ذكريات شاعر مناضل: 12- وكر الأفاعى

12- وكر الأفاعى


  فى مساء ذلك اليوم الذى انتهى فيه مؤتمر السينما، اتصل بى الأستاذ عادل شوقى، مدير مكتب الوزير، وقال لى إن الدكتور - ثروت يطلب منى الحضور لمقابلته. وذهبت.
 كان مزاج الدكتور ثروت عكاشة رائقاً فى هذا المساء، ويبدو أنه كان مسروراً بنجاح مؤتمر السينما. دعانى للجلوس فجلست، وكان إلى جواره منضدة صغيرة عليها جهاز جراموفون يعمل مذيعاً موسيقى كلاسيكية جميلة. انحنى الدكتور ثروت وأوقف الجراموفون، ثم التفت إلى سائلاً:
 -عرفت أنى أصدرت قراراً بتعيينك رئيساً لشركة كوبروفيلم؟  -واجبته:
 -طبعاً عرفت، وأشكر لك ثقتك الكريمة، وأرجو أن يثبت لك أننى جدير بها.
  قال فى لهجة تفصح عن الرضا:
 -طبعاً أنت جدير بها، وفراستى فى الأشخاص نادراً ما تخطئ. وأنا لا أريد أن أهنئك الآن على هذا القرار، سنؤجل التهنئة حتى نرى ماذا ستفعل فى هذا الموقع. وأنا طلبتك لليلة قبل أن تذهب غداً إلى مقر عملك الجديد، فعندى كلام كثير أحب أن أقوله لك الآن.
  أولاً، أريد أن أحذرك من الشخص الذى حللت محله فى هذه الشركة. وهو فتحى إبراهيم، فهو شخص خطير قادر على إلحاق الأذى بك، وهو ناعم كالأفعى. تصور أنه حاول رشوتى منذ ثلاثة أيام. طلب مقابلتى فسمحت له، فدخل يهنئنى بالوزارة وأنا أعلم أنه من أتباع حاتم المقربين. ثم انتقل إلى مدحى ومنافقتى بطريقة سوقية، ثم بدأ يجس نبضى ويمتحن مدى قابليتى للرشوة. فكانت بيده حقيبة سامسونيت جديدة جميلة الشكل، وفوجئت به يقف عن مقعدة ويتقدم بها نحوى قائلاً: دى هدية بسيطة أرجو أن تتقبلها منى عربوناً لولائى ومودتى، إنها شنطة سامسونيت آخر طراز، لم أستعملها بعد، تفضل. نظرت إليه بدهشة واستياء وقلت له بلهجة غاضبة:
 -خللى شنطتك معاك، وأنا عندى شنط سامسونيت كتير، ومن كل الموديلات، ومش محتاج لشنطتك. جلس محبطاً ومرتبكاً، ثم استأذن وقام. وفى اللحظة قررت عزله عن وظيفته. واستطرد الدكتور ثروت قائلاً:
 -معلوماتى عنه أنه رجل سوقى، بدأ حياته بلا سييراً فى سينما كايرو، بشركة فوكس. ثم بدأ يتسلق ويقفز حتى أصبح يحتل موقعاً فى الجهاز الإدارى لتلك الشركة، فى قسم توزيع الأفلام. ثم وصل إلى الدكتور حاتم ودخل إلى زوارقه بالنفاق والوصوليه، إلى أن عينه رئيساً لهذه الشركة. ورغم ما اشاعه هو وأعوانه عن نجاحاته الخارقه، فإن معلوماتى أنه أوصل الشركة إلى حافة الخراب، مادياً وأدبياً. وأعلم أن أنبهك إلى ما سوف يحيط بك من متاعب ومخاطر، فهذا الشخص قادر على إيذائك وإيقاع الضرر بك، ليس كرهاً فيك فقط لأنك حللت محله، ولكن أكثر من ذلك كرهاً لى أنا، ورغبة فى رد الإهانه التى ألحقتهاأنا به بعزله. فخذ حذرك، ولكنى أكرر ثقتى فيك، وأنك قدها وقدو.
  وانصرفت وأنا أتدبر فى هذا الكلام، وفى تلك التحذيرات.
 فى الساعة التاسعة صباحاً دخلت من باب الشقة التى يقع فيها مقر شركة كوبروفيلم بشارع قصر النيل فوق محلات صيدناوى. وكنت انظر غلى أرضية الشقة، خائفاً من وجود ثعابين وعقارب بها. وقابلنى أحد الفراشين، ولم يعرفنى، وسألنى عما أريد، فطلبت منه أن يوصلنى إلى مكتب رئيس الشركة، فأجابنى الرجل:
 -بس هوه مش موجود، فقلت له وأنا أتقدم داخل الشقة:
 -يابنى أنا رئيس الشركة الجديد. فانتفض الرجل معتذراً، وتقدمنى إلى باب الغرفة وفتحها، فدخلت، بينما وقف هو ينتظر الأوامر.
 كانت الغرفة واسعة وأنيقة الأثاث، وكانت تتصل بها غرفة أخرى أكثر أتساعاً، تشغلها منضدة كبية للاجتماعات.
 توجهت إلى المكتب، وجلست على الكرسى الشاغرظن وبدأت أفتح أدراج المكتب، فوجدتها جميعاً خالية تماماً من أى شئ، كما لاحظت أن منضدة المكتب نفسها خالية من أى شئ مما يوضع على المكاتب عادة. وسألت الفراش فقال لى:
 -فتحى بك (رئيس الشركة) جاء صباح أمس، وأخذ كل شئ يخصه من المكتب.
 سألته عن الموظفين، فقال إنهم لم يحضروا بع، وأنهم يحضرون عادة فى الساعة العاشرة، وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة بقليل.
 أول من حضر من الموظفين كانت فتاة، علمت أنها سكرتيرة رئيس الشركة، وكنت أعرفها من قبل إذ كانت سكرتيرة للأستاذ موسى حقى رئيس شركة مصر للتمثيل والسينما عندما كنت أنا مستشاراً قانونياً للشركة. عرفتها ولاحظت أن مظهرها قد تحسن كثيراً عن ذى قبل، وعرفتنى هى طبعاً وبدا على وجهها شئ كالارتياح، إذ كانت تعرف عنى ما يدعوها إلى الأمل فى ألا يصيبها أى مكروه من ناحيتى. وسألتنى وهى تهم بالانصراف:
 -بالنسبة لى يا أستاذ محمود.. أعمل أيه؟ - أجبتها مؤكداً:
 -بالنسبة لك يا إقبال (وكان هذا هو اسمها)، وبالنسبة لغيرك، كل شئ سيسير كما هو. اتفضلى أقعدى على مكتبك وأدى عملك كالمعتاد، وأنا لو عزت منك حاجه ها أقولك.
 وانصرفت إقبال - وبعد دقائق سمعت نقرا على الباب، ورأيتها تدخل وبيدها صينية عليها فنجان من القهوة، وكوب من الماء. وضعتها أمامى وقالت موضحة:
 -أصل فراش البوفيه لسه ما جاش، مظبوط ، مش كده؟
 قلت لها، وقد أدركت رغبتها فى المجاملة:
 -مظبوط يا إقبال - متشكر.
 بعد قليل بدأ الموظفون يتقاطرون على الشركة، وبدأت إقبال تحضرهم إلى وتقدمهم لى :
 -الأستاذ مصطفى السويفى، مدير العلاقات العامة.
 -الأستاذ لطيف فرج - علاقات عامة.
 -الأستاذ فلان: رئيس المستخدمين.
 -الأستاذ يسرى، مدير الشئون المالية.
 - الأستاذ مصطفى عبد اللطيف، رئيس التوزيع.
 -الأستاذ أنيس حامد، مدير الإنتاج.
 إلخ ... إلخ.
 كنت أصافحهم واقفاً، بأدب وأحترام. وكانوا يبادلوننى الأدب والأحترام .. ومر الموقف بسلام. ثم سألت إقبال عن الأستاذ عبد المنعم سيد، المحامى، وكنت أعرف أنه يعمل فى الشركة، وأنه أكبر أعوان فتحى إبراهيم. قالت إقبال فى شئ من الارتباك:
 -الأستاذ عبد المنعم سافر إيطاليا إمبارح. سألتها:
 -ليه؟ فأجابتنى:
 -معرفش والله، ولكن الأستاذ فتحى هو اللى كلفه بالسفرية دى، سألتها:
 -وهايرجع امتى؟ -أجابتنى فى ارتباك:
 -معرفش والله.
 طلبت رئيس المستخدمين، ونبهت عليه بأن يحضر لى جميع ملفات العاملين بالشركة دون استثناء، فقد كنت أريد أن أعرف وضعهم جميعاً وتطور حالتهم فى الشركة، لتكون عندى صورة تقريبية لمدى علاقتهم برئيسها، وذلك من واقع ما تنطوى عليه الملفات من أوراق وقرارات. وأمرته بأن يحضر لى كل هذه الملفات فوراً، وقد كان، فخلال نف ساعة رأيته آتياً ومعه اثنان من الفراشين، يحمل كل منهما حملاً من الملفات، أمرت بوضعها جميعاً على مائدة الاجتماعات فى الغرفة المجاورة. ويبدو أ طلبى للملفات، قد آثار دهشة الموظفين، وخوفهم.
 كما طلبت الأستاذ يسرى، مدير الشئون المالية، وطلبت منه موافاتى ببيان عن المركز المالى للشركة. وحاول التأجيل، ولكنى أمرته بحزم بأن يكون البيان تحت يدى خلال نص ساعة على الأكثر. فانصرف طائعاً، ونفذ الأمر. وجائنى بالبيان، فعرفت منه أن المركز المالى للشركة تحت الصفر بكثير، وأن رصيدها لدى البنك مدين بمبلغ كبير، بعد نفاذ كل رصيدها الدائن واضطرارها إلى السحب على المكشوف بما يوازى رأسمالها الأصلى. وسلمت البيان إلى السكرتيرة لتصويره عشرة نسخ، ووضعت نسختين منهما فى مظروف أغلقته وكتبت عليه: سرى وعاجل، لعناية السيد الدكتور نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافة، ثم كلمت عادل شوقى تليفونياً وطلبت منه أن يرسل لى سيارة من الوزارة بسائقها، لأرسل معه رسالة هامة للوزير، وأفهمته موضوعها، وذكرت له بأنه ليس عندى حالياً من أثق فيه لأرسلها معه. وبعد نصف ساعة حضر سائق الوزير بسيارة الوزير، فسلمته المظروف وانصرف به.
 بعد قليل اتصلت بى المؤسسة، وكانت قد اتخذت لها مقراً مؤقتاً بشارع طلعت حرب، وكلمنى الأستاذ نجيب محفوظ، وقال لى إن مجلس إدارة المؤسسة سيجتمع مساء اليوم لاول مرة - وأنى عضو فيه بصفتى رئيساً لشركة كوبروفيلم، وهو يريد أن يكون الاجتماع عندى مساء نفس اليوم، واتفقنا على ذلك.
  ثم جاءتنى إقبال - السكرتيرة، وأخبرتنى بوجود شخص أجنبى يريد مقابلتى، فسمحت له بالدخول، فحضر ومعه شخص مصرى مترجم، وعلمت أن الزائر مندوب عن شركة إيطالية كان فتحى إبراهيم قد تعاقد معها على إنتاج فيلم مشترك، وأنه كان مقرراً أن يبدأ إنتاج لفيلم فى أول شهر نوفمير، بمصر، وكنا فى أواخر شهر أكتوبر، وطلبت ملف الموضوع وألقيت نظرة عليه فتحققت من صحة ما قاله الرجل. فاعت>رت له، وقلت له إننى أنا الرئيس الجديد للشركة، وأن هذا أول يوم لاستلامى العمل بها، ثم طلبت منه تأجيل الحديث فى الموضوع لمدة شهر، حتى يمكننى دراسة الموضوع، وتحديد موقفى منه. وتفهم الرجل موقفى، وانصرف على أن يعاود الحضور فى أواسط الشهر القادم. وكنت قد فهمت أن عقد الاتفاق بيننا وبين تلك الشركة، يقضى بأن تتحمل شركتنا كل مصروفات الإنتاج التى تنفق فى مصر، وأنها - وفقاً للميزانية التقديرية لا تقل عن سبعين ألف جنيه.
 وبمناسبة هذا الموضوع، علمت بأن هناك فيلماً آخر، مفروض أن يبدأ الإنتاج فيه - مع شريك إيطالى آخر، فى وقت قريب، وطلبت ملفه، وعلمت منه أن الموقف مماثل، وأن المبلغ المطلوب منا لهذا الإنتاج هو أكثر من الفيلم الأول بكثير.
 اتصل بى مكتب الوزير، وكلمنى الدكتور ثروت منزعجاً مما جاء فى بيان المركز المالى للشركة، ثم سألنى:
 -وماذا ستفعل فى هذه المصيبة؟ فأجبته:
 -الله ، وسعادتك - المستعانان عليها، ثم أضفت:
 -ولكن المشكلة الكبيرة هى أنه ليس لدينا ما ندفع منه مرتبات العاملين بالشركة، فى أول الشهر، أى بعد أيام، كما أن هناك مصائب أكبر، سوف أعرضها على سيادتك عندما أراك. فأجاب:
 -إذن فلتحضر إلى الليلة. اعتذرت له بأن مجلس المؤسسة سينعقد عندى فى تلك الليلة. فوافق على أن يكون لقاؤنا فى صباح الغد. ثم قال:
 -وسأكون فى انتظارك قبل موعد بدأ العمل، لأسمع منك عن كل المصائب.
 فى المساء حضر الأستاذ نجيب محفوظ، ومعه الأستاذ محمد لمعى، المدير العام الجديد للمؤسسة، ثم تقاطر بعدهما بقية أعضاء المجلس، وكانوا: يوسف صلاح الدين - رئيس شركة التوزيع، ومحمد الدسوقى - رئيس شركة دور العرض، وسعد وهبة - رئيس شركة فيلمنتاج، والمهندس - عرفة الزيان، رئيس شركة الأستوديوهات، وجمال الليثى - رئيس شركة القاهرة للإنتاج.
 والتفت الجميع حول مائدة الاجتماع، وتكلم نجيب محفوظ، فهنأنى على وظيفتى الجديدة، وتمنى لى النجاح والتوفيق. ثم سألنى:
 -نريد جميعاً أن نعرف، الوضع المالى لشركة كوبروفيلم. فما هو هذا الوضع؟ أجبته:
 -لحظة واحدة، ثم ناديت على الموظف مصطفى السويفى، وطلبت منه أن يقوم بتوزيع نسخ من بيان المركز المالى على كل المجتمعين ففعل: وصاح نجيب محفوظ بعد أن أطلع على الورقة:
 -يادى المصيبة، إن المؤسسة مفلسة، وجميع شركاتها فى أسوأ حالة من الناحية المالية، وبصراحة - نحن قد أتينا إلى هنا ونحن متأكدون أن كوبروفيلم مليئة بالأموال، وأننا سنأخذ منها ما نحتاج إليه. وها نحن نواجه واقعاً لم نكن نتصوره بأى حال.
 قلت له:
 -الأرقام لا تكذب، وها هو البيان الرسمى يؤكد ذلك - خدعوك فقالوا:
 وصاح محمد الدسوقى قائلاً:
 -يافرحة ما تمت. وأضاف سعد وهبة:
 -لو كان فيها خير ماكانش رماها الطير.
 وانطفأ الحماس الذى كان الاجتماع قد بدأ به، وأكمل نجيب محفوظ عرض جدول الأعمال. ومضى الاجتماع على استعجال، إلى أن انفض، فنهض الجميع منصرفين.
 ذهبت إلى مكتب الدكتور ثروت عكاشة، فوجدته هناك، وأدخلونى على الفور. وما أن جلست حتى سألنى:
-هيه - البيان ده صحيح؟ فأجبته بالإيجاب، ثم أخبرته عما حدث فى اجتماع مجلس إدارة المؤسسة مساء أمس، فأغرق فى الضحك. ثم قال:
 -هذه هى مؤسسة السينما التى تركها لى الدكتور حاتك، مجرد خرابه. فعلاً، لو كان فيها خير ماكانش رماها الطير.
 ثم رويت له عن قصة الرجل الإيطالى الذى جاء يطلب بدأ العمل فى إنتاج الفيلم المشترك، والمبلغ المطلوب لذلك، وحكيت له أيضاً عن قصة الفيلم الآخر. فاستشاط غضباً ثم سألنى:
 -وماذا لو رفضنا تنفيذ العقدين؟
 قله له:
 -من حسن الحظ أننى محامى، وقد قرأت عقدى الفيلمين، ويمكننا طبعاً أن نرفض تنفيذهما، ولكن سيكون علينا أن نتحمل العواقب، سألنى:
 -وما هى هذه العواقب؟ قلت له:
 -سيفرح الإيطاليون، وسوف يسرعون إلى مقاضاتنا أما المحاكم الإيطالية، وسيحصلون طبعاً على أحكام ضدنا وضد الحكومة المصرية بملايين الجنيهات، وسوف يحجوزن على جميع مستحقاتنا عن الأفلام العشرة السابق إنتاجها.. أجاب الدكتور ثروت بقلق:
 -يادى المصيبة، فهل سنكون مضطرين لإنتاج الفيلمين؟ فأجبته آسفاً:
 -نعم، ماذا وإلا. فعلق وهو يضرب كفاً بكف:
 -وما العمل؟ من أين سنحصل على هذه الأموال، وعلى المرتبات المطلوبة بعد أيام؟ ثم ابتسم وقال:
 -عندى فكرة، إيه رأيك أنك تتصل بفتحى إبراهيم وتسأله، كان هيعمل إيه لو لو كان لسه مطرحه؟ كان هايقول إيه؟
 قلت له:
 -ماكانش ها يقول حاجة. كان هايضحك وبس. فأجاب الدكتور ثروت:
 -فعلاً، كان هايفتكرك يتهزر معاه.
 وقال لى الدكتور ثروت قبل أن أنصرف:
 -سأحاول تدبير المبالغ المطلوبة - عن طريق الدولة طبعاً، وأما بالنسبة للمرتبات وغيرها من المطالب العاجله، فسوف أتصل بالبنك الأهلى ليفتحوا لك اعتماداً بمبلغ خمسين ألف جنيه. فما رأيك. فأجبته شاكراً:
 -رضا، ربنا يخليك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق