ذكريات شاعر مناضل: 6- التجربة والخطأ

6- التجربة والخطأ


  لم يطل بقائى عضواً بمجلس إدارة "شركة مصلا للتمثيل والسينما"، إذ لم يطل بقاء مجلس الإدارة نفسه، ولابقاء الشركة ذاتها. لم أحضر إلا اجتماعين آخرين لمجلس الإدارة، وعرضت فيهما بعض "المسائل الجارية"، بمناسبة بدء عرض وتوزيع فيلم وا إسلاماه، ومتابعة شئون العرض والتوزيع للأفلام الأخرى التى سبق للشركة إنتاجها. أربعة شهور فقط ثم فوجئت - أنا والآخرين، بخبر فصل الشركة عن بنك مصر. وحل مجلس إدارتها - وأنا ضمنه - وإلحاق الشركة بما يسمى "بالمؤسسة الاقتصادية" التى أنشئت حديثاً لتكون أداة النظام فى تحقيق سياسته الجديدة فى المجال الاقتصادى، وكان يرأسها شخص يدعى "حلمى السعيد"، كان أصلاً من ضباط الجيش، ثم تم توجيهه للعمل فى الحقل الاقتصادى. ولم أكن أعرف هذا الشخص، ولا أعرف من يعرفه.
 ترتب على ذلك، فيما ترتب، انقطاع المورد المالى الذى كنت أتلقاه فى صورة السلفة الشهرية التى كان يصرفها لى البنك تحت حساب المكافأة السنوية التى كانت مقررة لى. فكرت فى مقابلة أحمد فؤاد لعرض الموقف عليه، ولكنى استحيت أن أعمل ذلك، إذ أدركت أنه لابد قد عرف بما حدث، وأنه ليس فى يده شئ بعد أن انقطعت صله الشركة بالبنك.
 كانت البلاد قد دخلت مرحلة جديدة من مراحل الاضطراب الاقتصادى والاجتماعى، فى ظل شعار "التجربة والخطأ"، الذى كان النظام يرفعة للتعبير عن فلسفته فى إدارة الكثير من شئون البلاد، بطريقة عشوائية بعيدة عن النظرة العلمية، والخبرات المتراكمة. والذى كان فى الواقع هو النهج الملائم لقدرات الضباط الحاكمين. وكانت تلك هى بداية مرحلة التدخل الذى تبناه النظام فى الحياة الاقتصادية فى ظل سياسات التمصير، ثم التأميم.
 حاولت التأقلم مع الوضع الجديد، بالعمل على خفض المصروفات بقدر الإمكان، والسعى إلى تنشيط العمل فى مجال المحاماه. وكان سعد كامل قد وفق فى الالتحاق بالعمل الحفى، محرراً فى جريدة الأخبار، ومع ذلك فقد وفق فى إيجاد مقر جديد للمكتب، بدلاً من عمارة استراند، وهو المكتب القديم لخاله الأستاذ فتحى رضوان، برقم 37 بشارع الساحة. وكان المكتب مغلقاً منذ سنوات منذ عين فتحى وزيراً فى عهد الثورة، وكانت لافتة فتحر رضوان المحامى بالنقض، مازالت معلقة على باب الشقة، وبجوارها لافتة أخرى باسم: أحمد مرزوق - بيت الرياضة، وعلمت أن فتحى كان قد أشرك أحمد مرزوق فى استعمال الشقة، وأن مروزق هو الذى كان يدفع إيجارها - الزهيد - مقابل استعماله لها فى بعض شئونه التجارية، فى قليل من الأحيان. وكانت الشقة تتكون من ثلاث غرف وصالة والمرافق، وقد تم الاتفاق بين سعد وبين مرزوق، على أن نترك له غرفة بها حاجاته، وأن نختص، أنا وسعد بالغرفتين الأخريين، لكل منا واحدة منهما. وتم تنفيذ ذلك الاتفاق، ونقلنا أغراضنا من عمارة ستراند إلى المقر الجديد، فى العمارة رقم 37 شارع الساحة (أيضاً). وهكذا استطعنا أن نوفر إيجار شقة المكتب، بل إن وجود مرزوق معنا كان يبشر بدخول مورد جديد، من القضايا والأشغال القضائية الخاصة بأحمد مرزوق، خلافاً لأنه هو الذى كان سيتحمل وحده بالإيجار.
 وكان سعد كامل قد نجح منذ فترة فى استصدار قرار بإسقاط عقوبة المراقبة عنه، فبدأ ينتظم فى الحضور ليلاً إلى المكتب فى بعض الأيام، أما العمل الفعلى للمكتب - وهو عمل المحاماة - فكنت أنا المنوط به، وكنا نتقاسم ما يدره المكتب من موارد بالتراضى بيننا، مع مراعاة زيادة نصيبى من العمل، وزيادة أعبائى العائلية. وبدأت الامور تسير مرة أخرى.
 كان الدكتور ثروت عكاشة قد أصبح وزيراً للثقافة ( فى المرة الأولى). وكانت لسعد صلة طيبة به. وذات يوم أخبرنى سعد أن الدكتور ثروت لديه مشروع لإنتاج أفلام سينمائية للأطفال، بالإضافة إلى اهتمامه أصلاً بالأفلام التسجيلية، لأنه يدرك أهميتها الفنية والثقافية، كما يعرف أن القطاع الخاص لا يهتم بإنتاج تلك الأفلام، التى لا تدر له عائداً من إنتاجها. وأخبرنى سعد أن الوزير سوف يعقد اجتماعاً لبعض السينمائيين، لمناقشة هذين الأمرين، وأننى مدعو لحضور هذا الاجتماع، بصفتى شاعراً وأديباً، وبصفتى سينمائياً، وأن ذلك تم بناء على ترشيح سعد لاسمى. وأبلغنى سعد بموعد الاجتماع.
 ذهبت إلى هذا الاجتماع، بمقر وزارة الثقافة المؤقت، بسراى عابدين، وكان سعد حاضراً، وكذلك كل من: أحمد كامل مرسى (المخرج الكبير)، وعبد القادر التلمسانى (المخرج التسجيلى)، وصلاح التهامى - المخرج، والأديب أحمد لطفى، ونفر آخر من الأدباء والسينمائيين. وبعد أن تجمعنا، دعينا إلى قاعة كبيرة تتوسطها مائدة كبيرة للاجتماعات.
 دخل الوزير، وجلس على رأس المائدة، وحيانا، ودعا كلاً منا أن يعرف بنفسه. وعندما جاء دورى، ذكرت اسمى فقط، فهز الوزير رأسه، وعلمت أنه يعرف عنى.
 وبدأ الوزير يتكلم، فشرح لنا رأيه فى أهمية هذا المشروع الصغير الذى يدعونا إلى المشاركة فيه اليوم، أفلام الأطفال، والأفلام التسجيلية. أيدنا جميعاً هذه الفكرة، وسألنا الوزير عما إذا كانت لدينا أفكار واقتراحات محددة عن أفلام من هذا النوع: أطفال وتسجيلية. وأدلى الجميع بدلوهم فى هذا الصدد، وعندما جاء دورى، قلت إن لدى فكرة عن إنتاج فيلم روائى قصير للأطفال، وعن الأطفال، ثم شرحت موضوعه باختصار، فتحمس له الوزير، كما تحمس له الأستاذ عبد القادر التلمسانى، وتم الاتفاق على أن أقوم أنا بكتابة نص الفيلم، على أن يقوم عبد القادر بإخراجه، كما تم الاتفاق على أفلام أطفال وأفلام تسجيلية أخرى، تعهد بها الآخرون. وبدأنا العمل.
 كان ذلك هو فيلم "الأخوان الصديقان" وكانت فكرة الفيلم تدور حول أهمية وجود الجاموسة فى حياة الفلاح الفقير. وفى تلك الأيام كانت هيئة الإصلاح الزراعى قد تبنت مشروعاً لتمليك الفلاحين المعدمين، الذين لم يتسلموا أرضاً من الإصلاح، جاموسة "عشاراً"، لتكون مصدر دخل لهم ولعائلاتهم، وكنت بصفتى من أبناء الريف، أقدر هذا المشروع وأعرف معنى وجود الجاموسة فى حياة فقراء الريف، فهى مصدر طعامهم من اللبن والجبن والزبد، ومصدر دخلهم من ثمن فائض ما يبيعونه من هذه المتجات، بل وأعرف أهمية روث الجاموسة للفلاح، من حيث أنه مصدر الوقود الذى يطهو عليه طعامه، أو يخبز عليه خبزه، وقد يبيعه لينتفع بثمنه. هذا فضلاً عن ثمن العجل أو العجلة التى تلدها الجاموسة من حين لآخر، والذى يمثل رزقاً طيباً للفلاح.
 وكانت القصة تدور حول أرملة فلاحة فقرية، مات زوجها وتركها بلا عائل ولا مال، هى وابنها البالغ من العمر اثنى عشر عاماً، يذهب إلى الكتاب ليحفظ القرآن، وابنة فى العاشرة من عمرها، تلازم أمها لتساعدها فى أى عمل تقوم به. وتصف القصة فقر وشقاء هذه العائلة، واضطرار الأم إلى العمل المضنى فى الحقول حتى تكفل لنفسها ولولديها الحد الأدنى من أسباب العيش، إلى أن تسقط فريسة للمرض الذى يقعدها عن العمل. وفى هذا الوقت، يعرض أحمد السماسرة على المرأة أن ترسل بابنتها الطفلة إلى البندر لتعمل خادمة فى أحد البيوت - وما أدراك ما حال الخادمة الصغيرة فى بيت فى البندر - وذلك مقابل جنية واحد فى الشهر، يكفل للأم وابنها أدنى حد من المعيشة. وتوافق المرأة - دامعة العين - على هذا العرض، ويحزن الفتى ويغضب، إشفاقاً على شقيقته الصغيرة من هذا المصير، خاصة وقد كان بينه وبينها - إلى جانب صلة الأخوة - علاقة صداقة ومودة قوية. وتذهب الطفلة الصغيرة غلى مصيرها المحتوم، وتسقط الأم والأخ فى بئر من الأحزان.
 وأخيراً يبتسم القدر للأسرة البائسة، ويتقرر إعطاؤها جاموسة من الإصلاح الزراعى لتقوم هى برعايتها، وتقوم الجاموسة بدورها بكفالة حياة هذه الأسرة. وتعود الطفلة إلى أسرتها، وتبدأ الأسرة فى مزاولة حياة جديدة، بها بعض الأمان، وبعض الكرامة، بفضل هذه الجاموسة.
 أعجبت القصة حيت كتبتها، الوزير ثروت عكاشة، واعتبرها مثلاً من الأمثلة على الأدب والفن المعبر عن روح الثورة. وتمسك عبد القادر التلمسانى بإخراجها، على أن يقوم حسن التلمسانى - شقيقة - بتصوير الفيلم، وكانت بينى وبينهما معرفة وصداقة وثيقة وقديمة.
 كتبت السيناريو والحوار فى أسبوع واحد، وخلال الأسبوعين التاليين، تم إخراج وتصوير الفيلم وأصبح جاهزاً للعرض. وراه ثروت عكاشة، وأعجب به وأجازه، وكان هو الفيلم الوحيد الذى تم إنتاجه من مجموعة الأفلام القصيرة، الروائية والتسجيلية، التى كان متفقاً عليها، أما باقى الأفلام، فكانت قد تأخرت أو تعثرت - لسبب أو آخر.
 تقاضيت أجرى من القصة والسيناريو والحوار لفيلم "الإخوان الصديقان" مبلغ خمسمائة جنيه، قبضتها نقداً وعداً من المؤسسة العامة لدعم السينما، التى كان ثروت عكاشة قد أسسها، والتى كان يرأسها نجيب محفوظ. وجاءت تلك النقود فى وقتها، بعد أن كانت السلفة التى يصرفها لى بنك مصر قد توقفت.
 على أن أكبر أجر تلقيته عن هذا العمل، لم يكن هو النقود، بل كان هو صلة المودة التى نشأت بينى وبين الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة، والثقة التى أصبح يوليها لى، ولعب الزميل والصديق سعد كامل، دوراً كبيراً فى تعزيزها، إذ كانت بينه وبين ثروت عكاشة صلة طيبة، عن طريق الدكتور أحمد عكاشة، شقيق ثروت، وزميل الدراسة لسعد كامل فى مدرسة السعيدية الثانوية.
 ...
 كانت عجلة سياسة التجربة والخطأ قد دارت مرة أخرى، فقامت بفصل شركة مصر للتمثيل والسينما ثانية عن المؤسسة الاقتصادية، بعد أن تبين خطأ ضمها إليها، ورؤى ضمها إلى وزارة الثقافة، تحت مظلة مؤسسة جديدة للسينما، حلت محل مؤسسة دعم السينما، ويرأسها نجيب محفوظ أيضاً، على أن يتولى هذه المؤسسة الجديدة، الإشراف على كافة نواحى النشاط السينمائى، من صناعى - يتمثل فى الأستوديوهات والمعامل، وإنتاجى - يتمثل فى شركات ثلاثة للإنتاج السينمائى - وتوزيعى - يتمثل فى شركة للتوزيع ودور العرض، وفى تلك المرحلة، انشغل الدكتور ثروت عكاشة، بالعمل على تطبيق هذا التنظيم وكفالة أسباب نجاحه، بما فى ذلك حشد العناصر البشرية للعمل فى كل هذه المجالات.
 وعلم الدكتور ثروت من سعد كامل قصتى مع شركة مصر للتمثيل والسينما، وكانت قد حلت محلها فى التنظيم الجديد - شركة مصر للأستوديوهات السينمائية، وكان قد عين لإدارتها - المحاسب موسى حقى - شقيق الأديب الكبير يحيى حقى، الذى كان من معاونى الدكتور ثروت فى وزارة الثقافة، فأصدر أمره إلى موسى حقى بالاتصال بى، والاتفاق معى على أن اعمل معه فى الشركة الجديدة.
 اتصل بى موسى حقى، وذهبت لمقابلته فى مكتب رئيس الشركة باستوديو مصر، وكان هو ذات المكتب الذى كان يشغله محمد رجائى من قبل.
 كان موسى حقى رجلاً قصير القامة، وكان أحدب الظهر، ولكنه كان جميل الوجه أزرق العينين، ولم يكن هناك ما يربطه بشقيقة يحيى حقى إلا قصر القامة، فكل ما عدا ذلك بينهما يختلف. وكان موسى حاد الذكاء، ذرب اللسان. وقد علمت فيما بعد أنه كانت بينه وبين محمد رجائى غيرة شديدة، ومودة مفقودة، إذ كان يعمل مع رجائى فى شركة مصر للتمثيل والسينما مديراً للشئون المالية، أى أنه كان مرءوساً له. وها هو الآن أصبح بديلاً له وقال لى إن الشركة قد تغير نظامها الأساسى، ولم يعد لها مجلس إدراة، إذ عين هو رئيساً لها بدون مجلس إدراة، وهذا نظام جديد ابتدعته الثورة مؤخراً. وعلى ذلك فإنه لا يمكن تعيينى عضواً بمجلس الإدارة، ولكن الشركة الجديدة فى حاجى إلى جهودى، وهذه أيضاً رغبة الوزير، وسألنى:
 -ماذا تقترح أن يكون وضعك فى الشركة، وعملك بها؟ وأجبته:
 -أقترح أن أكون مستشاراً قانونياً، غير متفرغ. فتفكر قليلاً ثم قال:
 -مستشار قانونى، كويس، ولكن غير متفرغ هذه، لا تناسب الشركة. ما رأيك أن تكون مستشاراً قانونياً متفرغاً؟ سكت قليلاً ثم قلت:
 -إن لى مكتباً أتعيش منه، وأخشى إن أنا أغلقته أن أثقل عليكم فى مرتبى. فقطاعنى قائلاً:
 - سنعطيك المرتب الذى يكفيك، ولكن مع استعمال الرأفة. ماذا تطلب؟ قلت له من غير تدبر:
 -مائة جنية شهرياً - غير أجرة المواصلات أو تدبر لى الشركة سيارة. بدا عليه الانزعاج فهب واقفاً من مقعدة، وقال:
 مائة جنيه، هذا رقم لم تعرفه الركة من قبل، ولا يوجد فى العاملين بها من يتقاضى أكثر من نصف هذا المبلغ.
 وكان موسى خبيثاً، فقد علمت فيما بعد أنه يتقاضى مائتى جنيه شهرياً، ولكنه أراد أن يحتفظ بمسافة كبيرة بين وضعى ووضعه، وكان ذلك من الأمور التى باتت مرعية فى تلك لأيام فى تحديد مكانه وسلطات العاملين فى مختلف مرافق الدولة: الربط بين الوضع المالى للشخص، وبين مدى سلطته ونفوذه. قلت له:
 -يمكن تخفيض هذا المبلغ إذا لم أكن متفرغاً للعمل بالشركة. فى هذه الحالة سأترك لكم أنتم تحديد المرتب، على أن أحضر إلى الشركة مرة واحدة أو مرتين فى الأسبوع، للنظر وإبداء الرأى فى المسائل القانونيى التى تعرض لها.
 قال بعناد:
 -لا .. التفرغ.
 قلت بعناد:
 -ميت جنيه.
 ووافق على مضض، وكأنه سيقطع هذا المبلغ من جلده.
 واتفقنا وأكدت عليه أن يكون انتقالى من الشركة وإليها، بسيارة من سيارات الشركة. وحررنا عقداً بذلك، وانصرفت وأنا مستشار قانونى لتلك الشركة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق