاً وشوارع عديدة داخل القاهرة، وفى منطقة ريفية خارجها، توقفت السيارات، وانزلنا أمام بوابة كبيرة متجهمة المنظر، عليها لافتة نحاسية تقول: ليمان أبو زعبل.
 وكانت تلك أول مرة أرى فيها هذا الليمان، رغم أن كل الناس كانوا قد سمعوا كثيراً باسمه، وبسمعته الرهيبة.
 توجست شراً من هذا المكان، وما كان يحدث فيه، أو فى الأوردى التابع له، من أهوال الجرائم والتعذيب والقتل. الذى كان يجرى فيه منذ سنوات قليلة، وخاصة فى الأحداث الدامية التى استشهد فيها شهدى عطيه، ورفاق آخرون. ولكن.. تشاؤمى لم يكن فى محله.
 أدخلنا من البوابة العمومية إلى فناء كبير، ورأيت فى أحد أركانه بعض أشخاصواقفين ينتظرون.
 كان منهم بعض العسكريين، يقفون حول ضابط طويل القامة، يحمل على كتفيه رتبه اللواء. وما أن اقتربت منه حتى عرفته. كان هو الضابط الشهم الذى عرفته فى سجن مصر منذ حوالى العشرين عاماً.
 كان مازال محتفظاً بقوامه الرياضى، ولكن الشيب كان قد بدأ يظهر على شعر رأسه وحاجبيه، وكان ذلك هو الثمن الذى دفعه ليل إلى رتبة اللواء، ويصبح مديراً لمنطقة ليمان أبو زعيل.
 ما أن تحقق اللواء إبراهيم مصطفى منى، حتى تقدم نحور مسرعاً، وصاح بدهة وجزع حقيقى:
 -محمود؟ لسه برضه بعد السنين دى كلها؟
 أجبته وأنا أصافحه:
 -لسه برضه. عاش من ضافك يا إبراهيم بك.
 وكان يقف معه عدد من مرءوسيه الضباط، ورجل مدنى حسن الطلعة والهيئة، عرفت فيما بعد أنه هو المستشار مصطفى طاهر، رئيس نيابة أمن الدولة العليا. وكان واضحاً أنه قد جاء ليرى بنفسه طريقة استقبالنا وليطمئن على كيفية معاملتنا. وكانت طريقة مقابلة اللواء المدير لى، ووجود المستشار مصطفى طاهر - رئيس النيابة، معنا، توحيان بالاهتمام وحسن المعاملة.
  وكانت هذه أول مرة أرى فيها مصطفى طاهر، وإن كنت قد سمعت الكثير عن إنسانيته وسعة أفقه. أما إبراهيم مصطفى، فكنت متأكداً من شهامته، واثقاً من أنه لن يحدث فى أى مكان هو مسئول عنه أى شئ معيب.
 وجدنا أن إبراهيم مصطفى قد أعد لنا مكاناً مريحاً، أبراش ومراتب وبطاطين نظيفة جديدة، وأفرد لنا عدداً مناسباً من الغرف والعنابر النظيفة.
  وقضينا الأيام والشهور التى أمضيناها فى هذا الليمان، فى أحسن حال يمكن تصوره فى "ليمان". وكان إبراهيم مصطفى حريصاً على مقابلتى فى الفناء، أثناء الطابور، كلما تيسر له ذلك، وعلى الوقوف والتحدث معى بمودة ولطف، وقد أشاع سلوكه هذا جواً من اللين على معاملة كل ضباط السجن وسجانيه، معنا.
 بعد أيام قلائل، بدأنا نستدعى للتحقيق فى نيابة أمن الدولة، وكان يتم استدعاؤنا إلى هناك على دفعات يومية.
 أول مرة استدعيت فيها، تعرفت على وكيل النيابة العتيد، صهيب حافظ، الذى كان هو الذى يتولى التحقيق معى، كان قصير القامة غامق السمرة، وكان ميالاً للتفكه والمرح. قابلنى مقابلة مرحة لا تتفق مع وضعه ووضعى. وكان يجلس معه فى الحجرة بعض وكلاء النيابة، الأحدث منه، وكأنه قد دعاهم ليستعرض أمامهم مهاراته فى التحقيق، خاصة مع واحد من زعماء الشيوعيين كما تقول الأوراق.
  بعد أن أثبت حضورى، بادرنى بقوله، بلا مناسبة:
 -الحرية تقدير ضرورة. أليس كذلك يا أستاذ محمود، ترى من هو قائل هذه العبارة. أليس هو لينين؟
 اندهشت لإقحامه هذه المقولة فى التحقيق، ولكنى لاحظت أنه كان يتكلم خارج التحقيق، وكان كاتب الجلسة لا يدون هذه الأقوال. وفهمت انه كان قد أومأ إليه بذلك، وربما كان ذلك من عاداته.
 واندهشت لأننى لم أقرأ عن لينين أنه قال مثل هذه العبارة، وكان واضحاً أنها من قول بعض الوجوديين. ربما كان سارتر أو أحد آخر. ثم أدركت أن صهيب حافظ ربما أراد مشاغبتى، وإفهامى أنه ضليع فى الماركسية - مثلى - أو أكثر منى. على أيه حال وجدتنى أنظر إليه صامتاً، دون أى تعليق.
  ثم بدأ تحقيقه الروتينى معى، إلى أن كاد ينتهى منه، كان تحقيقاً سطحياً لم يواجهنى فيه بأى شئ محدد، وكأنه أراد أن أظل حائاً عن موضوع الاتهام الموجه لى. وفجاءة، وقبل أن يقفل المحضر، أشار لكاتب التحقيق إشارة يفهم منها ألا يكتب الكاتب فى المحضر ما سيقوله، ثم سألنى - خارج المحضر:
 - يا أستاذ محمود، هل تعرف شخصاً يسمى محمد طنطاوى؟
  لم أكن أعرف شخصاً بهذا الأسم، ولم أكن قد سمعت عنه شيئاً. وجدتنى أجيب على سؤال صهيب، بدهشة حقيقية:
 -لأ ما أعرفوش، مين محمد طنطاوى دة؟
 أجابنى صهيب وهو يضحك ساخراً:
  -ظابط مخابرات.
 بدا واضحاً أنه أراد أن يسخر منى، وأن يفهمنى أن لديه مفاجئات فى القضية لا يريد أن يبوح بها.
 انصرفت ذلك اليوم عائداً إلى أبو زعبل، فى انتظار استدعائى بعد ذلك، مرة أخرى، أو ربما مرات، لاستكمال التحقيق. وكنت أشعر بشئ من الغيظ تجاه صهيب حافظ، وسلوكه معى، الذى لم يكن ودياً ولا عدائياً، وإنما يمكن القول، إنه كان غريباً وغير مألوف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق