ذكريات شاعر مناضل: 26- صباح الخير أيها الحزن

26- صباح الخير أيها الحزن


   لمدة شهر كامل، سيطرت على مشاعرى هذه العبارة العجيبة التى صاغتها الكاتبه الفرنسية الشهيرة - فرانسواز ساجان -والتى جعلتها عنوانا لإحدى أشهر رواياتها. فعلى طول الأيام والأسابيع التالية لوفاة يوسف، وقعت أسيراً فى قبضه حزن جارف، ظل يتملكنى ليل نهار، بحيث لم أكن قادراً على تجاوزه لأى شعور أو فكر آخر، إذ كان يوسف ركناً ركيناً فى ماضى حياتى وحاضرها، ولم أكن أتصور استمرار حياتى بدونه. كانت الصور والمشاهد التى تحمل ذكرياتى معه تتوالى على ذاكرتى بلا انقطاع، بحيث أعجز عن التفكير فى أى شئ سواها. عجزت عن الكلام، وعن القراءة، وعن ملاحظة أى شئ. عجزت عن تناول أى طعام أو شراب، أوكدت. عجزت عن السير أو عن الوقوف، أو الخروج من الزنزانة أو العنبر لمشاركة الرفاق فى طابور الصباح، أو طابور المساء، وظللت قابعاً بلا حركة تذكر فى ركن من أركان الزنزانة، مثالاً للحزن والغم والاكتئاب.
 واهتم بى كل الزملاء وحاولوا إخراجى من هذه الحالة بكل الوسائل، إذ كانوا حريصين على الجلوس معى والعمل على مواساتى والتسرية عنى، بالكلام، وبالفكاهة، وبمحاولة جذبى للحركة والمشى والخروج معهم إلى الطابور، ولو لبعض الوقت. بل إن مدير الليمان - اللواء إبراهيم مصطفى، وضباطه، وبعض السجانين قد حضروا لمواساتى وتعزيتى، وتشجيعى على الصبر والجلد.
 بعد أسبوعين، حضرت سهير لزيارتى، ومعها الأولاد. كانت ترتدى ثياب الحداد. وأخذت تحكى فى الزيارة، وفيما بعد، كثيراً من التفاصيل حول مرض أبيها وظروف وفاته، وحول دورها الأساسى فى تحويل جنازته إلى مهرجان لتكريمة. روت لى أنها قبل أن تأتى لزيارتى السابقة التى طلبت منى فيها كتابة نعى يوسف، كانت قد قابلت المستشار مصطفى طاهر، رئيس نيابة أمن الدولة العليا وطلبت منه تصريحاً بزيارة خاصة لى، وأبلغته بالغرض من هذه الزيارة، وأنها بهدف قيامى بكتابة نعى والدها، وكان الرجل شهماً فأصدر لها التصريح فوراً، وكان ذلك أمراً هاماً لقيامى بكتابة هذا النعى، على النحو المطلوب.
وروت لى بعض التفاصيل عن أيام يوسف الأخيرة، التى كانت تلازمة فيها فى البيت، أو فى المستشفى، وكيف أنه كان قد علم بأمر القبض على، ثم القبض على ولده محمد، ثم الإفراج عنه. وروت لى كيف أن يوسف كان قد علم بمرض أم كلثوم، ثم بوفاتها، وأنه قد بكى عليها بكاء شديداً.
 ثم روت لى كسف أنها - بعد وفاة يوسف مباشرة، توجهت إلى مبنى الاتحاد الاشتراكى بكورنيش النيل، حيث قابلت عبد المجيد شديد، تلميذ يوسف ومساعده السابق، والذى كان قد أصبح وثيق الصلة بالرئيس أنور السادات. وسألته عن الترتيبات العادية التى كان مقرراً عملها، اعترضت عليها بشدة، وطلبت طلبين مهمين، الأول: أن تكون الجنازة عسكرية، وأن يسبقها النشر فى كل الصحف عن الوفاة والتمهيد للجنازة، والثانى: هو الأمر بإخراجى للمشاركة فى لاجنازة، وكيف إنها طلبت من شديد الاتصال بأنور السادات وطلب موافقته على كل ذلك، وأن السادات أخبره تليفونياً، فى حضورها وحضور آخرين، بأن يتم تلبية تنفيذ كل ما يطلبه أولاد يوسف صديق. وهو أمر ظللت أنا، وظلت الأسرة جميعاً تحمده لأنور السادات، حياً وميتاً. ثم أخبرتنى بأنها كانت قد التقت بخالد محية الدين قبل مقابلتها لعبد المجيد شديد، وأنه نصح لها بأن تطلب المطلبين الذين طلبتهما، هما: الجنازة العسكرية، ومشاركتى فى الجنازة، وأنها قد اقتنعت بهما وطالبت بهما، بناء على تلك النصيحة، وهو ما ظللت أحمده لخالد محيى الدين، وأضعه دائماً فى كفة حسناته، رغم العديد من المآخذ التى كنت ومازلت آخذها عليه.
  فى أواخر إبريل، عرضنا على محكمة الجنايات مرة أخرى - دائرة المستشار محمد البخارى، وحضر معى الأستاذ ماهر محمد على المحامى، وكان صديقاً لى، غأمكنه انتزاع قرار بالإفراج عنى، ضمن من تقرر الإفراج عنهم فى تلك الجلسة. وكان واضحاً أن الاتجاه كان ينحو نحو تصفية القضية برمتها.
 بعد عودتى إلى السجن، علمت بأن نيابة أمن الدولة قد اعترضت على قرار الإفراج عنى، وأن الاعتراض سوف ينظر أمام دائرة أخرى من دوائر المحكمة، دائرة يرأسها المستشار على زاهر. وكنت قد سمعت عن هذا المستشار ما حملنى على الثقة به، وتوقع الخير على يديه.
 وتحددت لنظر هذا الاعتراض جلسة 10 مايو 1975، وذهبت إلى الجلسة. وظللت صامتاً هادئاً خلالها، ولم يتكلم الأستاذ ماهر محمد على سوى كلمات قليلة، بعدها صدر قرار المستشار على زاهر، برفض الاعتراض، وتأييد الحكم الصادر من دائرة محمد البخارى بالإفراج عنى.
 عدت إلى أبو زعبل، حيث تمت إجراءات الإفراج عنى، وودعنى الزملاء بالأغانى والأناشيد، والقبلات والأحضان، ثم أخذت حقيبتى وخرجت فى صحبة الحرس إلى مقر المباحث العامة.
 قابلنى ضباط المباحث العامة بالحفاوة والتهنئة، ثم أسرعوا فى اتخاذ إجراءات الإفراج عنى، ثم أخبرونى بأن الليلة، هى موعد الاحتفال بذكرى الأربعين لوفاة المرحوم يوسف صديق، وأنهم لذلك فسوف يأخذونى بسيارة تابعة لهم إلى مقر الاحتفال، فى مسجد عمر مكرم القريب. وبالفعل، ذهبت إلى هناك، فوجدت المسجد مزدحماً بالمحتفلين، ومنهم الكثيرون من الأهل والأقارب الذين قدموا من مختلف البلدان. وبعد نهاية الاحتفال، عدت إلى منزلى بصحبة زوجتى وأولادى، حيث أويت إلى فراشى بعد أكثر من أربعة شهور من الغياب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق