ذكريات شاعر مناضل: 20- حين تدبر الدنيا

20- حين تدبر الدنيا


  كنت أقوم بعملى على الوجه الأكمل فى الجبهتين، القطاع الخاص الممول، ونادى السينما، حين صادفتنى مشكلة ظننتها أول الأمر مشكلة صغيرة - يسيرة الحل، ولكنه اتضح لى بعد ذلك أنها لم تكن كذلك.
 قدمت لى الفنانة ماجدة صباحى مشروعاً لإنتاج فيلم تقوم ببطولته، كما قدمت لى نص السيناريو والحوار، وتبين لى أنهما من وضع الكاتب عبد الحميد جودة السحار، مؤلف القصة. وكنت أقدر الفنانة ماجدة كممثلة، كما أقدر إقبالها على الدخول فى مجال الغنتاج، وأوقفت أى حديث معها عن قبول المشروع لحين قيامى بالإطلاع على النص المقدم منها، باعتبار أن هذه هى البداية الصحيحة للحديث عن أى إنتاج.
 وكنت أعرف أن السحار كاتب متخصص فى الموضوعات الدينية، وكانت له شهرة فى هذا المجال، ولكنى لم أكن قد قرأت له أى شئ فى الموضوعات الاجتماعية. وفوجئت عند قراءتى للنص المقدم منه عن طريق السيدة ماجدة، بأنه نص ضعيف جداً، مفكك ومتناقض ومهلهل، ولا يصلح إطلاقاً لإنتاج فيلم سينمائى عنه. فكتبت تقريراً بملاحظاتى على النص، وسلمته للسيدة ماجدة، لتعرضه على المؤلف طالبة رأيه فى تلك الملاحظات، وأن يقوم بالتعديلات اللازمة لتلافى تلك العيوب. وأبلغتنى ماجدة بأن السحار وافق على ما طلبته، ووعد بتنفيذه.
  بعد أيام جاءت ماجدة، وقدمت لى السيناريو معدلاً بمعرفته السحار. وقمت بقراءته، فوجدت أن النص كما هو تقريباً، وأن التعديلات القليلة التى أجريت عليه، قد زادته سوءاً على سوء.
 وعادت ماجدة إلى السحار، وأبلغته بما قلته، فوعد بإجراء التعديلات المطلوبة. وبعد أيام تكرر الموقف، فقلت لماجدة، إنه من الواضح أن هذا هو أقصى قدرة السحار، وأنه إذا كانت متمسكة بالموضوع، فقد يكون الحل هو إشراك سيناريست آخر لإجراء التعديلات اللازمة. ووافقت ماجدة على هذا الرأى وسألتنى عمن أرشحه لهذا العمل، فاقترحت عليها اسم الأستاذ سعد الدين وهبه، وكان فى هذا الوقت كفاءة ممتازة فى هذا المجال. وعلمت أن السحار حين علم بما اقترحته، ثارت ثائرته، وغضب غضباً شديداً، واعتبر موقفى هذا موقفاً مهيناً بالنسبة له، وطلب منها إيقاف المشروع. فتوقف.
  فى الأيام التالية، بلغ نجيب محفوظ سن الإحاله إلى المعاش، وأحيل إليه فعلاً، وبدأ الدكتور ثروت يبحث عن خليفة له، ليتولى رئاسة المؤسسة بدلاً منه، وذهبت التكهنات فى هذا الشأن كل مذهب.
 فى صباح يوم أغبر، جاءتنى مكالمة تليفونية من سعد وهبه. ما ان تكلم سعد وعرفت صوته حتى بادرته:
 -صباح الخير يابو السعود.
 فأجابنى منزعجاً:
 -ماباينش. تعرف مين اللى هايبقى رئيس المؤسسة؟
 سألته: -مين يعنى؟
 فقال لى: السحار.
 فقلت له منزعجاً: -لا يا شيخ..يعنى مالقوش غيره.
 أجاب: -نشنوا عليه، لسؤ حظك وحظى، ولسه موضوع ماجدة الصباحى مشعلل معاه. كان الله فى عونك.
 تأكدت أن الأمر لن يمر على خير. وما أن جلس السحار على كرسى رئاسة المؤسسة حتى بدأ يسوى حساباته. خلال أسبوعين كان قد حدد موقفه. اتصل بكل المسئولين فى المؤسسة وشركاتها، واستدعاهم وتكلم معهم فى أعمالهم، ماعدا أنا. وسألت يوسف صلاح الدين عن رأيه فى هذا الأمر، فأقرنى على غرابته، ثم نصحنى بأن أذهب لمقابلة. وذهبت.
 استقبلنى بفتور واضح، وكنت قد أعددت نفسى لكل الاحتمالات، ماعدا احتمال واحد، هو أن يمر الموقف على خير.
 سألته:
 -انت قابلت كل المسئولين فى المؤسسة وشركاتها، ولم تتصل بى أو تستدعينى، وقد فهمت الرسالة، وها أنذا أعفيك من الحرج. وأنا الآن أريد أن أترك موقعى الحالى إلى موقع آخر، لا تكون حوله أية صراعات أو مطامح، أريد أن أكون فى سلام.
 بدت على الرجل الدهشة للسهولة التى عرضت بها الأمر، وسألنى:
 -إذن ما هو العمل الذى تريد أن تنقل إليه؟
 قلت له دون أى تردد أو تفكير:
 -واحد من اثنين، إما أن أكون عضواً فى لجنة القراءة بالمؤسسة. مع الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى، أو أن أكون محامياً فى الإدارة القانونية، محامى فقط دون رئاسة أو مسئولية، أؤدى عملى فى أى منهما مستقلاً، دون رئاسة أو مسئولية.
 استغرب الرجل، وفكر قليلاً ثم قال:
 -أنت كنت لعدة سنوات مديراً للإدارة القانونية ومستشاراً قانونياً، ولا يعقل أن تعود مجرد محامى فى الإدارة، سيكون هذا وضعاً شاذاً غير مستساغ.
 قلت له:
 -إذن فلتكن لأولى، لجنة القراءة.
 فوافق الرجل على الفور. وبدا عليه أنه يريد أن يشكرنى على أننى سهلت له الأمر.
 فى تلك الأيام كان قد وقع تطور هام فى العلاقة مع الدكتور ثروت، زاد الموقف سوءاً على سوء. فقد علمت بوقوع صدام بين ثروت وبين الدكتور على الراعى، أحد كبار معاونيه، ورئيس مؤسسة المسرح تحول إلى قطيعة بينهما، مما أدى إلى إقصاء على الراعى عن منصبه. وتطور الأمر إلى قطيعة بين الوزير وبين صديقة وزميلى سعد كامل، الذى كان يشغل وظيفة رئيس هيئة الثقافة الجماهير، وكان صهراً وصديقاً لعلى الراعى، ترتب عليها إقصاؤه هو الآخر من عمله بقصور الثقافة. وتزامن مع ذلك قطيعة أخرى بين الدكتور ثروت وبين صديقنا مصطفى درويش، الذى كان يشغل وظيفة مدير الرقابة على المصنفات الفنية، وكان الثلاثة يساريين، وأصدقائى. وقال البعض، بأن الأمر لم يكن خلافات شخصية بين ثروت، وبين هؤلاء، وحاولوا الربط بين تلك الأحداث، وبين ما حدث لى، بمقولة أن ثروت قد غير اتجاهه من التعاون مع اليساريين، إلى فض علاقاته معهم.
  فى نفس الوقت كان - قيامى بعملى فى إدارة أعمال نادى القاهرة للسينما، قد أصبح معتذراً بعد أن نقلت من عملى فى الإشراف على الإنتاج الممول بشركة التوزيع، وتركى لمكتبى والمساعدين الذين كانوا يعملون معى فى تسيير أعمال نادى السينما، أصبح ذلك متعذراً الآن، فتوجهت إلى الأستاذ حسن عبد المنعم، وكيل الوزارة الذى كان يتابع معنا أعمال النادى، وشرحت له موقفى، وأبلغته بانسحابى من العمل بالنادى، طالباً منه إسناد ذلك العمل إلى شخص آخر.
  وكنت متألماً أشد الألم لهذا التحول الخطير المفاجئ للموقف بينى، وبين الدكتور ثروت عكاشة، أنا والزملاء اليساريين الآخرين، دون أن يكون لى أنا أى دخل فى أسباب هذا النزاع، ودون أن أعرف حتى أسبابه. إذ أن أحداً من هؤلاء الزملاء، لم يقل لى عنها شيئاً.
 وكنت ومازلت أحمل أطيب مشاعر الود للدكتور ثروت عكاشة، وعز على أن تنقطع العلاقة بينى وبينه على هذا النحو، فقررت أن أذهب للقائه والعمل على إزالة الجفوة التى نشات بينه وبين الزملاء الىخرين. وبالفعل قابلنى، واستمع إلى قولى، ولكنه بدا مصمماً على تلك القطيعة، وغير راغب فى إيضاح أسبابها لى. فانصرفت آسفاً على ما آلت إليه الأوضاع بين وزير عظيم، وبين مجموعة من أفضل وأخلص المثقفين اليساريين الذين عاونوه فى مختلف اوجه النشاط الثقافى، والذين حقق بهم - ومعهم - نتائج باهرة.
 على أننى أدركت، .أن هذا الموقف الحزين، ليس إلا صورة من صور تقلبات الزمان، والتى عبر عنها الشاعر بقوله:
إذا أقبلت كانت تقاد بشعرة
وإن أدبرت كانت تقد السلاسلا
 كان وضعى الجديد، مجرد عضو فى لجنة القراءة بالمؤسسة، دون أى سلطة، ودون مكتب، كان على علاته، وضعاً طيباً ومريحاً. كنت احتفظ بوضعى الوظيفى الأصلى، وهو المستشار الفنى لشركة التوزيع السينمائى، وبمرتبى، وأقوم بعمل سهل خفيف، هو قراءة ما يحال إلى من قصص وروايات وسيناريوهات أفلام، وإبداء الرأى فيها بتقارير موجزة، وكان هذا عملاً سهلاً اقوم به وكأنه من القراءات العاديه التى كنت مقبلاً عليها. وكان العمل قليلاً، فالسحار - والحمدلله - لم يكن يحيل إلى لجنة القراءة إلا النصوص التى لا يوليها اهتماماً حقيقياً، أما تلك التى كان يهمه أمرها، فكان لا يحيلها إلينا أصلاً، بل يتولى التصرف فيها بشكل شخصى ومباشر.
 وكان أطيب ما فى الموقف، هو الصحبة الطيبة من الادباء الذين كانت تتشكل منهم لجنة القراءة: الصديق العزيز عبد الرحمن الشرقاوى، رئيس اللجنة، والزملاء والأصدقاء الأخرون، أعضاؤها: الكاتب والروائى الكبير، سعد مكاوى، والكاتب الإذاعى الكبير رأفت الخياط، والشاعر والناقد الدكتور عبد الحى دياب، وأنا.
 كنا مجموعة إخوة متفاهمين متحابين، وكانت لقاءاتنا، سواء بصفة عملية، أو شخصية، لقاءات طيبة ممتعة. حياهم الله جميعاً.
 لم أكن ألتقى بالسحار إلا قليلاً، فرغم أن مقر عملنا بلجنة القراءة كان فى نفس الشقة التى يقع فيها مكتبه، إلا أن أسباب اللقاء ومناسباته كانت قليلة. ولا أستطيع أن أبدى رأياً فى شخصية السحار، رغم ما لحقنى منه من الأذى، فقد كان رغم ما حدث بيننا يبدو ودوداً معى إلى حد ما، بل ويحاول أحياناً ان يسترضينى، وربما كان ذلك لطبيعة فيه، أو كان راجعاً إلى إحساسه بالذنب ناحيتى.
 دعانى مرة إلى وليمة غداء كان قد أقامها بفندق هيلتون لوفد سوفييتى كان قد حضر لشان يتعلق بفيلم "الناس والنيل" وهو الفيلم المشترك الذى كنت قد تعاقدت أنا عليه مع الجانب السوفييتى، وكانت دعوتى لحضور هذه الوليمة، رغم تركى للإنتاج المشترك، لفتة يقضيها البروتوكول، وتقتضيها اللياقة، غير أنها كانت تنطوى على شئ من التودد، إذ كان فى إمكانه ان يتجاهلنى ولا يدعونى.
 ودعانى مرة أخرى ليبلغنى أن المخرج يوسف شاهين، يطلب أن تقوم المؤسسة بإنشاء وحدة إنتاج مستقلة لإنتاج أفلامه، على أن أتولى أنا الإشراف عليها، وصمم يوسف على اختيارى أنا بالذات، دون غيرى لهذه المهمة، وطلب رأيى فى هذا الأمر. ورغم أننى كنت أحب يوسف شاهين، وكانت بيننا ثقة متبادلة، إلا اننى اعتذرت عن الموافقة على هذا الطلب، لأننى راضى عن وضعى الراهن، ولا أريد تغييره. وأحسست فيما بعد، أن يوسف قد استاء من موقفى هذا، واعتبره رفضاً منى ليده الممدودة نحوى، ودعانى مرة ثالثة ليبلغنى أن الزميل محمد الدسوقى، الذى كان يتولى رئاسة شركة الأستوديوهات، قد طلبنى لأكون مسئولاً بالشركة عن كل عمليات الإنتاج بها، ولكنى اعتذرت عن قبول هذا العرض، رغم ما كانت تربطنى بمحمد الدسوقى من أواصر المودة والتفاهم. ولم يغضب الدسوقى - بل تفهم موقفى وقدره.
 كنت مملوءاً بالإحساس بالزهد فى أيه سلطة وظيفة، وبدأ يسودنى الإحساس بأن هذا موقف سياسى، أو شبه سياسى.
 مرة أخرى دعانى السحار إلى مكتبه، فوجدت به الفنانة زبيدة ثروت، ومعها المخرج حسين حلمى المهندس، وأبلغنى السحار، أن الفنانة زبيدة ، والمخرج حسين، قد وقع اختيارهما على نص سينمائى كنت قد كتبته منذ فتره، وقدمته للرقابة على المصنفات الفنية، مقتبساً عن رواية "عشيق الليدى تشاترلى"، وسألنى السحار، عما إذا كنت أوافق على ذلك، فأجبته بالإيجاب طبعاً، وتعاقدت على الموضوع، وقبضت أجرى عن المعالجة السينمائية، ولكن الفيلم قد تعثر فى الإنتاج.
 ...
عاش السحار ماعاش، ثم توفى إلى رحمة مولاه، وتلاه فى رئاسة المؤسسة الأستاذ الفنان سيد بدير، ثم توفى بدوره، فتلاهما الأخ محمد الدسوقى، إلى أن أحيل إلى التقاعد. أما أنا فقد ظللت فى وظيفتى، مستشاراً فنياً للمؤسسة، إلى أن استقلت منها فى أوائل سنه 1977، لظروف اضطرارية سوف يأتى ذكرها فى حينها، لأعود بعدها إلى مهنتى الأصلية - المحاماة.
 وكان ثروت عكاشة قد ترك منصبه كوزير للثقافة، وحل محله تباعاً، وزراء آخرون، لم تكن لى بهم أى صلة، لا بخير، ولا بشر. وانطوت بذلك صفحة هامة من صفحات حياتى.
...
  وكان جمال عبد الناصر قد ودع الدنيا فى 28 سبتمبر سنة 1970، وحزنت عليه، كأغلب المصريين، حزناً عظيماً، ورثيته بقصيدة طويلة عنوانها "أيها الربان" نشرت فى جريدة روز اليوسف، على غلافها الخارجى. وكانت قد أذيعت عدة مرات من إذاعة صوت العرب أثناء تشييع جثمانه. وجاء فى مطلعها:
أيها الربان..لاتغمض عيونك..
أيها الوالد..لا تنس الوليد..
أيها القائد..لا تسدل جفونك..
لا تدع فى غمرة الحزن الجنود.
...
أيها الفارس لا تشدد رحالك..
لا تغادرنا..وحاذر أن تغيب
لا تدع فى ساحة الحرب رجالك..
بينما الأهوال تبدو من قريب.
  
   وجاء فى ختامها:
فوق مثواك سيبكى الفقراء..
وستهمى عبراك الكادحين
وعلى نهجك يحيا الشرفاء..
وستمضى خطوات المخلصين.
  ثم عدت إلى رثاء عبد الناصر، فيما بعد، بقصيدة أخرى بعنوان:
"خواطر عن عبد الناصر"، نشرت فى مجلة روز اليوسف أيضاً فى أول مارس سنة 1976، جاء فيها:
هل مرت الأيام يا جمال..
هل انطوت بالموت صفحة النضال..
ورحلة الآمال..
وقصة الصواب والخطأ؟
...
أجل..لقد مضت قوافل الزمان..
مضت ثقيلة..كوطأة الأحزان..
مضت خفيفة..كغفوة السهران..
وما مضى هيهات أن يعود!.. إلخ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق