ذكريات شاعر مناضل: 27- أنسام الحرية

27- أنسام الحرية


  بعد يومين من خروجى من ليمان أبو زعبل، عدت إليه - زائراً هذه المرة، كنت قد وعدت زملائى هناك عند خروجى بالعودة إليهم فى زيارة قريبة. وأخذت لهم معى وجبة كبيرة شهية، كمية كبيرة من لحم الضأن المطبوخ مع البامية الخضراء، وضعتها فى طاسات عمودين كبيرى الحجم، وسبتا كبيراً من الموز والبرتقال، وترمساً كبيراً مليئاً بمشروب البيرة المثلجة. وقد سمح لى الصاغ على نجيب - مأمور السجن، بإدخال هذه الأشياء. وبالدخول لقضاء بعض الوقت مع الزملاء.
 جلست معهم جميعاً فى ركن من الفناء، كنا قد غرسنا به حديقة جميلة عامرة بمسطحات النجيل الأخضر، وأحواض الزهور اليانعة البهيجة، وكانت تتوسطها فسقية جميلة صممها وأنشأها الزميل عصام - فوزى حبشى، الذى كان مولعاً بتعمير السجون التى يسجن فيها بالمنشئات المدنية الجميلة، وكان هو الذى أقام مسجداً فى سجن المحاريق بالواحات، سمى بمسجد الشيوعيين،رغم أنه هو كان مسيحياً، وقد بقى ذلك المسجد فى مكانه إلى حين إغلاق ذلك السجن، وكان يؤمه كل المسجونين بما فيهم المسجونون من الإخوان المسلمين وغيرهم. وكان المعروف أيضاً أن المهندس - الزميل - فوزى حبشى. كان قد أقام فى سجن المحاريق أيضاً مسرحاً رومانياً. وهو المسرح الذى قدم عليه العبقريان: صلاح حافظ، وألفريد فرج، مجموعة من العروض المسرحية الموموقة، التى كان يؤمها إلى جانب المسجونين الشيوعيين، كثير من المسجونين العاديين، وقوات الحراسة،وضباط السجن.
  أمضيت مع الزملاء جميعاً فترة الطابور الصباحى، جلست بينهم نتحادث، وأطلعتهم على وجهة النظر التى كنت قد انتهيت إليها بمناسبة الإفراج عنى، وهى أن القضية كلها ستصفى قريباً، خاصة بعد أن أتضح للجهات القضائية هزال القضية وضعفها من الناحية القانونية. استطعت أن اعقد اجتماعاً قصيراً مع المجموعة القيادية فى السجن: ناشد - زكى مراد، وإبراهيم - مبارك عبده فضل، وعاصم - رشدى أبو الحسن، وعصام - فوزى حبشى، إذ انتحينا معاً - أنا وهم - جانباً من الحديقة، استطعنا فيه أن نتبادل بعض الأحاديث الهامة العاجلة. ثم حان وقت خروجى من السجن، بعد أن ظهر المأمور- على نجيب فى الفناء، بما يفيد ضرورة خروجى، وانتهاء هذه الزيارة العجيبة.
 الزيارة الأخرى - الأعجب، كانت زيارتى لمنزل زميلنا: سالم، أو سعد كامل، فى شقته بشارع سليمان جوهر فى الدقى. كان سعد كامل متهماً هو الآخر فى قضيتنا، ولكنه كان قد تمكن من الهرب قبل القبض عليه، ولم أكن أعرف مكان اختفائه. لذلك فقد توجهت إلى منزله لمقابلة زوجتة: مارى، للسؤال عن سعد، والاطمئنان على أحوال زوجته وبنتية: نادية، ودينا. قابلتنى مارى بسرور، وجلست معى نتناول الشاى الذى قدمته لى، وعندما سألتها عن أحوال سعد صمتت برهة، ثم فاجأتنى بالسؤال:
  - عايز تشوفه؟
 فلما أجبتها بالإيجاب، وأنا فى دهشة من أمرها، استأذنت منى للدخول إلى داخل المنزل، ثم عادت بعد برهة وهى تدعونى إلى اتباعها. دخلت إلى غرفة نومهما، ودخلت وراءها، ففوجئت بسعد - الهارب - جالساً أمامى على أريكة فى ركن الحجرة، أمام السرير. أصابتنى الدهشة وأنا أنظر إليه. كان شاحب الوجه، طويل اللحية. تعانقنا، وجلست، فى مواجهته، وبدأ هو الحديث مفسراً موقفه. قال:
 وأنا هنا لم أغادر هذه الغرفة منذ ليلة 2 يناير حتى الآن، 14 مايو، هربت من الاعتقال، ولم أهرب، فى نفس الوقت. كنت أتوقع قدوم البوليس فى تلك الليلة، وسمعت وقع أقدامهم وهم يصعدون على سلم المنزل، إلى أن بدأوا يطرقون الباب بطريقتهم المعروفة. فكرت لحظة ماذا أفعل، كنت أريد أن أهرب، ولكن لم يكن هناك وقت للهرب، ولم أكن أعرف إلى أين أذهب، حتى ولو تمكنت من الهرب. وفجأة لمعت فى ذهنى فكرة غريبة، وجنونية أن أختبئ فى غرفة نومى وتحت السرير، على أمل ألا يخطر بال رجال المباحث مكان اختفائى. واستطعت أن أهمس إلى مارى بذلك، ودخلت الحجرة فعلاً، بينما كانت هى تفتح لهم الباب. سألوا عنى فأجبتهم مارى بأننى لست موجوداً، وأننى سافرت إلى عزبة العائلة بالفيوم. خالت عليهم الحيلة، ودخلوا ففتشوا كل الشقة تفتيشاً عاجلاً سطحياً،وركزوا اهتمامهم على حجرة مكتبى بحثاً عن أوراق تتصل بالنشاط الشيوعى. وحتى هذه لم يجدوها. فانصرفوا. منذ تلك اللحظه وأنا مختبئ فى حجرة نومى، آكل وأشرب وأقرأ وأنام فيها، وأذهب منها إلى الحمام القريب، فإذا شعرت بأى شئ يثير ريبتى، أقفز إلى مخبئى : تحت السرير.
 ضحكت لما أنطوى عليه الموقف من الفكاهة، ورثبت لسعد وما كابده من معاناة فى هذا الموقف، لمدة زادت على أربعة شهور. وكنت أعرف - من واقع تجربتى السابقة، أن تجربة السجن، هى أخف وطأة بمراحل، من تجربة الهروب، وما تنطوى عليه من مأزق ومتاعب. ولكن تجربة سعد هذه، كانت تجربة فريدة، وأكثر مشقة من مجرد الهروب، خصوصاً مع شخص مثل سعد: شديد الحساسية والعصبية.
  تداولنا - أنا وسعد، فى الموقف الراهن، وانتهينا إلى ضرورة أن يغادر هو هذا المخبأ، ويلجأ إلى مكان آخر. واتفقنا على أن يذهب مع شقيقه عز الدين كامل، إلى أحد المصايف، لكى يستطيع أن يشم نفسه، بعيداً عن هذا الجو الخانق، واتفقنا على الترتيبات اللزمة لذلك.
 وبالفعل، بعد أسبوعين، وبالاتفاق مع عز الدين، ذهبت لزيارة سعد فى فيللا صغيرة بجهة العجمى - بالإسكندرية - كان يعيش فيها مع عز وزوجته بهيرة، وينعم فيها بالشمس والهواء الطلق، ويأكل التين العجمى الذى كانت تجود به الأشجار البرية المنتشرة فى تلك المنطقة. وكانت حالة سعد قد تحسنت كثيراً، حالته الصحية والنفسية، والعصبية. وتحدثنا طويلاً، وتداولنا فى الخطوات القادمة.
  قمت بطبيعة الحال بالعديد من الزيارات لعائلية، زرت فيها شقيقاتى وأقاربى، وشكرت لهم ما أبدوه من اهمتام بى وبأسرتى أثناء سجنى، ولقيت منهم ما اعتدت على أن ألقاه منهم من المودة وكرم الضيافة. وحظيت بمودة واهتمام العديد من الأصدقاء والإخوة.
 دعانى الصديق العزيز سعد مكاوى - الذى كان قد عين رئيساً لؤسسة المسرح، إلى نزهة نيلية فى سفينة شراعية مجهزة للرحلات، دعانى أنا وزوجتى كما دعا صديقنا العزيز - عبد الرحمن الشرقاوى، وحرمه، وكانت مع سعد زوجتة بهيجة، كما كان معه صهيرة الكابتن مصطفى البطران - الرياضى المعروف، وحرمه زيزى، وكان مصطفى هو الذى نظم هذه الرحلة بما عهد فيه من براعة فى هذه الأمور وكانت سهير ترتدى ثياب الحداد على والدها، وقد ساعدت هذه الرحلة على التسرية عنها. وكانت رحلة جميلة، فالسماء كانت مقمرة وهواء النيل جميلاً، وكان هناك شواء، وشراب، وأحاديث طيبة مؤنسة.
 وزرت عبد الرحمن الشرقاوى فى مكتبه، إذ كان قد عين رئيساً لمجلس إدارة دار روز اليوسف، وشكرته هو والصديق صلاح حافظ، على ما أبدياه من شهامة وشجاعة فى الوقوف معنا فى تلك القضية - الملفقة.
 ...
 وأخيراً، فقد قمت بزيارة إلى مؤسسة السينما بالهرم، وكان المهندس محمد الدسوقى الذى كانت تربطنى به علاقة ودية قديمة، قد عين رئيساً لها، بعد وفاة السحار، وسيد بدير على التوالى.
 زرته فى مكتبه، مكتب رئيس الهيئة،فقابلنى بترحاب وحفاوة، ووقف يصافحنى، وكان بادياً أنه لم يعرف بأخبار اعتقالى إلا مؤخراً، قال فى لهجة بين المزاح والجدية:
 إيه يا محمود الحكاية دى؟ هوه انت يسارى صحيح؟
 فأجبته:
 أيوه أنا يسارى.
 فبادرنى بقوله:
 -طب وليه تبقى يسارى؟ ماتخليك يمينى أحسن!
 ثم أضاف:
 -ما هى الحكاية محصلة بعضها. اليسارى واليمينى حاجه واحدة، المسألة تتوقف على وجهة النظر. ثم قال وهو يستدير فى موقفه:
 -بص..الشباك اللى هناك دلوقت على شمالى - ثم أضاف وهو يستدير..
 -بص..دلوقت نفس الشباك بقى على يمينى. يعنى اللى كان يسارى بقى يمينى..كده ولا لأ؟
 أجبته ضاحكاً:
 -معاك حق..أفكر فى الحكاية دى.
 ثم انتقلت إلى حديث أكثر جدية، فأبلغته تعزيتى له فى وفاة خالته
 -أم كلثوم، ومدى حزنى عليها. فشكرنى وعيناه تدمعان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق