ذكريات شاعر مناضل: 15- مزيد من الجهد..

15- مزيد من الجهد..

  ماكدنا نقترب من نهاية أعمال الإنتاج فى فيلمى "كيف سرقنا القنبلة الذرية"، و"أوب الهول الزجاجى"، حتى بدأت بشائر أعمال أخرى تتوالى علينا، من حيث لا ندرى ولا نحتسب.
 بدأت هذه البشائر بمشرةع لإنتاج عمل سينمائى مشترك، بيننا وبين وزارة الثقافة الهندية، وكانت الفكرة لغرابتها أغرب من الخيال.
 ففى تلك الأيام، فوجئت فى الصباح بدخول مصطفى السويفى، الذى كان قد أصبح مديراً لمكتبى بعد استقالة "إقبال"، مديرته السابقة فى عهد فتحى إبراهيم، فوجئت به يدخل على ليخبرنى بوجود شخص فى الخارج يطلب مقابلتى، وأنه يدعى: الأستاذ سامى عاشور، الذى كان ناظراً لمدرسة شبرا الثانوية، أثناء وجودى طالباً بها. فطلبت من مصطفى السويفى أن يصفه لى، فقال:
 -هو شخص كبير السن، اسمر اللون، نحيف القوام.
 قاطعت مصطفى قائلاً:
-أدخله فوراً. فوجئ مصطفى بطريقتى فى الكلام، وهرع لتنفيذ أمرى، وبينما خرج وعاد مصطحباً الزائر، كنت أنا قد توجهت إلى باب الغرفة انتظره. دخل الرجل، وأخذ يدقق النظر فى شخصى الواقف فى انتظاره، ثم مد يده لمصافحتى، غير أنى أخذت يده فى يدى، ثم انحنيت عليها أقبلها. وأندهش الرجل، ولكن بدا عليه التفكير فى العثور على تفسير مناسب لسلوكى. ثم قال متسائلاً:
 -مدرسة؟..
 فأجبته:
 -شبرا الثانوية، سنه 1943.
 فتهللت أساريره وقال:
-ياه..زمن طويل!
 قلت له وأنا أدعوه للجلوس على المقعد المواجه للمكتب، وأنا أجلس إلى المقعد الآخر المواجه له:
 -حمد الله على سلامتك. لا تتصور مدى سعادتى برؤيتك. ثم وأنا أنظر إلى الساعى الذى وقف ينتظر أوامرى:
 -ليمون؟
 فقال الرجل شاكراً:
 -متشكر، مافيش مانع.
 جاء الساعى بعصير الليمون، وبدأ الناظر الجليل يحتسيه بتؤدة، بينما جلست أنا أتأمله، واستعيد صورته القديمة التى استحضرها خيالى بعد حوالى ربع قرن. أحزنتنى مظاهر الهزال والشيخوخة التى اعترت مظهر الرجل، ولكن سرنى أن رأيت فى نظرته ولفتاته شئياً من الحيوية والتوثب القديم الذى كان يمتاز به منذ ربع قرن.
 وما أن فرغ من احتساء عصير الليمون ووضع الكوب أمامه على المنضدة حتى قلت له:
 -هنيئاً، تحت أمرك يا أستاذى. فقال الرجل:
 -شكراً. سأشرح لك الأمر باختصار. أنا أحلت إلى المعاش منذ خمسة عشر عاماً. وساعدتنى الظروف على الالتحاق بالعمل بوظيفة مستشار ثقافى بسفارة الهند بالقاهرة. ويتضمن عملى السعى لتوثيق العلاقات الثقافية بين مصر والهند، ومن ذلك محاولة إيجاد مشروعات للتعاون السينمائى بين البلدين. وأنت تعلم أن فى الهند نهضة سينمائية كبيرة. لذلك كنت قد تقدمت منذ حوالى العام باقتراح إلى هذه الشركة - كوبروقيلم، للقيام بعمل سينمائى مشترك بين البلدين، واقترحت أن نبدأ بعمل فيلم تسجيلى مشترك حول تأثير الحضارة العربية فى الحضارة الهندية. ولكن للأسف، ظل هذا  الاقتراح مهملاً حتى الآن. وأنا حضرت اليوم، وعندى أمل فى تحريك المشروع. فما رأيك؟ قلت له بحماس:
 -أنا على أتم استعداد، ولكن لدى تعديلاً بسيطاً على الاقتراح. لقد أعلن مؤخراً عن زيارة وشيكة للرئيس عبد الناصر إلى الهند. وأراها مناسبة طيبة لعمل فيلم تسجيلى مشترك، مع الجهة المختصة فى الهند، لتغطية هذه الزيارة، فما رأى سعادتك؟
 قال الرجل بحماس:
 -فكرة عظيمة، وأنا جاهز لتمرير المشروع مع الجانب الهندى. تداولنا فى الموضوع، وانتهى الأمر إلى إفاد بعثة سينمائية مصرية تتكون من أحد المخرجيين البارزين، ومعه مدير تصوير ممتاز، إلى الهند، على أن يقود الجانب الهندى باستقبالهما واستضافتهما، وتوفر المساعدين والمعدات اللازمة لهما، لعمل فيلم تسجيلى إخبارى مشترك مع الهنود لتغطية زيارة الرئيس عبد الناصر، إلى الهند، وما يتصل بها من أحداث ومشاهد، على أن يكون الفيلم الناتج عن هذا العمل، إنتاجاً مشتركاً بين الجانبين.
  وافق الأستاذ سامى عاشور على الاقتراح، واتفقنا على أن أقوم أنا بإعداد مشروع عقد تفصيلى له، وعرض الأمر على وزير الثقافة ورئيس مؤسسة السينما، والالتقاء باكر لتوقيع العقد وبدأ إجراءات التنفيذ. وانصرف الأستاذ سامى، وتوفرت أنا على إعداد مشروع العقد، ثم تركته للمختصين لإعداده فى صورته النهائية، وتوجهت فوراً إلى مكتب الدكتور ثروت عكاشة، حيث قابلته وعرضت عله الأمر، فوافق عليه فوراً، وأحالنى إلى الأستاذ نجيب محفوظ للاتفاق معه على التفاصيل، وبدأ التنفيذ فوراً - نظراً لاقتراب موعد سفر الرئيس.
  سألنى نجيب محفوظ عندما قابلته، عن من الذى أرشحة للسفر، فاقترحت اسمين: المخرج توفيق صالح، والمصور حسن التلمسانى، وتحمس نجيب للاسمين، فقد كان كل منهما مشهوداً له بالكفاءة وارتفاع الوعى الثقافى. وفى اليوم التالى تم توقيع العقد، واجتمعت مع توفيق صالح، وحسن التلمسانى، وأطلعتهما على الموضوع، فتحمسا له، وفى اليوم التالى، تم سفرهما إلى الهند، بعد إبلاغ الأمر إلى الحكومة الهندية لاستقبالهما، وبدأ العمل معهما فور وصولهما، خاصة وأن زيارة الرئيس كان مقرراً لها أن تبدأ بعد أيام قليلة.
 توسمت خيراً فى هذا الاختيار، فقد كنت أعرف أن توفيق صالح مخرج موهوب، وشخص مثقف، وكذلك حسن التلمسانى. وكنت آمل أن ينجزا مهمتهما على أكمل وجه. وقمت بتيسير كل الأمور لهما، من النواحى الإدارية والمالية والعائلية.
 ورغم أن تجربتى السابقة مع توفيق صالح، فى مشروع فيلم "الجسر"، لم تكن تجربة سعيدة، إلا أننى تعشمت أن يجتاز توفيق التجربة الجديدة بنجاح، خاصة وأنها لا تتصل بى فقط، وإنما تتصل بوزير الثقافة، وبمؤسسة السينما، وبالرئيس عبد الناصر أيضاً.
 ولكن خاب ظنى، إذ مالبثت الأخبار تتوالى على فى صورة شكاوى واستغاثات متتالية من جسن التلمسانى، من الخلافات والمشاجرات التى بدأ يعانيها من الأستاذ توفيق، والتى انتهت بتوقف أى صورة من صور التعاون بل والتعامل بينهما، واضطر حسن إلى الاستقلال بالعمل على قدر الإمكان، مستعيناً بالجانب الهندى.
 توقف المشروع، وعاد توفيق وحسن، إلى القاهرة بخفى حنين، بمجرد انتهاء زيارة الرئيس للهند. وكان حرياً بالأمر أن يتحول إلى فضيحة، لولا أن أسدلت عليه ستائر النسيان.
 وحين عاد الاثنان، روى لى حسن التلمسانى تفاصيل ما حدث، وأن توفيق قد أذاقه الويل بسبب تقلبات مزاجه، وعصبيته الزائدة، والتى لم يفلح هو فى احتوائها أو تفاديها. أما توفيق، فلم أراه بعدها على مدى عدة سنوات.
 ...
 انتهى العمل فى تصوير فيلم "كيف سرقنا القنبلة الذرية"، وحضر الإيطاليون العاملون فى الفيلم، ومعهم الأستاذ يوسف وهبى للتحية والوداع قبل سفرهم عائدين إلى بلادهم، وانتهزت الفرصة فاستبقيت الأستاذ يوسف وهبى للحديث معه على انفراد. ثم تحدثت معه حديثاً مطولاً عن ظروف الشركة، وعن تجربة الإنتاج المشترك مع الإيطاليين، وكيف أنها كانت تجربة سيئة، انتهت بتبديد كل رأسمال الشركة، ووضعه فى عشرة أفلام مشتركة لم يعد على الشركة منها أى عائد. وسألته عن رأيه فى كيفية العمل على استرداد حقوق الشركة فى هذه الأفلام. فوافقنى الرجل على رأيى، وأضاف إليه رأيه - من واقع معرفته الدقيقة بهؤلاء المنتجين الإيطاليين - بأن الشركة قد تعرضت لعمليات نصب واسعة النطاق. ثم قال لى إنه يتعين على الشركة أن تواجه هذا الموقف من خلال اتصالات مباشرة مع هؤلاء المنتجين،ومع السلطات الإيطالية المختصة. وسألته عن مدى استعداده هو، للقيام بهذه المأمورية بتفويض من الشركة، فوافق الرجل ورحبت بتقديم أى جهد من أجل تحقيق مصالح مصر. وعرضت الأمر على الدكتور ثروت عكاشة، فوافق على هذه الخطوه، وقابل يوسف وهبى وتحدث معه فى هذا الشأن، وكان يكن له مثل ما أكنه من التقدير والثقه.
 حررت تفويضاً كتابياً من الشركة للأستاذ يوسف وهبى، للتحدث باسمها مع ساشر الأطراف المختصة فى إيطاليا، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حقوق الشركة.
 وسافر يوسف وهبى بالفعل إلى إيطاليا من أجل هذا الغرض.
 وعندما عاد، قابلته وروى لى تفصيلياً ما قام به من اتصالات ومقابلات، وما توصل إليه من معلومات ونتائج، وقام بتحرير تقرير بكل ذلك قدمه لى، تاركاً لى مهمة موالاة هذا الأمر لما يحتاجه من وقت طويل وجهد متواصل.
...
قابلنى المستر إيميليا نوف، المستشار الثقافى لسفارة الاتحاد السوفييتى فى القاهرة، والذى كانت تربطه علاقة صداقة مع الصديق عبد الرحمن الخميسى، الذى توسط فى عقد اللقاء. وتحدث معى إيميليا نوف فى موضوعين:
 -الأول: هو اغتنام فرصة التعاون القائم بين الاتحاد السوفييتى ومصر، فى إقامة مشروع السد العالى العظيم، للقيام بإنتاج سينمائى مشترك بين البلدين.
 -والثانى: هو اقتراح بأن تتولى شركة كوبروفيلم، عرض فيلم الحرب والسلام، الذى انتجه السوفييت مؤخراً، عن رواية الكاتب الروسى "تولستوى" بأجزائه الثلاثة، والذى تمت ترجمته إلى اللغة العربية، وذلك فى سينم أوبرا، التى كانت تابعة لشركة كوبروفيلم فى ذلك الحين.
 وقد وافقت على الاقتراحين، وتم عرض الأمر على الدكتور ثروت عكاشة، فوافق عليهما، ورحب بهما، ورأى فيهما فرصة للتوجه بموضوع الإنتاج المشترك، من وضعه الحالى، إلى توجه عالمى صحيح.
 وتم تحرير الاتفاق الأولى، على الإنتاج المشترك، تضمن الاتفاق على إنتاج قيلم روائى طويل يدور حول التعاون المصرى السوفييتى فى بناء السد العالى، وهو الفيلم الذى اتفق فيما بعد على سائر مكوناته، وأنتج بالفعل باسم "الناس والنيل" - من خلال مشاركة بين الجانبين، وقام المخرج المصرى الكبير يوسف شاهين بإخراجة، بمعونة عدد من السينمائيين الروس. كما تضمن الاتفاق، الاتفاق على إنتاج فيلم تسجيلى طويل، عن عملية بناء السد العالى، تم إنجازه فيما بعد من خلال عمل مشترك، تولى قيادته من الجانب المصرى، المرحوم صلاح التهامى، المخرج التسجيلى المعروف، وتعاون معه فيه العديد من الفنيين المصريين والسوفييت. وكان الاتفاقان المبرمان فى شأن هذا الإنتاج المشترك، الروائى والتسجيلى، يحملان شروطاً وأوضاعاً مغايرة تماماً للاتفاقات السابقة على الإنتاج المشترك.
 كما تم تنفيذ الاتفاق على عرض فيلم الحرب والسلام، بجزأيه اللذين كان قد تم إحضارهما فى ذلك الوقت، وتمتع الجمهور المصرى بمشاهدة هذه التحفة الرائعة للكاتب الروسى الأشهر تولستوى، وإخراج المخرج السوفييتى الكبير: بوندارتشوك. سعد المثقفون المصريون بهذا العرض، ولكن للأسف، لم يلق الفيلم رواجاً كافياً من الناحية التجارية. وفيما بعد، تم عرض الجزء الثالث من فيلم "الحرب والسلام"، فقوبل بنفس المقابلة، نجاح فنى وفشل تجارى.
 وفيما بعد، حضر إلى مصر وفد سينمائى سوفييتى، يرأسه المستر أليكس سيمبونوف، رئيس استوديو موسكو، وتم إبرام الاتفاقان المبرمان معهم، بشأن الفيلمين، الروائى والتسجيلى.
 وفى أبريل، سافر إلى موسكو وفد مصرى، مكون من الأساتذة: يوسف شاهين، وصلاح التهامى، وحسن فؤاد، ومعهما محمد رجائى، الذى كنت قد استدعيته واتفقت معه، باعتباره خبيراً إنتاجياً، على المشاركة فى هذا الوفد. وقد أنجز الوفد مهمته، وتم الاتفاق على كل الترتيبات اللازمة لإنتاج الفيلمين، وفيما بعد، تم تنفيذ الفيلمين - الروائى "الناس والنيل"، والتسجيلى "السد العالى"، وشاهدهما الناس، ولكن بعد أن كنت أنا قد غادرت شركة كوبروفيلم.
 استدعانى الدكتور ثروت عكاشة إلى منزله بالمعادى، فذهبت إليه، ووجدت معه شخصاً أجنبياً، تبين لى فيما بعد أنه المخرج الإيطالى الشهير روبرتو روسللينى، وبعد أن قدم الدكتور ثروت كلا منا للآخر، ذكر لى أن روسللينى صديقه من أيام أن كان يعمل سفيراً فى فرنسا، وأنه قد حضر إلى مصر بدعوة منه وفى ذهنه عدة أفكار ومشروعات للتعاوزن فى المجال السينمائى، قال إن منها إنتاج فيلم مشترك معنا عن "الحضارة المصرية" كحلقة من مسلسل كبير يقوم بإنتاجه عن تاريخ الحضارة العالمية، كما أن روسللينى يفكر فى تكوين مجموعة من شباب السينمائيين فى مصر، ليرعاهم ويدربهم لينهضوا بعد ذلك بدور فعال فى تطوير السينما المصرية نحو العالمية. وأخبرنى الدكتور ثروت إنه قد اختارنى للتعاون مع روسللينى فى تنفيذ هذه المشروعات، وأنه يعهد إلى بما له من ثقه فى، فى أن أتولى كل هذه الأمور -نيابة عنه- مع السينيور روسللينى.
 منذ هذا اليوم وأنا ألازم روسللينى وأيسر له كل أموره. عقدت معه عقداً للإنتاج المشترك لفيلم الحضارة - وتابعته وهو يقوم بإعداد النص السينمائى الذى سيتم تصويره، يوماً بيوم. كانت طريقته غريبة وعبقرية، كان قد حول جناحه فى فندق سميراميس - القديم - إلى ورشة عمل، كانت هناك الكثير من الكتب والمراجع عن الحضارة الفرعونية، باللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، مفتوحة كلها على الصفحات التى يختارها، وهو يقوم بالإطلاع عليها، والنقل عنها - باللغة الإيطالية، وكتابة المشاهد السينمائية التى يريد تصويرها - يوماً بيوم. ثم يقوم بتسليمى هذه النصوص باللغة الإيطالية - لأتولى الإشراف على ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، ثم من الإنجليزية إلى اللغة العربية، لتكون النسخ الإنجليزية والعربية، تحت تصرف من سيعملون معه من المصريين. وكانت النسخ الإيطالية تعرض عليه مع ترجمتها الإنجليزية، ليقوم بمراجعة الترجمة، وتصحيح ما قد يكون بها من أخطاء، ثم يعيدها إلى لأقوم بتصويب الأخطاء، ثم أعيدها إليه بعد التصويب، وذلك كله ضمانا لعدم وجود أى خطأ فى الترجمة أو النسخ. وكانت كل هذه العملية المعقدة، تتم مساء كل يوم، بحيث يكون تحت يد الجميع، هو ومن يقومون بالعمل معه، من المصريين  والإيطاليين، نسخ معتمدة من النص الذى سيتم تصويرة بعد ساعات. وكانت هذه العملية تعتمد على وجود مترجم للإيطالية - عظيم الكفاءة- وقد وجدت هذا المترجم فى شخص الآنسة آمال الشهاوى- شقيقة صديقنا فاروز الشهاوى - السينمائى المصرى ، والتى كانت أستاذة بحق، فى اللغة الإيطالية.
  فى الصباح، كان روسللينى ينتقل إلى موقع العمل الذى كان يتم اختياره مسبقاً، بواسطة وبمساعدة من معه من الفنيين المصريين والإيطاليين. حيث يتم التصوير إلى ما قبل غروب الشمس، ثم يعود إلى الفندق للراحة وتناول الطعام، ثم ينكب من جديد على التحضير للمشهد التالى، على نفس النحو الذى سبق بيانه:
 وكنت أنا أتابع نشاطه فى سائر مراحله، وأذلل له كل المصاعب، حتى بات يولينى ثقته التامة، ويشيد بعملى كلما قابل الوزير أو تحدث إليه هاتفياً وحتى بدأت تنمو بيننا أواصر صداقة ومودة حقيقية.
 وكان قد اختار - بمعاونتى - عدداً من المساعدين المصرين - منهم النجم شكرى سرحان، وأبو الفتوح عمارة، وآخرين للمساعدة فى الإخراج والإنتاج.
 وخلال هذه الفتره، تكونت حول روسليينى، وبتشجيع من الدكتور ثروت، ومساعدة منى، مجموعة من شباب السينمائيين المصريين، كانوا بمثابة تلاميذ له. منهم: يوسف شاهين، وشادى عبد السلام، وسيمون صالح، وغيرهم.
 لم يتوقف عمل روسللينى فى فيلم الحضارة، إلا بعد قيام حرب يونية 1967 بأيام، وكان العمل قد انتهى تقريباً، حيث أصاب مساعديه من الإيطاليين القلق بسبب الحرب وأعربوا عن رغبتهم فى الرحيل.
 وأذكر أن روسللينى قال لى، ونحن فى موقع التصوير الأخير بصحراء سقارة: لن تطول هذه الحرب، فمصر وإسرائيل ليستا من الدول التى يمكنها أن تخوض حرباً طويلة، فهما من الدول التى لا تنتج الأسلحة والذخائر اللازمة لاستمرار الحرب، فمثل هذه الأسلحة والذخائر، تنتجها قلة من الدول الكبرى.
 وأذكر أننى - بتكليف من الدكتور ثروت ، كنت المصرى الوحيد - ومعى بعض المساعدين، الذى صاحبت روسللينى ومن معه، فى رحيلهم عن مصر قبل وقف القتال بيوم واحد. صاحبتهم ومعهم كل معداتهم وأمتعتهم إلى الإسكندرية، حيث أستطاع روسللينى، بمعونة القنصل الإيطالى، التوصل إلى سفينه إيطالية كانت تتأهب للإقلاع فى نفس اليوم، والاتفاق معها على أن تقلهم جميعاً.
 ولا أنسى حين وقفت على رصيف ميناء الإسكندرية، أودع روسللينى وأعانقه، قبل أن يرتقى سلم السفينة، عائداً إلى بلاده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق