ذكريات شاعر مناضل: 3- النور بعد الظلام

3- النور بعد الظلام


  مررت بفترة غريبة من فترات حياتى، فلعدة أسابيع بعد وفاة شهدى، والتجربة الغريبة التى مررت بها فى كتابة نعيه، ونشره فى الصحف، ثم فى متابعة نتائج ذلك وردود أفعاله، محلياً وعالمياً، كنت أشعر بأننى فى حالة ذهول. عما حدث وما يحدث، وكأننى أعيش بين النوم واليقظة، أرى وجوهاً كثيرة وكأننى لا أراها، وجوهاً تنظر إلى وتحدثنى بلطف بالغ، ومودة ظاهرة، أتلقاها بشرود، وكأننى لا أسمع ما تقوله، ولا أفهم معناه. عائلة شهدى، والده الأستاذ عطية الشافعى، الرجل المسن الثاكل فى أعز أبنائه، وأخوته، جمال ومنير، وأخته الدكتورة نعيمة. ثم زوجة شهدى الحزينة روكسان، وابنته الطفلة حنان، ذات الثلاث سنوات من العمر، والدة روكسان، السيدة بتريدس، وأختيها ليلى ونونى، وعدد من قريباتها وأقربائها. ثم مدام جاك، والدة ألبير، ومعارفها من عائلات المسجونين الشيوعيين، ومن أصدقائها من الأجانب والمصريين، العارفين بموضوع شهدى والمتعاطفين معه. ثم بعض أصدقاء شهدى ومعارفه من المصريين والأجانب، محمد عودة الصحفى المصرى الكبير، وزوجته عائشة، والصحفى التشيكى جورج بوتشيك مراسل جريدة رودى برافو التشيكية، وزوجته كروبنسكا، الصحفية البولندية.. وغيرهم. كا هذه الوجوه كنت أراها وترانى، إما فى منزل والد شهدى بشارع شريف، أو فى محل نيولندن هاوس بميدان مصطفى كامل. أو فى منزل شهدى نفسه بالزمالك.
 كنت أرى كل هذه الوجوه وترانى وأنا فى حالة قريبة من الذهول، ودون أن يحدثنى أحد أو احدثه عن دورى فى كشف جريمة اغتيال شهدى وإذاعتها، كنت أعلم أنهم يعرفون هذا الدور، ويقدرونه، وأنهم يكتمونه فى نفوسهم ويتسترون عليه، دون أن أطلب ذلك من أحد، وأنهم يعرفون من تلقاء أنفسهم مبلغ ما كان ينطوى عليه من خطورة ومجازفة، وما يمثله ذلك من خطر داهم على أمنى وسلامتى،وذلك فهم يتطوعون لحمايتى، بالصمت والسكوت.
 استشارى والد شهدى وزوجته، فى اختيار محام عنهم يتابع قضية شهدى فى النيابات والمحاكم، فأشرت عليهم باختيار الأستاذ أحمد الخواجة، الذى أصبح فى ذلك الوقت محامياً جنائياً شهيراً، ثم أصبح بعد ذلك نقيباً للمحامين لعدة دورات متتالية، وذلك لأمانته وكفائته وشهرته. وقد رحب الرجل بذلك، وظل يحمل لى الود والامتنان لهذه الثقة. واستشارتنى زوجة شهدى فى أمر تعيينها وصيه على ابنتها حنان وحاضنة لها، فأبلغتها بأن الوصاية غير جائزة طالما أن جدها لأبيها - عم عطية - مازال على قيد الحياة. فهو ولى طبيعى عليها بحكم الشرع والقانون، أما الحضانة فهى من حقها هى بشرط أن تبادر إلى اعتناق الدين الإسلامى كشرط للحضانة على الطفلة المسلمة، فوافقت على كل ذلك، وقمت بتوصيلها إلى الشيخ أحمد عمار - زوج أختى بهيجة، والمحامى الشرعى، فتولى معها إجراءات إشهار الإسلام، ودعوى الحضانة.
 كانت الأنباء تتوالى على عن تطورات التحقيق فى قضية مصرع شهدى، ورغم أن المتهمين بقتله كانوا معروفين جميعاً وبالاسم (ومازالوا معروفين حتى الآن بعد أن سماهم العديدون ممن كتبوا بعد ذلك عن الحادث، وكان بعضهم ضمن حضوره وشهود الرؤية عليه) إلا أن إجراءات التحقيق الجنائى قد تميعت حتى الآن، ومات الكثيرون من الجناه، وأصبح الباقون فى حكم الموتى لمضى خمسين عاماً على وقوعها، كل ما حدث أن هؤلاء المجرمين قد جرى نقلهم من جهات عملهم، وأن العدالة الإلهية قد لاحقت بعضهم فماتوا قتلى. كما أن دعوى التعويض التى أقامها الأستاذ أحمد الخواجة، قد حكم فيها على وزارة الداخيلية بتعويض مدنى للورثة، لا يغنى ولا يسمن من جوع. أما الأثر الأكبر أهمية والأعظم تأثيراً لفضح جريمة قتل شهدى، فهو الأثر السياسى الذى كنت أتوقعه وأقصد إليه، فقد ظلت جريمة القتل البشعة، والمسئولية عنها لاصقة بثوب مرتكبيها، سواء من فعلوها بأيديهم القذرة الملوثة، أو من حرضوا أوتواطأوا عليها بطريق مباشر أو غير مباشر، كما هى الصقة بثوب النظام العسكرى الديكتاتورى الغاشم الذى ارتكبت فى ظله، وبمباركته، ويعزينى فى ذلك أن جريمة قتل شهدى لم تكن هى أول جريمة قتل شيوعى مصرى، فقبله قتل كل من الدكتور فريد حداد، والمناضل محمد عثمان، ومضت الجريمتان دون أن تتركا أثراً كبيراً، أما جريمة قتل شهدى، فقد ترتب عليها، وعلى فضحها، أثر سياسى كبير، مازال باقياً حتى الآن، وسيظل باقياً إلى أمد طويل، كما ترتب عليها وفى حينها آثر عظيم آخر، هو وقف جرائم التعذيب والإهانة للشيوعيين المصريين، فى السجون والمعتقلات المصرية.
 كلما تمثلت جريمة قتل شهدى عطية على يد النظام الوحشى الساقط، تمثلتها مقترنه بقصة مصرع أوزوريس، ومأساة إيزيس، فى التاريخ المصرى الموغل فى القدم. فسلام على شهدى عطية، وسلام على شهداء الحق فى كل زمان وفى كل مكان.
...
 كانت شقتى فى شارع الساحة تقع فى الدور العلوى (الرابع) من العمارة رقم 36 بذلك الشارع. وذات يوم فى شهر سبتمبر سنة 1960 فوجئت بأصوات مزعجة ناتجة من أعمال هدم وبناء فوق سطح العمارة، وعلمت أن أصحاب العمارة قد بدأوا فى عملية تعلية لثلاثة أدوار أخرى فوق سطحها.؟ وبعد محاولات يائسة للاعتراض والاحتجاج، أسقط فى يدى. وأدركت أن هذا الإزعاج سوف يستمر لعدة شهور قادمة وبدأت أبحث عن حل لهذه المسألة الطارقة السخيفة.
 استطعت أن أحصل على شقة أخرى للإقامة فيها أنا وأسرتى، وآثرت أن تكون فى ناحية هادئة، بعيداً عن زحام وضجة الترام والمواصلات المزعجة، حتى آمن على راحتى وسلامة أولادى، ووجدت ضالتى فى شقة بشارع مجاور لشارع نوال فى الدقى، استأجرتها، وبدأت أنقل عزال مسكنى إليها. وفى نفس الوقت، اتفقت مع زميلى وصديقى سعد كامل على تنفيذ مشروعنا فى فتح مكتب مشترك لنا معاً. وعن طريق سعد، استأجرنا - بأسمنا سوياً - شقة جميلة بعمارة ستراند بباب اللوق، وبدأنا معاً فى إعدادها والانتقال إليها، وتم لنا ذلك. فى وقت قصير.
 كانت سهير قد أصبحت حاملاً عقب خروجى من السجن.
  وها هى قد أصبحت فى الشهور الأخيرة من الحمل، وعلمت الدكتورة نعيمة عطية، وهى طبيبة ولاده، فأصرت على أن تتولى هى العناية بها قبل وأثناء وبعد الولادة، كنوع من التعبير عن مشاعر الأسرة - أسرة شهدى - نجوى. وحدث ذلك فعلاً. واستمرت الدكتورة نعيمة فى ذلك حتى كان اليوم السعيد، يوم 6 أكتوبر سنة 1960، حيث شرفتنا الأميرة منى بحضورها، وسمعنا فى بيتنا الجديد صوتاً جميلاً يقول:
 واء واء واء. فكان ذلك إيذاناً باكتمال أسباب السعادة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق