ذكريات شاعر مناضل: 24- مع المستشار صهيب حافظ

24- مع المستشار صهيب حافظ


  منذ أن وصلنا إلى ليمان أبو زعبل، بدأنا تنظيم حياتنا. كانت مجموعتنا، مجموعة الحزب الشيوعى المصرى الجديد، هى أكبر المجموعات. وكن بينها عدد من القياديين، من اللجنة المركزية والمكتب السياسى، ومستويات أقل. كنت أنا: هاشم، ورشدى أبو الحسن: عاصم، من مجموعتنا، ثم كان هناك زكى مراد: ناشد، ومبارك عبده فضل (إبراهيم) من مجموعة ناشد، ثم كان هناك فوزى حبشى: عصام، من مجموعة الشروق، كان هؤلاء الخمسة من المكتب السياسى، وكنت أنا، وناشد، من اللجنة الرئاسية الثلاثية. وكان هناك: محمد على عامر، و"أحمد" - عبد القادر شهيب، وسيف صادق، من اللجنة المركزية. وهم من المجموعات الثلاثة.
 نظمنا حياتنا كالمعتاد، الحياة العامة (شئون المعيشة) عينت لها لجنة من رفاق من المستويات التالية، وأسندت مسئولية الاتصال بإدارة السجن إلى - بحكم علاقتى الودية الوثيقة بمدير الليمان وبعض ضباطه.
  وبدأت أنا نشاطى فى مجال تثقيف الرفاق، وإعداد برنامج تثقيفى خاص، لأعضاء مجموعتنا الحزبية، وبرنامجأعم: لكل المسجونين الشيوعيين. وكنت حريصاً منذ البداية على إعطاء الجميع مجموعة محاضرات - ألقيها أنا بنفسى، فى موضوع: قواعد الأمان فى كيفية التصرف فى التحقيقات أمام البوليس، وأمام النيابة، وفى المحكمة. وكان الهدف منها توعية الرفاق الشيوعيين، بكيفية التصرف فى هذه المواقف، وتحذيرهم من المناورات والألاعيب التى يتعرضون لها فى هذه المواقف، والتى قد تسئ إلى مواقفهم ومواقف زملائهم القانونية، وبصفة خاصة تحذيرهم من الأعتراف على أنفسهم أو على غيرهم، باعتبار أن مثل هذا الاعتراف يعتبر هو سيد الأدلة. ونبتهم إلى أهمية النفى، أو حتى الامتناع عن الإجابة، فى مثل هذه المواقف، إذ دعا الأمر.
 وفى بعض ندوات التثقيف، كان بعض الرفاق يطلبون منى أن أسمعهم بعض قصائدى، وكنت قد كتبت قصيدتين جديديتين، إحداهما هى: شجيرة، والثانية هى: لا تنزلق. ولقيت القصيدتان اهتماماً واستحساناً بالغاً من الزملاء. وما أن كنا نجلس فى هذه الندوات حتى أفاجأ بمن يطلب منى إلقاء إحداهما. فمرة يقول أحدهم: شجيرة. ومرة أخرى يقول آخر: لا تنزلق.
 ذات يوم، بعد انتهاء الندوة، كنت أسير أنا والرفيق أحمد: عبد القادر شهيب، فى الممر الممتد بين الزنازين، والذى ينتهى بباب العنبر، المكون من القضبان الحديدية. وكنت قد نشأت بينى وبين أحمد لعاقة ودية، كفاحية وشخصية وثيقة، إذ كان يعمل معى فى منطقة القاهرة التى كنت مسئولاً عنها. توقفنا برهة أمام باب العنبر، ونحن نتحادث، وفجأة رأينا شخصاً يقبل من ناحية الإدارة فى اتجاه العنبر، وهو يحمل حقيبة ملابس صغيرة، ومعه أحد السجانة. ما أن اقترب حتى وجدت قلبى ينقبض ويكاد يسقط فى اقامى، إذ عرفت من هذا القادم، أبعد شخص كنت أتصور قدومة إلينا. من؟ -محمد يوسف صديق! محمد يوسف صديق يأتى مسجوناً مع الشيوعيين! كان محمد هو شقيق زوجتى سهير، وابن البطل يوسف صديق، ولم يكن شيوعياً ولم تكن له بالحزب الشيوعى أو بأى تنظيم شيوعى أية صلة. فما الذى جاء به.
 نظرت إلى الرفيق أحمد، ونظر لى بدهشة، ثم تفكر قليلاً، وقال وكأنه أرشيميدس حين قال: وجدتها. قال عبد القادر وقد أضاءت ملامحه بقبس من نور الفهم: طنطاوى.
 وسألته وقد عاد سؤال صهيب حافظ لى عن شخص يسمى طنطاوى، سألته، مين طنطاوى؟ أجابنى عبد القادر: الشخص اللى رحناله أنا وانت بعربية محمد صديق لنسلمه شنطتة الأرشيف.
 وفوراً أضاء كل شئ أمامى. فهذا الطنطاوى، لم أكن أعرفه أنا من قبل إطلاقاً، كما لم يكن لمحمد صديق أى صله به، ولكنه كان قد رشح لنا من قبل الجهاز التنظيمى بالمنطقة، لتسليمة حقيبة أرشيف المنظمة ليحفظها عنده مؤقتاً لحين إيجاد مكان ىخر لها، وكانت هناك ظروف ضاغطة تدعونا إلى استعجال هذه الخطوة، حرصاً على الأمان. إذن فقد رآنى طنطاوى ورأى محمد صديق مرة واحدة لمدة دقائق، وهكذا دخلت أنا، ودخل محمد صديق إلى دائرة الاتهام. أما عبد القادر، فكان طنطاوى قد عرفة من قبل عن طريق النشاط الحزبى فى منطقة القاهرة.
 عرفت الآن، ما الذى كان يعنيه صهيب حافظ حين سألنى:
 هل تعرف شخصاً يسمى محمد طنطاوى؟، وعرفت الآن أنه إما أنه كان يسخر منى، أو أنه كان يريد أن ينبهنى إلى وجود ثعبان سام فى ملابسى، ولا أستبعد هذا الاحتمال الثانى، فكثيراً ما أحسست بالتعاطف أحياناً من جانب أشخاص توقفهم المصادفات فى الجانب الآخر منى.
 دخل محمد صديق، وأدخلناه إلى غرفتنا، أنا وعبد القادر ومحمد على عامر الذى كان على صلة بيوسف صديق، وحرصنا على إحاطته بكل ما فى وسعنا من أسباب الرعاية والاهتمام، حتى يستطيع - وهو شخص خالى الذهن، أن يستوعب الموقف وأن يستعد له.
 تدارسنا مع محمد صديق الموقف، وعرفنا أنه - بعد القبض علينا أنا وعبد القادر بأيام، التقى بطنطاوى صدفه أمام محل زلط للأحذية، ولم يعرفه طنطاوى، ولكن محمد صديق هو الذى عرف طنطاوى، فتقم لمصافحته، بكل براءة وحسن نية، باعتباره من معارفى أنا وعبد القادر. وصحبه طنطاوى حتى أخذ سيارته، فعرف هذا رقمها. وهكذا جاءت الكارثة.
  كان القبض على محمد صديق ضربة موجعة تحت الحزام، موجهة لى، وربما كانت موجهة إلى يوسف صديق نفسه، أو هكذا خيل إلى، ولكن قصة طنطاوى خففت من وطأة هذا الاحتمال. وكنت قد تدارست أنا، والزميلين ناشد: زكى مراد، وإبراهيم: مبارك عبده فضل، هذا الأمر، وأسفر هذا عن نتائج بالغة الأهمية. إتضح أن الذى جند طنطاوى هو زميل يدعى حسن إبراهيم، كان قد جندة ناشد: زكى مراد، وأدخله إلى الحزب، فى حلقة ناشد، وكان حسن إبراهيم عضواً قديماً فى تنظيم الحزب الشيوعى المصرى - عند حله، وأنه دخل الحزب الجديد مع الوحدة الثلاثية، حيث مارس دوره البوليسى فيه.
 وقد اتضحت الكثير من الوقائع فيما بعد، عم قصة حسن إبراهيم هذا، مع مرور الوقت، ومع وول أوراق القضية إلى أيدينا، ووقفا لنتائج التحقيق الذى أجريناه فيما بعد، والذى تولاه الزميل أبو زيد: نبيل الهلالى.
 ثبت أن ناشد: زكى مراد، هو الذى كان قد قام بتجنيد حسن إبراهيم، ومن ثم بإدخاله إلى الحزب الجديد قناعة منه بجدارته، أولاً باعتباره عاملاً، وثانياً باعتباره من الجيل القديم من أعضاء الحزب المنحل. وثبت أن حسن إبراهيم قام بإدخال مجموعة من الجواسيس، من أعضاء هيئة الأمن القومى، المخابرات، منهم طنطاوى، وآخر يدعى محمد يوسف، وكانا يعملان داخل منطقة القاهرة. كما ثبت أن حسن إبراهيم كان قد أدخل ثلاثة آخرين من الجواسيس، من عملاء المخابرات، فى جهات أخرى فى الحزب. شبكة كاملة من جواسيس المخابرات، الذين انشكف أمرهم، بالإضافة إلى آخرين لم ينكشف أمرهم، من عملاء المباحث العامة.
 بعد القبض على محمد صديق، وانكشاف أمر طنطاوى، استدعيت للتحقيق أما صهيب حافظ، وكنت فى غاية الغيظ والأستياء، سألته:
 -لماذا قبضتم على محمد صديق، وانتم تعرفون أنه لا شأن له بهذه القضية أجابنى ساخراً:
 -لا شأن له إزاى؟ ده اتضح أنه شخص خطير جداً، بل إنه هو زعيم هذا الحزب الشيوعى كله.
 ابتعلت غيظى، وبدأنا جلسة التحقيق، وكانت جلسة عاصفة فى ذلك اليوم.
 بدأت المصادمات بينى وبين صهيب تتوالى - بسبب، وبلا سبب.
 أول المصادمات كانت بلا سبب يذكر. ذلك أننى كنت أجيب على سؤال له عن واقعة العوامة، وكنت أملى أقوالى بشأنها على النحو التالى:
  -وصلت أنا والضابط إلى تلك العوامة بجهة إمبابة، وعند وصولنا إليها، دلفنا إلى داخلها..
 وهنا أشار صهيب لكاتب التحقيق قائلاً:
 -لا تكتب دلفنا، اكتب دخلنا.
 وجدتنى أقول معترضاً وأنا أوجه كلامى للكاتب:
 -من فضلك، لا تكتب دخلنا، بل أكتب دلفنا.
 -لا - دخلنا
 -لا - دلفنا
 -دخلنا
 -دلفنا
 وتوقف التحقيق، إذ كان كل منا يصر على قوله، وقلت لصهيب:
 -دى أقولى أنا، وأنا حر فى اختيار ألفاظى، فإذا حدث لها أى تغيير ، فلن أوقع على المحضر.
 وكان مصطفى طاهر - رئيس النيابة قد دخل إلى الحجرة، وعلم بأمر الخلاف، فأشار لصهيب قائلاً:
 -سيبه يا صهيب بيه يقول اللى هو عايزه. دخل. أو دلف، كله واحد. وقلت أنا:
 -لا يا مصطفى بيه، أنا راجل محامى، وأديب، دلف، تختلف عن دخل، وأنا أعنى هذا الأختلاف.
 أشار صهيب إلى الكاتب وقال له فى تهكم:
 -اكتب له ياسيدى : دلفنا.
 بعد هذا الاشتباك الأول جاء الاشتباك الثانى. فى نهاية التحقيق، بدأ صهيب يملى قراراته.
 كان أول هذه القرارات، هو قرار باستكتابى لمضاهاة خطى على مخطوطات مضبوطة لم يعرف كاتبها.
 ما أن أملى صهيب هذا القرار، حتى واجهته باعتراضى عليه قائلاً:
 -وأنا اعترض على هذا الاستكتاب، وأرفضه، وهذا من حقى.
 وصاح صهيب:
 -لا ليس من حقك.
 -بل من حقى.
 -لا ليس من حقك، ولابد من الاستكتاب.
 وهنا تدخل مصطفى طاهر مرة أخرى قائلاً:
 -لا ياصهيب بك، من حق المتهم أن يرفض استكتابه. هذا هو القانون.
 وسكت صهيب وهو يبتلع غيظه.
 ثم كان الاشتباك الثانى، حين قال صهيب مملياً على كاتب التحقيق:
 -كما قررنا أخذ بصمات المتهم لمضاهاتها ببعض البصمات المجهولة الموجودة على بعض المضبوطات.
 ووجدتنى أصيح قائلاً:
 وأنا أرفض أخذ بصماتى. وهذا أيضاً من حقى.
 وهنا صاح صهيب:
 -ليس من حقك.
 -لا من حقى.
 وهنا تدخل مصطفى طاهر قائلاً وهو يضحك:
 -لا يا أستاذ توفيق. صهيب بك على حق فى هذه المرة، فأخذ البصمات إجراء مادى يجوز للمحقق الأمر به ولو اعترض لمتهم.
 ووجدتنى مضطراً إلى الموافقة على أخذ بصماتى.
 وكان هذا آخر لقاء بينى وبين صهيب حافظ فى تلك القضية. قابلته بعد ذلك بعشر سنوات مرة واحدة، كنت أترافع فى قضية فى دائرة للأحوال الشخصية بمحكمة الاستئناف العالى بالقاهرة، وكان رئيس الدائرة هو المستشار جاد الحق على جاد الحق، الذى أصبح بعد ذلك شيخاً للأزهر، وكان صهيب حافظ عضواً بالدائرة بعد أن كل قد رقى إلى درجة مستشار بالاستئناف، بعد أن ترافعت فى القضية، وكان صهيب يتابع مرافعتى فى صمت، وأثناء مرافعة محامى الخصم، انتهز صهيب الفرصة، وسألنى بصوت خفيض:
 -ألم أحقق أنا معك فى إحدى القضايا الجنائية؟
 فلت له مبتسماً:
 -نعم، قضية سياسية، وطلعت منها براءة.
 سكت صهيب، وبدا أنه مشغول البال بما يهمه.
  بعد ذلك بعدة سنوات أخرى، قرأت خبراً غريباً عن صهيب حافظ، إذ قرأت أن شاباً قد كان يقود سيارته بسرعة جنونية ليدخل بها فى بوابه القصر الجمهورى بمصر الجديدة، وأن الحرس الجمهورى اضطر إلى إطلاق النار عليه، وقتله، ليتمكن من إيقافه. وأن شخصية القتيل قد عرفت، وعرف أنه نجل المستشار الكبير: صهيب حافظ. ورغم كل المشاكسات التى كانت قد جرت بينى وبينه من عشرين عاماً، فقد تألمت أشد الألم، وأسفت لما جرى لصهيب فى آخر عمره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق