ذكريات شاعر مناضل: 25- فى محكمة الجنايات - متهما

25- فى محكمة الجنايات - متهما


  كانت تحقيقات النيابة فى القضية تحقيقات سطحية ومرتجلة، توحى بأنها مجرد سد خانه، أو أداء واجب شكلى. لذلك فسرعان ما انهت النيابة تلك التحقيقات فى أواخر يناير، وأصدرت قرار الاتهام وأمر الإحالة إلى محكمة الجنايات فى أوائل فبراير، وتحددت جلسة المحكمة لنظر الاعتراضات على أوامر الحبس الاحتياطى فى منتصف فبراير.
 كنا حوالى مائتين من المتهمين، من مختلف المهن والأعمار. كان منا عمال أو أشباه عمال، وكان منا محامون ومهندسون ومثقفون آخرون. وكان منا - شيخ العرب  محمد على عامر، من تجاوز الستين، وعدد كبير - كنت أنا منهم، من قارب الخمسين من العمر، ولكن لكثرة الغالبة كانوا من شباب يقاربون الثلاثين من العمر.
 ذهبنا من الليمان - أبو زعبل - إلى محكمة جنايات القاهرة بباب الخلق فى عدة سيارات ترحيلات مقفلة، وكل اثنين منا مقيدان بالكلبشات سوياً، تتبعنا وتتقدمنا وتحف بنا العديد من سيارات الشرطة. الكبيرة للجنود، والصغيرة للضباط، فى موكب كبير ومهيب اهتزت له أرجاء القاهرة وشوارعها، وكنا - من داخل سيارات الترحيلات، نرفع أصواتنا بالهتافات المدوية التى تنادى بالحرية والعدالة، وحق الشعب فيهما: تحيا مصر حرة مستقلة، الحرية حق الشعب، العدالة حق الشعب.. إلخ.
 كنا نرد على قرارات حبسنا واتهامنا ومحاكمتنا مقدماً. وكان إحساسنا أننا نعاقب النظام ونفضحه أمام الجماهير. واستمرت الهتافات حين وصلنا إلى مبنى المحكمة وبدأ إنزالنا وأدخالنا إلى فنائها الخلفى، وكانت المحكمة قد بدأت تزدحم بروادها، كما كانت الشوارع والميدان حولها مزدحمة بالناس أيضاً. وأحسسنا بأن سلطات الأمن قد أوقعت نفسها فى ورطة، وأنها تريد أن تتخلص منها سريعاً.
 أدخلنا إلى قاعة جلسة كبيرة، بها قفص اتهام حديدى متسع، وضعت فيه دكك خشبية عديدة، وجلسنا فى القفص، ونحن مازلنا نردد الهتافات.
 كانت قاعة الجلسة مزدحمة، فى مقدمتها - فى الصفوف الأولى - كان يجلس عدد كبير من المحامين، وهم يرتدون أرواب المحامة السوداء، كان منهم الكثيرين من المشهورين، وممن أعرفهم شخصياً، وكان بعضهم يشاركنا فى الهتاف أما باقى القاعة فكانت مزدحمة بالجمهور، إما من أقارب المتهمين، وإما من المنفرجين الذين يحبون الحضور فى جلسات المحاكم الجنائية، للتسلية، ولو لم تربطهم بالأمر صلة مباشرة، كان هناك عدد من أرفاد عائلتى: سهير والأولاد، وبعض الأقارب والمعارف الآخرين، وكانت هناك زوجة محمد صديق وبعض أقاربها.
  بعد قليل، صاح حاجب الجلسة بقرب افتتاحها، طالباً من الجميع الصمت والكف عن الكلام. ثم سمعنا طرقات على باب غرفة المداولة، وفتح بابها المؤدى إلى القاعة فى حركة مسرحية، وصاح الحاجب صيحة مدوية: محكمة.
  ودخل رئيس المحكمة - وهو مستشار متقدم فى السن، اسمه: البخارى، ووراءه اثنان من المستشارين - أعضاء هيئة المحكمة، جميعهم فى أماكنهم على المنصة، وقال رئيس المحكمة - المستشار البخارى - فى صوت ضعيف:
  -فتحت الجلسة. ثم بدأ ينادى على المتهمين ليتأكد من حضورهم، وصاح صهيب حافظ منبهاً الرئيس:
 -كلهم حاضرون يا سيادة الرئيس، وهم جميعاً محبوسون.
ولكن الرئيس استمر فى النداء على المتهمين، وفى سؤالهم واحداً واحداً عن ردهم على الاتهام.
 استغرقت هذه العملية ساعة كاملة، وانتهت بإصابة رئيس المحكمة بالإرهاق، فأخذ يجفف عرقه بمنديلة. ثم أشار للنيابة، قائلاً:
 - النيابة..طلباتها إيه؟
 ووقف صهيب حافظ متحفزاً وهو يقول:
 - النيابة تطلب الأمر باستمرار حبس جميع المتهمين.
وجلس وهو يتظاهر بالرضى عن نفسه. وهنا توجه البخارى إلى المحامين قائلاً:
 -الدفاع - طلباتكم إيه؟ فوقفوا جميعاً وهم يقولون بأصوات عاليه.
 - الإفراج عن المتهمين جميعاً.
 كان واضحاً أن رئي المحكمة ليس فى حالة صحية حسنة، فهو دائم التقليب فى الأوراق، بادى الشرود، ثم طلب من المحامين أن يتقدموا إليه بطلباتهم فى غرفة المداولة، وأعلن رفع الجلسة، ثم انسحب إلى داخل الغرفة ومعه الآخرون.
 بعد ساعة من الوقت، عادت الجلسة للانعقاد، وأعلن البخارى قراراته:
  -بعد سماع المرافعات وطلبات المتهمين ودفاعهم، قررت المحكمة:
 أولاً: الإفراج عن المتهمين الآتية اسماؤهم.
 وتلا البخارى أسماء عشرين من المتهمين، كان منهم محمد يوسف صديق.
 ثانياً: استمرار حبس باقى المتهمين.
 ثالثاً: تأجيل نظر الدعوى لجلسة تحددها المحكمة فيما بعد.
 ثم نهض البخارى وهو يقول:
 -رفعت  الجلسة.
 لم أشعر بأى غضب أو أستياء من استمرار حبسى، إذ كانت فرحتى للإفراج عن محمد صديق، تغطى على شعورى بالغضب، أو الاستياء. شعرت بأن الإفراج عن محمد، يعادل، أو يزيد، الإفراج عنى، وسررت فيما بعد، بأن النيابة لم تعترض على قرار الإفراج عن محمد، وهو ما أدى إلى الإفراج عنه فى اليوم التالى.
 لم أكد أشعر براحة البال بعد الإفراج عن محمد، حتى عاد بالى ينشغل بهم أكبر، هو مرض يوسف صديق، أو باشتداد وطأة المرض عليه. علمت ذلك من سهير عند زيارتها لى، ثم أخذت أعرف عنه من بعض ما نشرته الصحف، وخاصة مجلة روز اليوسف عنه، وعن تدهور حالته الصحية.
  ثم جاءتنى سهير فى زيارة فى منتصف شهر مارس، أخبرتنى بأن يوسف قد أدخل إلى مستشفى المعادى، فى العناية المركزة، بعد أن تدهورت حالته الصحية. وطلبت منى سهير، أن أقوم أنا بإعداد نعى بوفاته - على سبيل الاحتياط، على أن تأخذه معها الآن، وعللت ذلك بأنه لا يوجد فى العائلة من يمكن الاعتماد عليه فى هذا الشأن سواى. وكنا نجلس للزيارة فى حجرة مأمور السجن، الصاغ على نجيب، وكان شخصاً ودوداً كريم الأخلاق، فطلبت منه أن يعطينى فرخاً من الورق، وقلماً وأفهمته الموقف، فوافق دون تردد. ثم استأذن وترك لنا الغرفة خارجاً، وفهمت أنه ذهب لإبلاغ المدير، إبراهيم مصطفى بالأمر، ثم عاد وقد حل على موافقته.
  كتبت النعى وأنا أحبس دموعى، وأعطيته لسهير، فأخذته وهى منصرفه من الزيارة، وعدت أنا إلى زنزانتى دامع العين مثقل القلب بالأحزان. وظللت أتابع بلهفة أخبار يوسف صديق فى الصحف، وكان اللواء إبراهيم مصطفى يتابعها مثلى، ويحدثنى عنها عندما يلقانى فى فناء السجن، أثناء الطابور. وكانإبراهيم مصطفى يعرف يوسف، ويحبه، منذ كان يوسف يأتى لزيارتى فى سجن مصر، قبل ثمانية عشر عاماً.
  فى الصباح الباكر من يوم أول إبريل سنة 1975، وقبل أن تفتح أبواب السجن فى موعدها المعتاد، كنت نائماً فى زنزانتى، حين سمعت لغطاً خارج باب الزنزانة، ثم سمعت مفتاح الباب وهو يدخل فى قفله، وسمعت الباب يفتح، ثم سمعت صوتاً ينادى بصوت خفيض:
 -الأستاذ محمود؟
 قمت من نومى مسرعاً وتوجهت نحو الباب، وهناك رأيت اللواء إبراهيم مصطفى - مدير الليمان - واقفاً أمام الباب، بطوله الفارع، وهو يرتدى بدلته العسكرية، تقدم نحوى مصافحاً وهو يقول:
 -محمود. البقية فى حياتك فى يوسف بك. وأنا آسف لإزعاجك على هذه الصورة، ولكنى تلقيت إشارة من الداخلية، بإخراجك من السجن لتشارك فى تشييع الجنازة ثم تعاد إلى هنا بعدها، وسوف تأتى قوة من المباحث العامة لاصطحابك ثم إعادتك. فاستعد، فإن الوقت سيكون ضيقاً. وعلى كل حال شد حيلك، ولكنى متفائل بأن هذا الحدث الحزين سوف يكون له أثر طيب على قضيتك.
 وانصرف الرجل الشهم، وعدت لاستعد وأرتدى ملابسى المدنية التى كانت موجودة فى حقيبتى.
 بعد أقل من ساعة، أخرجت من السجن بصحبة ثلاثة ضباط، وعدد من المخبرين والجنود، إلى سيارة بيك آب، تتبعها سيارة أخرى للحراسة. وسار بنا الموكب إلى ميدان التحرير.
 حين وصلت إلى مسجد عمر مكرم، كان موكب الجنازة كاملاً وعلى وشك التحرك. كان الموكب يتصدره رئيس الوزراء - عبد العزيز حجازى - واللواء محمد نجيب، وكل أعضاء مجلس قيادة لثورة الأحياء، وكثير من الوزراء ورجال الجيش والداخلية، يتبعهم جميعاً جمهور حاشد من المشيعين، وأمام المشيعين، كانت هناك عربة مدفع تجرها الخيول، وقد وضع عليها نعش ملفوفاً بعلم مصر. أما ميدان التحرير المحيط بالمسجد، فقد كان مزدحماً بالجماهير بشكل غريب، جعلنى أفكر: لماذا جاء هؤلاء لتشيع جنازة رجل مناضل مضطهد، عاش محاصراً طيلة حياته، مضروباً حوله ستار كثيف من التعتيم والتجهيل، لم يتول أى منصب يجعل الناس يعرفونه، ولا يستند فى شهرته وذيوع صيته، إلا على ما فعله فى ليلة واحدة هى ليلة الثورة؟ أليس هذا دليلاً على أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأنه لا يصح إلا الصحيح، وأن الله ولى الصابرين؟.
 أخذتنى قوة الحراسة إلى موقع فى الصف الثانى من المشيعين مباشرة، بحيث كنت أرى كل الموجودين فى الصف الأول، وفى الصفوف التالية، وأرى المشهد المهيب برمته.
  وعزفت الموسيقى العسكرية المصاحبة للموكب، وسار الموكب على وقعها، فاخترق ميدان التحرير، وشارع سليمان باشا (طلعت حرب)، وشارع قر النيل، وكانت كلها غاصة بالجماهير الغفيرة. إلى أن توقف موكب الجنازة أمام مسجد الكخيا، حيث أخذ النعش لصلاة الجنازة عليه داخل المسجد، وكان مقرراً أن يحمل النعش بعد ذلك إلى المدفن المعد بمقابر البساتين.
 وهنا امتدت أيدى ضباط الحراسة، فأمسكت بيدى ثم قادتنى برفق إلى خارج الصفوف، حيث جاءت سيارات الحراسة، وحملتنى عائدا إلى محبسى، فى ليمان أبو زعبل، بعد أن شهدت موقفاً لا يوصف، ولا يتكرر، مهما طالت الحياة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق