ذكريات شاعر مناضل: مارس 2014

70- فى سجن القناطر

سارت بنا سيارة الترحيلات من سجن قرة ميدان، فى أقصى جنوب القاهرة إلى سجن القناطر، مخترقة بنا القاهرة كلها، من جنوبها إلى شمالها، ثم طريق القناطر الزراعى، ثم حدائق القناطر المترامية الأطراف، إلى أن وقفت بنا أمام مبنى سجن القناطر. هناك نزلنا، ثم أدخلنا من البوابه العمومية الكبيرة، إلى مكاتب إدراة السجن، حيث أدخلنا فى أحد المكاتب، وتولى بعض الموظفين المدنين أخذ بياناتنا - وتسجيلها فى دفاترهم. كما أخذوا منا "الأمانات" - وهى الأشياء ذات القيمة التى قد تكون موجودة معنا. ولم يكن معنا أى نقود، وأنا لم تكن معى أيه أشياء ذات قيمة، سوى ساعة يد، كان قد أحضرها لى يوسف صديق من سويسرا خلال مدة وجودة بها. ومما يذكر أن هذه الساعة قد سرقت من الأمانات فيما بعد، سواء من أمانات سجن القناطر، أو سجن ليمان طره.
المهم - أدخلنا من باب الوسط إلى فناء السجن، وكان يقف به رجلان وكلب. أما الرجل الأول فكان عقيداً فى الشرطة، رجلاً كهلاً عامق السمرة، له ساق صناعية، وساق عادية، ويسمك فى يده بزمام كلب كبير، من نوع الولف، وعرفنا أن اسمه العقيد سيد والى - وأنه مأمور السجن، وكان قد فقد ساقة أثناء خدمته بالشرطة، وركبوا له بدلاً منها ساقاً صناعية، ونقلوه للخدمة فى السجون، وكان لا يشاهد سائراً واقفاً، إلا وبيده زمام هذا الكلب، الذى يستمد منه القوة اللازمة لمزاولة عمله. وأما الرجل الآخر - فكان ضابطاً برتبه يوزباشى، وكان شاباً وسيماً - حليوه - أبيض اللون أحمر الوجه، أشقر الشعر والشارب، أزرق العينين، وكأنه من أصل سكوتلاندى، وهو ضابط العنبر المخصص للشيوعيين. وقد علمت فيما بعد أن اسمه عبد العال سلومه، وأنه ليس من سكوتلاندا ولايحزنزن، إنما هو من قرية ميدوم التابعة لمركز الواسطى، مركزنا، وأنه قريب لزميلنا سعد كامل، عضو حدتو، وسكرتير عام اللجنه المصرية لأنصار السلام.
أخذنا اليوزباشى عبد العال سلومة معه إلى عنبر أ، وصعدنا معه إلى مكتبه بالدور الثانى، حيث سجل عنده بعض البيانات عن كل واحد منا، ثم نادى على شاويش "الدور" - الذى أخذنا إلى إحدى الغرف المجاورة، والتى خصصت لنا، وسلم كلا منا "نمرته"، وهى برش من نسيج الليف، ومرتبه محشوة بالقش، وبطانيتان متوسطتا الحال. ثم سلمت لكل منا المعدات الأخرى، قروانه من الألمونيوم، وصحن مسطح، وصحن أخر صغير، وملعقة، كلها من الألمونيوم أيضاً. وفرشت لنا النمر على أرضية الغرفة، ثم وضع لنا فى أحد أركانها جردلان، أحدهما مستدير، للمياه، والآخر مبطط، للبول، وعلى كل منهما غطاوه، ما كاد كل منا يستقر على نمرته، حتى مر علينا اليوزباشى سلومة وقال متودداً إزاى الحال - كله تمام؟ قلت له - تمام وعال العال - فابتسم وقال لشاويش الدور:
-سيب لهم الباب مفتوح، ماتقفلش عليهم دولت، ثم قال لنا:
-علشان لو عايزين الحمام. فشكرناه وانصرف.
بعد قليل فتحت أبواب الزنازين والغرف فى الأدوار كلها، فتدفق ساكنوها. -وكلهم من الشيوعيين- وذهبوا ينسلون زرافات ووحدناً، بعضهم إلى دورات المياه. وبعضهم ينزلون ويخرجون إلى فناء السجن، لأخذ طابورهم من المشى والوقوف فى دفئ الشمس، وكنا فى أواخر ديسمبر، والبرد شديد. ثم وجدنا عدداً من الزملاء يتوجهون إلينا فيسلمون علينا، عرفت منهم الشيخ مبارك، زميلى القديم فى حدتو، وكان معه زميلآخر، طويل عريض غزير الشارب، ذا هيئة عسكرية، عرفت أنه فؤاد حبشى، أحد الزملاء القياديين فى حدتو.
وزميلان آخران. جلسوا معنا على نمرنان واستمروا حتى هدأ الوضع بعد انصراف الآخرين إلى الطابور. عرفوا بأمر وصولنا منذ أيام، وكانوا قد علموا بنبأ القبض علينا فى حينه مما نشرته جريدة الأخبار وقتها فى صدر صفحتها الأولى والذى جاء فيه - بالبنط العريض: القبض على زعماء الشيوعيين، وبعده: المقبوض عليهم أربعة، منهم اثنان من المحامين- هما عبد الجابر خلاف ومحمود توفيق، وصحفى هو صلاح حافظ وموظف هو بدير النحاس. ثم الصياغة المعتادة لأخبار اليوم فى رواية الأخبار، بفضل أخبار اليوم - عرف نبأ القبض علينا، فعرفت عائلاتنا، وعرف وزملاؤنا ورفاقنا فى كل مكان. وحمدنا لجريدة الأخبار ذلك.
تعددت لقاءاتنا مع الزملاء القياديين فى أوقات متعددة بعد ذلك حيث جرى التحقيق المألوف معنا عن ظروف القبض علينا للتأكد من أنه لم تكن هناك وشاية أو خيانه فى الأمر، ومن ثم لمعرفة أن أمن التنظيم، مازال سليماً لم يمسه أذى كبير. واعتبر الأمر منتهياً عند ذلك الحد.
ثم عرفنا الكثير عن وضع الشيوعيين المسجونين معنا. هناك الكتله الكبيرة، من زملاء حدتو الذين قبض عليهم على مدى عامى 53، 1954، وهناك مجموعات أخرى من الزملاء الشيوعيين، من مختلف التنظيمات الأخرى: ت ث - التيار الثورى، نحشم- نحو حزب شيوعى مصرى، نحس، نحو حزب شيوعى، الرايه- الحزب الشيوعى المصرى، ع ف، أو د ش، حزب العمال والفلاحين، النواة- نواة الحزب الشيوعى، النجم الأحمر، وغيرها، حتى أنه كان هناك عدد من الرفاق، غريبى الأطوار، من تنظيم يسارى متطرف، اسمه مشمش: م.ش.م المنظمة الشيوعية المصرية، الذى كان كبيراً فى وقت ما، ثم كاد الآن أن يتقرض. وكانت هناك مجموعة من الحزب الشيوعى الفلسطينى، منهم الشاعر الفلسطينى معين بسيسو وشقيقة، وآخرون، وكان قد قبض عليهم فى غزة التى كانت تحت الإدارة المصرية وقتها، وجئ بهم حتى يسجنوا ويحاكموا فى مصر، كما كانت هناك مجموعة من الحزب الشيوعى اليونانى، كانوا قد قبض عليهم فى مصر، ووضعوا رهن التحقيق فيها، ريثما يرحلون إلى اليونان.
كان هناك نوعان من المعاملة للمسجونين الشيوعيين، فمنهم فئة تعامل معاملة حرف أ، ينامون على أسرة، ويأكلون طعاماً من عند المتعهد، لا بأس به، ولديهم إضاءة، ويتمتعون بقراءة الصحف.. إلى جانب امتيازات أخرى فى الزيارات وغيرها، ومنهم فئة تعامل معاملة حرب بـ ينامون على الأرض، ويأكلون من طعام السجن، الفول والعدس واليمك، والجبن القريش، والعسل الأسود، وكلها من أردأ الأنواع، ولا يحظون بأيه امتيازات مما يحظى به حرف أ، وكان الذى يحدد ذلك هو قرار الحبس الصادر من النيابة، وفقاً لتعديل قانونى صدر مؤخراً لقانون الإجراءات الجنائية وكنا نحن الأربعة، ممن أمرت النيابة بمعاملتنا معاملة حرف ب.
علمنا أن العلاقة بين المسجونين الشيوعيين وبين إدارة السجن متوترة وتزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وقال لنا زملاؤنا إن النية تتجه غلى اليقام بإضراب عن الطعام احتجاجاً على سوء المعاملة، وكانوا فى الوقت الراهن يستعدون لهذا الإضراب. وكان التحضير للإضراب عن الطعام عند الشيوعيين، وربما عند غيرهم من المسجونين السياسيين، علماً وفناً له أصوله وقواعده. اختيار التوقيت المناسب له من الوجهه السياسية، تمهيد الرأى العام المحلى والدولى لهذا الإضراب، بشرح أسبابه ومبرراته وتهيأة هذا الرأى العام للتعاطف معه، لكى يقوم بالضغط على السلطات لتلبية مطالب المضربين، ولمتابعة تطورات الإضراب. ثم اختيار المضربين ممن تسمح لهم أوضاعهم الحية بالمشاركة فى الإضراب، إذ يجب استبعاد ضعاف الصحة، أو من لديهم حالات مرضية خطيرة، كمرضى القلب، والرئه، والكلى، والمعدة، من الاشتراك فى الإضراب، خوفاً على حياتهم، وحتى لا تكون ظروفهم عامل ضغط على زملائهم المضربين. ثم تحديد أفواج المضربين، من الذى يبدأ الإضراب، الأقوى صحة ومن ثم الأقدر على الاستمرار، ثم الأقل قوة، والذين سيدخلون كفوج ثالث. وبعد ذلك فهناك تحضيرات صحية للمضربين، إخلاء المعدة والأمعاء قبل الإضراب، وتطهير الفم والأسنان، وضمان نظافتها خلاله.
بعد حوالى العشرة أيام من وصولنا إلى سجن القناطر، بدأ الإضراب عن الطعام، وكنا نحن الأربعة من الدخلين فيه من الفوج الأول، وكان قد تم اختيار لجنه من غير المشاركين فى الإضراب، تتولى قيادته، كما تتولى ضمان الاتصال بالعائلات وبالرأى العام المحلى والخارجى، خدمة لهذا الإضراب.
فوجئت إدراة السجن بامتناعنا عن تسلم الطعام، سواء طعام السجن أو طعام المتعهد، وبإبلاغنا للسجانه والضباط، ببدء إضرابنا عن الطعام، وبأسباب إضرابنا، وهى سؤ المعاملة، وطلبنا إليهم إبلاغ النيابة العامة بذلك لتحرير المحضر اللازم بذلك قانوناً، وبدأنا نتسلم الطعام ولا نمسة، بل نتركة حتى يحضر السجانه لأخذه بعد فوات وقت تناوله، ونقل المضربون إلى الحجرات الكبيرة التى تسع كل منها عشرين فرداً، بينما نقل غير المضربين إلى حجرات أخرى. ونقلت أنا وعبد الجابر إلى حجرة، بينما نقل صلاح وبدير إلى حجرة أخرى، ولم يكن فى الحجرة إلا جردل الماء، وجردل البول. وكان الماء هو الشئ الوحيد الذى نتناوله حتى لا تصاب معداتنا وأمعاؤنا بالجفاف والتشقق.
فى الأيام الأولى للإضراب تجاهلت إدارة السجن الأمر، وبقينا ثلاثة أيام ولا أحد يسأل عنا أو يسألنا عن أسباب الإضراب أو عن طلباتنا. كما لم يحضر أحد من النيابة لسؤالنا.
وفى اليوم الخامس، دخل الفوج الثانى الإضراب، فأهتز موقف الإدارة نوعاً، وبعدها وجدنا بعض رجال النيابة يحضرون إلينا للإطلاع على أحوالنا ولسؤالنا. وكانت الإجابة واحدة، سؤ المعاملة، والإضراب حتى الموت. وعلمنا من زملائنا أعضاء لجنة المتابعة، أن العائلات قد بدأت تتظاهر أمام باب السجن، وأمام مصلحة السجون، وأن الصحافة الأجنبية، خصوصاً الفرنسية والبريطانية بدأت تنشر عن أخبار الإضراب وتعرب عن التضامن معنا.
فى اليوم العاشر دخل الفوج الثالث الإضراب، وبدأ موقف الإدارة والحكومة يهتز بشكل ظاهر، فأخذ مأمور السجن، يحضر بكلبه أكثر من مرة فى اليوم ويقف بأبواب الغرف، ويحاول الكلام مع المضربين، وهم لا عيرونه التفاتاً، وبدأ بعض رجال النيابة، من مستوى أعلى يدخلون، ليتحدثوا معنا، ونحن مصرون على أقوالنا: سؤ المعاملة، والإضراب حتى الموت.
فى تلك الليالى كنا نسمع كلما جن الليل صوتاً يغنى لنا من وراء شراعة غحدى الغرف بالدور الأعلى، باللغة اليونانية. وكان الصوت قوياً، يهز كل أركان السجن، وكان رائع الجمال، وعرفنا أنه نشيد من أناشيد الحزب الشيوعى اليونانى، كان يطلقه كل ليلة وبلا انقطاع منذ بدء الإضراب، رفيق يونانى من المسجونين معنا- اسمه ستافرو، تعبيراً عن تحيتنا، والتضامن معنا. كان هذا النشيد، والمعنى الكامن ورائه، يعطينا دفعة قوية من العزم والإرادة، ويشد من أزرنا، وكنا نجد فيه خير تعبير عن التضامن الأممى، وتأثيره القوى فى دعم نضال المناضلين، وفيما بعد قلت فى قصيدتى: دمع على طلل، فى ذكر هذا التضامن الأممى:
واحتفالات بمايو..وأكاليل الزهور
واحتفالات بأكتوبر..والعرض الكبير
...
وأناشيد عذاب..عن ربيع البشرية
ونداء للتآخى..فى ظلال الأممية
...
يا لها من صيحة دوت بأسماع البرية
أطلعت صبحاً جديداً..فى ظلام العنصرية
...
من فيتنام لكوبا..للصحارى العربية
ومن القطب إلى غابات أفريقيا القصية
...
ومعونات، وتعليم، ودعم بالسلاح
لشعوب تكسر القيد وتمضى للكفاح

وفى صباح كل يوم، كان يمر مأمور السجن، ومعه عبد العال سلومة، وضباط آخرون، ومعهم جمع من ضباط المصلحة ورجال النيابة، ليحاولوا الحديث معنا، وهم يأملون أن يروا منا بادرة ضعف أو تراجع، ولكنهم لا يرون منا إلا الصلابة والإصرار. وعندما كانوا يسألوننا: ماذا تريدون، كنا لا نجيب إلا بعبارة، سؤ المعاملة، الإضراب حتى الموت.
وأخيراً، فى اليوم السابع عشر، عندما سألونا: ماذا تريدون؟ قلنا لهم: اللجنة.
واتصلوا بأعضاء اللجنة- وكانت قد أصبحت معروفه لهم، وبدأوا التفاوض معها. واستمرت المفاوضات حتى المساء. واخيراً تم الاتفاق على تلبية مطالبنا، وحددت هذه المطالب كتابه، واتفق على وقف الإضراب بدأ من صباح باكر، اليوم الثامن عشر.
وغنى ستافرو فى تلك الليلة ثلاث أغنيات.
وفى الصباح جاءت لجنة السجن والمصلحة والنيابة، ومعهم أعضاء لجنتنا، وأبلغنا بالاتفاق. فوافقنا على إنهاء الإضراب. ولم يكن إنهاء الإضراب عن الطعام بالأمر السهل، بل كانت له طقوس وإجراءات هامه، حتى لا يؤدى تناول الطعام بعد هذه المدة الطويلة إلى ضرر بالغ، وربما إلى الموت. وهو ما تكرر حدوثه فى مثل هذه الحالة، سواء فى مصر أو فى الخارج. من ذلك وفاة الرفيق أنطون مارون، سكرتير عام الحزب الشيوعى المصرى سنة 1927 بعد إضرابه عن الطعام، وحين إنهائه.
وشاهدت سيد والى، مأمور السجن المتعجرف وهو يقوم بنفسه بتقديم أكواب الشاى باللبن- الدافئ إلى الزملاء، المستلقين على الأبراش على الأرض، ليكون هو أول ما يدخل إلى أجوافهم. ثم سمعته يقول لأحد رجال المصلحة: يقولون أن الشيوعييت لا يصومون فى رمضان لأنهم لا يستطيعون الصيام، فما قولكم فى هذا الصيام الطويل: سبعة عشر يوماً، يالهم من رجال!.
وتدرجنا فى تناول الغداء، حتى عدنا خلال أيام، إلى الوضع شبه العادى، وكنت أرى حالة زملائى بعد انتهاء الإضراب، فأكاد لا أعرفهم، كانوا قد فقدوا معظم أوزانهم، ولا أنسى منظر صلاح حافظ الذى كان نحيلاً من الأصل، فعندما رأيته بعد الإضراب، كدت أبكى.
وبعد أقل من أسبوع، تم ترحيلنا إلى سجن الاستئناف، نحن الأربعة، لتتم محاكمتنا بعد يومين، أمام محكمة الدجوى.

71- أمام الدجوى

أدخلنا إلى سجن الاستئناف الواقع فى درب سعادة، خلف مبنى محكمة مصر، وإلى جوار مبنى محافظة القاهرة، وأخذنا إلى حجرة بالدور الثانى من مبنى السجن المكون من عنبر واحد. وهناك استقر بنا المقام، كل على نمرة مكونه من البرش المعتاد، ومرتبة القش.. إلخ. وما أن بدأنا نستقر حتى حضر إلينا رجل كهل قدم نفسه لنا بأنه الأميرالاى محمود عبد المجيد، ضابط الشرطة السابق، والذى كان سجيناً مثلنا على ذمة قضية أخرى، هى قضية مقتل الشيخ حسن البنا، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، والذى كانت الثورة قد ألقت القبض عليه فى بداية عهدها، وتوجيه الاتهام إليه، على سبيل التودد إلى الإخوان المسلمين، عندما كانت العلاقة معهم مازالت فى مرحلة الود والتقارب، ولكن الآن، وقد ساءت العلاقات بين الطرفين، خاصة بعد محاولة اغتيال جمال عبد الناصر، ورغم سبق تقديمه إلى المحاكمة فى تلك القضية، والحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، فإنه يلقى فى هذا السجن أفضل معاملة، فبابه مفتوح باستمرار، وكل طلباته مجابه، وطعامه يأتيه من منزله أو من أرقى المطاعم، بل ويقال إن كبار رجال الدلخلية لا ينقطعون عن زيارته ليلاً والاجتماع به، وأخذ رأيه فى مختلف مشكلات الأمن، وخصوصاً ما يتعلق منها بالإخوان المسلمين.
قال لنا الأميرالاى محمود عبد المجيد إنه حضر إلينا لتحيتنا، لأنه يكن تقديراً وإعجاباً بالشيوعيين، لأنهم رجاله، لا يعترفون على أنفسهم ولا على سواهم، مهما كانت الضغوط التى تقع عليهم، بعكس الإخوان، الذين لا يحتملون أى ضغط يقع عليهم، إذ ينهارون ويبادرون إلى الاعتراف بكل صغيرة وكبيرة. وقال إنه - كرجل أمن - يشبه الأمر بالضغط على أكرة الباب، فإذا وجد الضاغط أن الأكرة تستجيب للضغط، وتلف تحت يده، فإنه يضاعف من قوة ضغطة حتى ينفتح الباب تماماً، وينال الضاغط ما يريد، وهذا هو الحال مع الإخوان وأمثالهم، أما إذا تيقن الضاغط أن الأكرة صلبة قوية، وأنها لا تستجيب لضغطه، فإنه ييأس منها، ويتركها لحالها، وهذا هو الحال مع الشيوعيين، وأمثالهم.
ولم نعلق بشئ على حديث الأميرالاى، بل تفهمنا دافعه إلى هذا القول. وسكتنا، غير أنه فاجأنا بأنه يدعونا اليوم على الغداء فى غرفته، وألح على الدعوة، فوافقنا، بعد قليل، حضر إلينا شاويش الدور وأخبرنا بأن الأميرالاى ينتظرنا على الغداء، فتوجهنا إلى حجرته، وكانت قريبة من حجرتنا، وجدناه قد مد سماطاً كبيراً على أرض حجرته - التى كانت مزودة بسرير ومنضدة وكرسى، وبها جهاز راديو، وصحف ومجلات كثيرة. وكان الغداء مكوناً من كم كبير من الكباب الفاخر، على صينية من صوانى الكبابجية، وأرغفة من الخبز المفقع الطازج، وأطباق عديدة من السلطات والمخللات المتنوعة. وبجوارها علبه كبيرة من الحلويات الشرقية، الكنافة والبقلاوة، والبسبوسة، كان الكرم واضحاً، والإكرام وافراً، فأكلنا، وكنا حديثى عهد بإضراب عن الطعام، دام سبعة عشر يوماً.
وفى الأيام الخمسة التالية، التى قضيناها فى سجن الاستئناف، لم يتخلف الأميرالاى عن دعوتنا إلى الغداء معه، مرة كباباً، ومرة سمكاً مقلياً شهياً، ومرة فسيخاً، ومرة حماماً محشياً أو مشوياً.. إلخ. وأخذنا تصرفاته تلك على مأخذ حسن النية، والرغبة فى اكتساب مودة الشيوعيين، وكفاه كراهية الإخوان له. ولكننا لم ندخل معه فى أى حديث عن قضيته، وهو نفسه لم يشر إليها من قريب أو من بعيد.
كان ذهابنا إلى سجن الاستئناف، بعد حوالى أسبوع واحد من تنفيذ حكم الإعدام فى الإخوان المسلمين السته، الذين حكم عليهم فى قضية الشروع فى اغتيال جمال عبد الناصر. وكانت غرفتنا تطل على غرفة الإعدام الواقعة فى الدور الأرضى من ذلك العنبر. وكان جو الإعدام مازال مخيماً على المكان. وكنا قد قرأنا عنه بعض ما كتب عنه فى بعض الصحف والمجلات. ثم تطوع بعض الأشخاص الذين لقيناهم فى ذلك السجن، ومنهم بعض الجنود والسجانه الذين كانوا يتباهون بأنهم شهدوا الواقعة أو علموا بما دار فيها عن قرب.
وصفوا لنا وصفاً شبه مفصل كيفية إحضار الإخوان السته من غرف المحكوم عليهم بالإعدام، إلى غرفة المشنقة، وكيف واجه كل منهم الموقف. البعض جاء ماشياً متمالكاً لنفسه، والبعض الآخر كان لا يقوى على السير على قدمية، فأحضره السجانه وهم يحملونه أو يسحبونه على الأرض. البعض منهم طلب أن يشرب ماء، والبعض الآخر لم يطلب أو يقبل شيئاً. لم يختلف الرواة فى شأن أى منهم، واتفقوا جميعاً فى روايتهم عن المرحوم عبد القادر عودة، الذى جاء يمى بقوة وثبات، والذى رفض أى شئ، والذى قال بصوت جهورى بعد أن قرأ فاتحة الكتاب، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم صاح وهو يدخل إلى غرفة المشنقة: اللهم أجعل دمى لعنة على رءوس رجال الثورة أجمعين. قال هذا ثم دخل إلى المشنقة وهو يردد: ولست أبالى حين أقتل مسلماً، على أى جنب كان فى الله مصرعى.
وكنت شديد التأثر بهذه الروايات، فقد كنت متعاطفاً مع عبد القادر عودة، منذ رأيته وهو يخطب من شرفة سراى عابدين حيث كان يقف إلى جوار محمد نجيب، أيام استقالته. وكذلك فإننى - كمحام ورجل قانون، كنت أستبعد جداً، أن تكون لعبد القادر عودة، وهو قاض كبير، أى علاقة بالجريمة التى أعدم من أجلها. وكنت اعتقد استناداً إلى الوقائع التى أعلن عنها، أنه ربما كان محمود عبد اللطيف، جانياً فى تهمة الشروع فى القتل، التى أعدم من أجلها، رغم نفى الإخوان ذلك، وربما كان واحداً أو اثنان من باقى المتهمين قد اشترك معه، بالتحريض أو الاتفاق فى اقرافها، أما باقى المتهمين الخمسة، فكان إحساسى أن الحكم عليهم، وإعدامهم، كان أمراً سياسياً بحتاً، لا علاقة به بالحق والعدل والقانون وخاصة وأن الذى كان قد أصدر هذا الحكم، ليس محكمة ولا قضاة بمعنى الكلمة، وإنما كان مجلساً عسكرايً مكوناً من ثلاثة ضباط، كان رئيسة جمال سالم، وعضواه أنور السادات، وحسين الشافعى، وثلاثتهم لم يكونوا من القانون أو القضاء فى شئ.
فى صباح اليوم التالى، أخذنا من سجن الاستئناف، وأدخلنا إلى محكمة جنايات باب الخلق من بابها الخلفى، ثم أدخلنا إلى إحدى قاعات جلسة الجنايات.
كان هناك حشد كبير من رجال الشرطة فى سائر ممرات المحكمة وردهاتها. وفى القاعة وأمامها وجدنا حشداً من الناس يقفون أو يجلسون. فى مقاعد المحامين، كان يجلس الأستاذ أحمد الخواجة، المحامى الشهير، والذى أصبح فيما بعد نقيباً للمحامين لسنوات طويلة، وزميلى الأستاذ أحمد البدينى، المحامى اللامع، والذى كان زميلاً لى فى مدرسة حلوان الثانوية، ثم فى كلية الحقوق، واثنان آخران من المحامين. وكانوا جميعاً يرتدون أرواب المحاماه، كما كان هناك حشد من الصحفيين من مندوبى الصحف المصرية والأجنبية. وكان فى القاعة جمع من أقاربنا ومعارفنا، كانت منهم سهير ومعها ابنتنا ليلى - التى كانت فى الثانية من عمرها، بينما كانت سهير فى أواخر شهور حملها فى أبننا الثانى يوسف، وكان معهما أحد أقربائنا للمساعدة، ثم كانت هناك هدى زكى، زوجة صلاح، ووالده المسن حافظ أفندى، وربما بعض أقارب صلاح الآخرين.
بعد وصولنا، أدخلنا إلى قفص الاتهام، وبعد قليل، حضر أحد الأطباء الضباط، من القوات المسلحة، وقيل لنا إنه جاء لتوقيع الكشف الطبى علينا، والتقرير بصلاحيتنا - طبياً - للمحاكمة، كما يقضى بذلك نظام المحاكمات العسكرية، دخل الرجل، إلى القفص، وأخرج سماعته من حقيبته، وطلب منا فتح ملابسنا حتى الكشف على قلوبنا. وفى دقائق، كشف على قلوبنا نحن الأربعة، وقرر صلاحيتنا للمحاكمة، رغم علمه بأننا كنا فى إضراب طويل عن الطعام منذ أيام قليلة، كما أخبره المحامون.
كان أحمد الخواجة موكلاً للحضور عن عبد الجابر، وأحمد البدينى عن صلاح حافظ، أما أنا، وبدير الناحاس، فلم يكن هناك محامون موكلون عنا، فانتدبت لنا النيابة اثنين من المحامين، من الجدول، وإن كان الخواجة والبدينى، قد أخبرانا، بأنهما سيتولون الدفاع عنا إذا أقضتى الأمر.
جلسنا فى قفص الاتهام على دكة خشبية، وكان المحامون يأتون ليتحدثوا إلينا كلاماً ظاهره الاطمئنان إلى الحكم الذى سوف يصدر فى القضية على نحو مرضى، وباطنه التوجس والقلق، فالدجوى هو الدجوى الذى كانت شهرته فى القسوة والشراسة تسبقة فى كل القضايا التى ينظرها ويحكم فيها. وكان الأهالى يحضرون إلينا ليتكلموا معنا خلال الشباك الحديديه التى تحيط بالقفص. وحضرت سهير وهى تحمل ليلى على ذراعها، بينما كانت بطنها تشى بأنها أصبحت فى آخر وقت الحمل. وكان الكلام ودوداً رغم ما كان يشوب الموقف من القلق، وسررت عندما رأيت ليلى تتعرف على، وترمى لى بقبلة بيدها من وراء الشباك.
ثم جاء الحرس وكتبه الجلسة، فطالبوا كل المتواجدين بالجلوس والهدوء، قائلين بأن الجلسة على وشك أن تبدأ.
فى تلك الدقائق، مر فى خاطرى شريط به كل ما سمعته أو عرفته عن هذا الشخص المسمى الدجوى، وما يتسم به من جهل وغرور وسلاطة لسان، لعلها هى التى أهلته لكى يتولى محاكمة السياسيين ممن تعتبرهم الثورة أعدائها، ومن شراسة فى التعامل معهم، بل ومع المحامين الذين يحضرون للدفاع عنهم، أما الأحكام الذى تصدر منه، فهى فى الواقع تملى عليه من سادته الذين اختاروه لأداء هذا الدور التمثيلى، دون أى جدارة أو استحقاق. وكان قد حكم فى العامين الأخيرين فى عدد من القضايا السياسية، ضد شخصيات بارزة، من رجال الأحزاب السابقين، ومنهم بعض الشيوعيين، فكان يتعمد إهانتهم والإساءة إليهم أثناء المحاكمة، أما الأحكام فكانت دائماً أحكاماً فاضحة. جلست أتأمل كل ذلك، وأنا وزملائى، وليبدأ معنا ممارسة ساديته وسماجته ونرجسيته المعروفه. ووجدت فى نفسى رغبة متصاعده فى أن أتصدى لهذا الشخص بطريقة تبعثر كبرياءه، وتقلب الموقف رأساً على عقب، وتهدم كل ما بناه لنفسه من سمعتة كاذبة، وتتضمن فى نفس الوقت، رسالة جارحة للدكتاتورية العسكرية، التى تسلطة على رقاب العباد.
وبرزت فى ذاكرتى عنه واقعة حديثة، تزيد من رغبتى فى التصدى له احتداماً، إذ من سوء حظه أنه كان قد نشر له منذ أيام حديث صحفى فى مجلة المصور، تحدث فيه عن الشيوعية، فهاجمها بطريقة جاهلة حمقاء، مدعياً أن الشيوعية فى رأيه هى والصهيونية شئ واحد. وها هو الآن، يأتى ليحاكم متهمين بالشيوعية، ليفرغ فيهم كل جهله وحماقته، باعتبارهم فى نظره صهاينة أيضاً، واستقر عزمى على أن هذه فرصة لا تعوض.
دق الحاجب بقدمة على أرضية القاعة وهو يصيح: محكمة!، وارتجفت أركان القاعة، وهب كل من فيها وقوفاً، وفى نفس الوقت، فتح باب غرفة المداولة، ودخل الدجوى، وورائه هيئة مجلسه العسكرى العشرة.
رأيت رجلاً يلبس الزى العسكرى، برتيه ونياشينه ذات الألوان الزاهية، والكاب العسكرى الموشى باللون الأحمر الفاقع، وهو يمشى مختالاً وكأنه الطاووس، مستعرضاً عظمته أمام الأنظار، متئداً حتى يتدفق باقى أعضاء هيئته العسكرية، ليقف هو ومن معه، كل خلف المقعد المخصص له، ثم يجود على من فى القاعة بابتسامة مسرحية، ثم يجلس على مقعد الرياسة المتميز، ويشير لباقى الأعضاء، ثم لجمهور القاعة بالجلوس. فيجلسون.
شعرت أن هذا الرحل أصبح ملكى أنا - فى هذا اليوم. لا مفر. أمر بفتح الجلسة، ثم نادى على المتهمين الأربعة، خلاف، وأنا، وصلاح، وبدير النحاس، نادى علينا متمما على حضورنا. ثم توج إلينا بالحديث بعبارة باهته ظنها ستمر مر الكرام، ولم يقدر أنها ستقلب الموقف على رأسه. قال:
-هل لدى أحد من المتهمين اعتراض على أن أتولى أنا، أو أى أحد من أعضاء هذه الهيئة الموقرة، محاكمته؟
كان قد ردد هذه العبارة فى كل المحاكمات التى تولاها، ولم يترتب عليها أى أثر. ولكن: حدث هذه المرة شئ مختلف.
-وقفت أنا فى داخل القفص بصورة ملفته للأنظار، وصحت بأعلى صوتى:
-نعم - أنا أعترض.
فودئ الرجل وامتقع لونه. ثم تلعثم، وسأل:
-مين؟ فقلت له بصوت قوى:
-أنا محمود توفيق المحامى..المتهم الثانى.
فقال بلهجة ساخرة أراد يسترد بها سيطرته على الموقف:
-إذا كان عندك أسباب للاعتراض، قولها للمحامى بتاعك، وهو يكتب لى بيها مذكرة بعد الجلسة.
وجدت نفسى أصيح فيه:
-لا- من حقى أن أقول أسباب اعتراضى علناً وعلى رءوس الإشهاد، ومن فضلك لا تقاطعنى، خصوصاً أن اعتراضى ينصب عليك أنت شخصياً.
بهت الرجل، وأخذ يهز رأسه فى دهشة، بينما قاعة الجلسة يخيم عليها سكون تام وكأن كل الموجودين قد انقطعت أنفاسهم. واضطر الرجل أن يتظاهر بالثبات. فقال:
-قول اللى عندك، بس باختصار. قلت له بصوت المحامى المدرب.
-اعتراضى عليك، سببه أنك لا تصلح لأن تكون قاضياً. فهناك شرطان أساسيان للصلاحية للقضاء والأول - هو العلم: وأنت شخص جاهل - وخصوصاً بالقانون، وبالسياسة، وهذه قضية سياسية، فليست لك أيه مؤهلات لا قانونية ولا سياسية. وحتى فى الجيش يوجد كثيرون لهم مؤهلات قانونية، نواب أحكام مثلاً، كما يوجد آخرون عرف عنهم الثقافة السياسية، ولست من هؤلاء ولا هؤلاء، فلماذا اختاروك أنت بالذات لتتولى محاكمة السياسيين، مع أنك شخص جاهل؟ السبب هو أنك شخص انتهازى ولا تتوافر لديك النزاهة اللازمة للقاضى، وهذا هو المؤهل الثانى للقضاء. وسأضرب مثلاً على ذلك، فأنت لك حديث فى مجله المصور نشر منذ أيام، تقول فيه: إن الشيوعية والصهيونية شئ واحد، وهذا جهل فاضح، فالشيوعية والصهيونية هما طرفا نقيض. الشويعية فيها مبدأ أساسى هو الأممية، والصهيونية مذهب عنصرى ينادى بتفوق العنصر اليهودى على كل البشر. أنك بجهلك وانعدام نزاهتك، تريد أن تلفت نظر أعداء الشيوعية فى الداخل والخارج، إلى أنك تحت أمرهم وفى خدمتهم، تلك هى أسباب اعتراضى.
رأيت الدجوى وهو يلوح بيديه وكأنه فقد القدرة على النطق أو التنفس، ثم وهو يقف ويهرول خارجاً من القاعة إلى غرفة المداولة، وخلفه باقى أعضاء المجلس. وكان يهرول متجهاً من خلف المنصه نحو غرفة المداولة، وكانت تقع على مسافة ما، وتابعته بالصياح.
-أنت تتظاهر بأنك قاضى، وأنت مجرد ممثل هزلى، والأحاكم جاهزة قبل أن تنظر القضية. فلا داعى لكل هذا التمثيل، وأخرج الأحكام من جيبك. أخرج الأحكام من جيبك. وكان قد وصل إلى غرفة المداولة فدخلها، وخلفه باقى أعضاء المجلس العسكرى الذين كانوا قد لحقوا به. وساد السكون برهة قصيرة.
ثم دبت الحياة فجأة فى القاعة، فوقف كل من فيها، وهو لا يعرفون ماذا يقولون، ثم بدأ المحامون يتكلمون فيما بينهم، أما الصحفيون فقد خرجوا من القاعة مسرعين.
أحسست بأننى أخذت ثأرى مقدماً من الدجوى، ومن الدكتاتورية العسكرية، وأننى بعدالآن لم أعد أبالى بما يفعلونه بى. لقد أرسلت الرسالة، وها هى الرسالة قد وصلت. وصلت إلى الأهالى، ووصلت إلى المحامين، ووصلت إلى الصحافة والصحفيين.
عاد الدجوى إلى الجلسة بعد نصف ساعة، أصفر اللون، زائغ النظرات. وما أن بدأت الجلسة حتى وقف أحمد البدينى - المحامى، فستأذن فى كلمه "لابد منها- وظن الدجوى، أن البدينى سوف يسعى إلى تهدئة الموقف واسترضائه، لإذن له بالكلام، فقال:
-بعد الذى سمعناه من المتهم الثانى- الأستاذ محمود توفيق المحامى - أشعر أن من واجبى أن أتقدم إلى السيد رئيس المجلس برجاء حار، هو أن يتنحى هو بنفسه عن رئاسة المحكمة، وذلك حفظاً لكرامته، وضماناً للعدالة..
وطاش صواب الدجوى مرة أخرى، فأخذ يدق بقبضة يدة على المنصة، ويصيح:
-نعم ياسى أحمد يابدينى، أتنحى؟.. أنا أتنحى، ده بعدكم، انت فاكرنى مش عارف انت مين، وبتقول كده لية، أنا أقدر أدخلك القضية معاهم، أقعد أحسن لك.
وجلس أحمد البدينى وهو لا يعرف ماذا يقول. ونهض أحمد الخواجة، وكان أكبر المحامين سناً وأبرزهم مكانه. وتكلم موجها حديثه للدجوى وهو يحاول إنقاذ البدينى:
-أما أنا فأتوجه إلى سيادة الفريق - رئيس الهيئة، برجاء آخر، هو أن يأخذ كلام زميلى الأستاذ أحمد البدينى على محمل حسن النية. وعذره فى ذلك، أنه أراد أن يؤدى واجبه كمحام. فعذراً يا سيادة الرئيس.
وأصدرت الدجوى قراره بتأجيل الدعوى إلى جلسة باكر، على ألا يحضرها إلا المتهم الأول ومحامية. أما الثلاثة الآخرون، فيحضر كل منهم محامية تباعاً فى الأيام التالية.
فيما بعد- علمت أن الرفاق فى الخارج، قد عرفوا بكل ما دار فى تلك الجلسة، وأنهم أصدروا كتيباً عنها بعنوان "أربعة رفاق يحاكمون الدجوى"، وجرى توزيع هذا الكتاب سراً، ولكن على نطاق واسع.
وفيما بعد ذلك بوقت طويل جدا، بعد ثلاثين سنه، وقعت لى حادثه غريبة جعلتنى استكمل قصة الدجوى معى، أو قصتى مع الدجوى.
ففى أحد الأيام فى عام 1985، كنت أعمل مستشاراً قانونياً بمنظمة التضامن الأفريقى الآسيوى، وأثناء جلوسى مع المرحوم الأستاذ كمال بهاء الدين، وكيل أول وزارة الثقافة. ومساعد رئيس المنظمة المرحوم الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى، دخل عند الأستاذ كمال زائر له، هو المرحوم اللواء نائب أحكام محمد حفنى محمو، ابن المرحوم حفنى باشا محمود، السياسى المعروف ومن وجهاء حزب الأحرار الدستوريين سابقاً، وكان صديقاً لكمال، وجلست معهما فترة ما، ثم استأذنت وانصرفت.
ولكن أخبرنى كمال أنه بعد انصرافى، قال له محمد حفنى إنه يعرفنى. ثم روى له أنه كان عضواً فى المجلس العسكرى الذى كنت أحاكم أمامه والذى كان يرأسه الدجوى. ثم روى له ما حدث ذلك اليوم، وأثناء جلوسة مع أعضاء المجلس، كان فى غاية الغضب والاهتياج، وأنه طلب منه هو - بصفته نائب أحكام، أن يبحث له فى القوانين عن أى نص يجيز له الحكم بالإعدام على "الولد ده"، وشدد عليه فى هذا الطلب.
وقال محمد حفنى إنه عاد يومها إلى منزله، فوجد والده الباشا هناك، ولاحظ والده أنه كان متوتراً مشغول البال، فسأله عن سبب ذلك، فقص عليه القصة، وأخبره أن الدجوى ينتظر منه صباح الغد نتيجة بحثه عن نص فى القوانين يجيز له الحكم على "الولد ده" بالإعدام. وأنه متكدر لذلك. وكا حفنى باشا، رغم أنه من أقطاب حزب الأحرار الدستوريين اليمينى، إلا أنه مشهور عنه ظرفه وثقافته، وميوله التقدمية. وبعد أن سمع القصة قال لنجله: ولا يهمك، قل له إنك دورت طول الليل فى الكتب، مالقتيش نص بالشكل ده. ثم أضاف: ملعون أبوه ابن كلب.
ولا يمكننى أن أهى هذا الحديث عن الدجوى، قبل أن أروى واقعة هامة عنه. فعندما نشبت الحرب يوم 5 يونيو 1976 بيننا وبين إسرائيل، كان الدجوى حاكماً لقطاع غزةة بعد أن رقى إلى رتبة الفريق (طبعاً مقابل خدماته للنظام)، وعلمنا أنه قد وقع أسيراً هو ومن معه من الضباط والجنود فى يد القوات الإسرائيلية. وطنطنت إسرائيل بهذا الأمر وراحت تذيعه وتعلق عليه بما تحبه وتهواه.
وفى مساء يوم 5 يونيو نفسه، أذاع راديو إسرائيل فى إذاعته العربية، تحقيقاً إذاعياً مع الدجوى، جاء فيه:

س: اسمك إيه؟
جـ: اسمى الفريق محمد فؤاد الدجوى.
س: بتشتغل إيه؟
جـ: حاكم قطاع غزة.
س: هل وقعت أسيراً أنت وجنودك وضباطك فى يد القوات الإسرائيلية.
جـ: نعم.
س: ومتى حدث ذلك؟
جـ: اليوم صباحاً.
س: وهل استسلمت من تلقاء نفسك أم وقعت أسيراً فى القتال؟
جـ: لا - استسلمت ومن معى دون قتال.
س: وهل سلمت جميع أسلحتك أنت وقوتك؟
جـ: نعم - سلمناها.
س: وما هى تلك الأسلحة التى قمتم بتسليمها؟
جـ: هى.. (وهنا بدأ الدجوى يقرأ من قائمة سلمها له المذيع، تحتوى بياناً بأنواع وكميات الأسلحة التى قام هو ورجاله بتسليمها للعدو طواعية ودون قتال. وكانت أسلحة هائلة النوع والعددد. دبابات، وعربات مدرعة، ومدافع رشاشة من مختلف الأنواع، ثم أسلحة صغيرة، رشاشات، وبنادق، ومسدسات، ثم قنابل يديوة وذخائر مختلفه. كل ذلك بكميات وإعداد هائلة. وكلها من صنع روسى وتشيكى، ومن أحدث الأنواع.
وتروى لى سهير أنها كانت تجلس مع والدها - يوسف صديق- وهو يستمع إلى الإذاعة الإسرائيلية، إلى أن أنتهى كلام الدجوى، فقام يوسف صديق من مكانه وصاح وهو يشد شعره:
-كل هذه الترسانه من الأسلحة مع الدجوى وهو يستسلم ويسلمها للعدو دون قتال، ثم يضيف، لا عجب فى ذلك، فالذى يفعل مع المصريين فى وقت السلم ما عرفناه عنه، لا ينتظر منه أن يفعل غير هذا مع العدو فى وقت الحرب!
ولكن القصة لا تنتهى عند هذا الحد، إذ علم الناس جميعاً أن الفريق الدجوى، بعد إبرام الهدنة، أفرج عنه ضمن من أفرج عنهم من الأسرى، وأعيد إلى عمله بالقوات المسلحة، ثم قام بعد ذلك برئاسة مجالس عسكرية حاكمت العديد من المصريين.. فتأمل!.

72- فى ليمان طره

انتهت أيام محاكمتنا تباعاً أمام الدجوى، وقامت المحكمة بحجز الدعوى للحكم، وتمت إعادتنا إلى سجن القناطر. وهناك استقبلنا الزملاء، الذين كانوا قد تابعوا مجريات المحاكمة وعرفوا وقائعها، بحفاوة بالغة. وأمرت إدارة السجن بترك أبواب الزنازين فى كل العنبر مفتوحة طوال اليوم، حتى يسهل انتقال الزملاء إلينا، وجلوسهم معنا فى مجموعات متعاقبة. شاهدنا والتقينا بكل الزملاء المسجونين، سواء من منظمتنا "حدتو". أو من المنظمات الأخرى، وحتى مصطفى كمال صدقى، وبكر سيف النصر، وسيد البكار، ممن كانت الأحكام قد حكمت عليهم بالسجن لمدة سنتين أو ثلاثة، من الدجوى أيضاً، فى قضية سابقة من قضايا الجبهة الوطنية. لذلك لم يرحلوا إلى ليمان طره مع غيرهم من المسجونين فى تلك القضية. من الشيوعيين، ولكونهم هم ليسوا شيوعيين تماماً. بل وفديين أو عاطفين على الشيوعية فقط. وحتى الرفاق اليونانيون، وكانوا حوالى خمسة عشر شخصاً، فقد حضروا لتحيتنا، وكان بعضهم يتكلم العربية قليلاً، لكونهم من البحارة، أما الآخرون فكانوا يتحدثون معنا بإنجليزية ضعيفة.
وفى المساء، ما أن هبط الليل، حتى سمعنا صوت ستافرو، يجلجل بالغناء، نشيد الأممية، باللغة اليونانية، ولكن بلحنة الدولى المعروف.
ومسحت هذه الحفاوة كثيراً من آثار الضيق الذى حل بنا. عند لقائنا - غير المستحب بالسيد الدجوى.
مكثنا فى سجن القناطر حوالى ثلاثة أسابيع فى انتظار صدور الأحكام فى قضيتنا، ومعرفة ما سيحل بنا بعدها، أما أنا فكنت انتظر زيارة سهير بشئ من القلق، إذ كانت تلك مدة طويلة نسبياً منذ رأيتها وأنا فى المحاكمة أما الدجوى. وقد قدرت أنها غالباً قد وضعت مولودنا الثانى فى هذه الأثناء، وكان هذا هو سبب تأخرها فى الزيارة.
وأخيراً، أخطرتنا إدارة السجن بأن لى زيارة اليوم، الموافق 17 يناير 1955، وذهبت إلى مكان الزيارة، وكنت أعرف أنها زيارة خاصة، وأتوقع أن تتم فى أحد المكاتب كالمعتاد، ولكننى فوجئت بشخص سمج يتصدى لى بكل سخافة، ليقول لى إن الزيارة ستكون من وراء السلك، شأن الزيارات العادية، رغم أن سهير كانت تحمل تصريحاً كتابياً بزيارة خاصة. وصمم الضابط السخيف على كلامه، رغم علمه من اسم سهير، باسم والدها، ورغم التصريح الكتابى الذى بيدها. وأردت أن أرجعه فى موقفه المتشدد دون وجه حق، فصمم على هذا الموقف. وكنت بين أمرين، أن أرفض هذه الزيارة بهذا الوضع غير القانونى، وغير المقبول، ومعنى هذا أن ترجع سهير، ومعها ليلى الصغيرة، ومعها مولدها الذى كنت أراها تحمله على ذراعها، والذى لم أكن قد رأيته أو حتى علمت بمن هو حتى الآن، وكانت معهم والدتها، السيدة توحيدة هانم، وهى سيدة وقورة. حاولت أن أشرح لهذا الضابط السخيف، هذه الظروف، ولكن بدا لى أنه يغتنم هذه الفرصة ليعبر عن سفالته. وعلمت بعد ذلك، أن هذا الضابط كان اسمه: حسن منير. وهو اسم أصبح مشهوراً بعد ذلك بسفالته وإجرامه، وبكراهيته المرضية للشيوعيين. وسيأتى ذكره فى مواضع أخرى من هذه الذكريات، فيما بعد.
رضخت، تحت ضغط الضرورة لإتمام الزيارة من وراء السلك، أى بشروط هذا الضابط السخيف.
ولم تستمر الزيارة بهذا الوضع طويلاً، إذ بينما أنا واقف وراء السلك أتحدث مع سهير، لأهنأها بالسلامة، وآبارك لها بمولودنا الجديد - يوسف صديق- الذى كنت أراه فى لفالاته دون أن أستطيع لمسه أو تقبيله أو حتى حمله على ذراعى، كل ذلك، والضابط السخيف واقف يتفرج، وكأنه يتضفى باكتشافه هذا النوع الجديد من وسائل التعذيب. ولكن فجأة ظهر من باب الزيارة، العقيد سيد والى، وهو يمسك بمقود كلبه الولف، وشاهد الموقف، وفهمه، ثم استمر فى سيره إلى أن خرج من الباب المقابل، بعد أن نظر إلى حسن منير نظرة واحدة ذات مغزى، بعدها رأيت حسن منير يشير لشاويش الزيارة، ويميل عليه ويلقى إليه ببعض الكلمات، فأقبل الشاويش مسرعاً وفتح لى باب طرقة الزيارة. فخرجت إلى حيث سهير ووالدتها، وليلى ويوسف، ومكثت معهم وقتاً مناسباً. رأيت فيه يوسف صديق الصغير لأول مرة، وحملته فى ذراعى وقبلته، ونظرت فى وجهه، فرأيتنى فيه مصغراً، ورأيت يوسف صديق الكبير مصغراً كذلك وتمت هذه الزيارة وأنا - وزوارى واقفين. ثم انتهت الزيارة، وخرج الزوار، وكانت آخرهم ليلى التى ظلت متمسكة بى لآخر لحظة.
خرجت من مكان الزيارة وأنا أكظم غيظى من هذا الضابط الغريب فى شذوذه، وأدعو الله أن يتيح لى فرصة لتأديبه.
مكثنا فى سجن القناطر أسبوعاً آخر، ثم استدعينا - نحن الأربعة - إلى مكتب مأمور السجن، فوجدنا عنده ثلاثة ضباط بملابس القوات المسلحة، وعلمنا أنهم أعضاء فى المجلس العسكرى، وأنهم جاءوا ليعلنونا بالأحكام التى أصدرها المجلس علينا. وبدأ واحد منهم فى تلاوة تلك الأحكام:
-محمد عبد الجابر خلاف، حكمت عليك المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات.
تلقى خلاف الحكم بثبات، ثم صاح هاتفاً: تسقط الديكتاتورية العسكرية.
محمود محمد توفيق، حكمت عليك المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة ثمانية سنوات.
تلقيت الحكم أيضاً بثبات، ثم صحت هاتفاً: تسقط الديكتاتورية العسكرية.
-محمد صلاح الدين حافظ: حكمت عليك المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة ثمانية سنوات.
وتلقى صلاح الحكم بنفس الثبات، ثم صاح تسقط الديكتاتورية العسكرية.
-بدير على النحاس: حكمت عليك المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات.
وتلقى بدير الحكم بنفس الطريقة، ثم هتف : تسقط الدكتاتورية العسكرية.
ثم أخذنا، لا إلى مكاننا فى العنبر، ولكن إلى عنبر صغير فى أقصى فناء السجن، مكتوب عليه: عنبر التأديب.
أدخلونا فى إحدى زنازين التأديب، فوجدناها عارية تماماً من أى شئ، لا برش،ولا مرتبة، ولا وسادة، ولا بطانية، فقط أرض عارية يكسوها الأسفلت الأسود كأسفلت الشارع. ثم جئ لنا بجردلين، واحد للماء، والثانى للبول، وأغلق علينا باب الزنزانية، وكنا واقفين، فجلسنا على الأرض، وبقينا صامتين. أشعل صلاح سيجارة، وأعطانى سيجارة أشعلها لى. وفجأة انفجر عبد الجابر ضاحكاً. ثم بدأت الكلمات تأخذ طريقها من الأفواه.
بدأنا نعلق الأحكام، واتفق رأينا على أنها محسوبه بدقة، فالحد الأقصى لعقوبة جريمتنا، وهى تأسيس وقيادة وإدارة تنظيم يعمل على قلب نظام الحكم، وتغيير المابادئ الأساسية للهيئة الاجتماعية، هو الأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات، شامله بعض التحابيش مثل الدعوة والدعاية للمبادئ الشيوعية، وإحراز المطبوعات التى تتضمن ذلك.. إلخ، وقد أعطى عبد الجابر هذا الحكم باعتباره كبيرنا، سناً ومقاماً، وابن عمدة فى الصعيد، وصاحب سابقة فى قضية شيوعية حكم عليه فيها بالسجن سنتين، وأمضاهما، فلم يكن هناك سبيل إلا بإعطائه الحد الأقصى. وأما أنا وصلاح، فكانت التهمة هى هى، ولكن لم تكن لنا سوابق فأعطى كل منا ثمانى سنوات. وأما بدير النحاس، فكانت التهمة هى هى أيضاً، ولكنه كان أصغرنا سناً، فوجدت المحكمة فى ذلك سبباً لاستعمال الرأفة، لإثبات أنها تعرف شيئاً عن أصول العدالة وحكمت بالأشغال الشاقة خمس سنوات.
قضينا يوماً واحداً على هذا الأسفلت، وفى المساء والصباح أعطى لكل منا رغيف واحد بلا إدام، ولكننا التهمناه، واكتفينا بعد بقدح من الماء.
لم يكن ضحى اليوم التالى يأتى، إلا وقد أخذنا من التأديب إلى الهنبر، حيث طلب منا جمع أشيائنا من الحجرة، ثم أخذنا بسيارة بوكس، إلى ليمان طره، وهو اخر المطاف لعتاة المجرمين، المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة.
وصلنا إلى ليمان طره قبيل الظهر، وأدخلونا من البوابة الرئيسية الواقعة عند شريط قطار حلوان، إلى المكاتب، حيث تم تسجيل بياناتنا، ولم نكن فى حاجة لا إلى حلق شعرنا ولا تغيير ملابسنا، فقد كنا قادمين من سجن القناطر، وكانت شعورنا حليقة، كما كانت ملابسنا زرقاء كلون ملابس الليمان.
أدخلونا من باب الوسط، إلى فناء السجن، حيث تتفرع منه أربعة عنابر كبيرة، كما يقع فيه مبنى الإدارة، ومبنى للمرافق، من أماكن للغسيل والاستحمام والورش، ثم مستشفى متوسط الحجم، ثم مبنى لعنابر التأديب، وعلى بعد قريب يقع منزل المدير، والمأمور، والضباط.
ادخلونا إلى أحد العنابر، وهو الذى تقع فيه غرف المسجونين السياسيين، وفى أحد أدواره توجد غرفتان كبيرتان للشيوعيين، أما باقى الغرف فهى للإخوان المسلمين. قبل أن ندخل إلى أى من الغرفتين المخصصتين، سمعنا جلبة كبيرة وصوت أقدام كثيرة تسير فى الفناء، وبعضها يدخل إلى عنبرنا، والباقى يدخل إلى عنابر أخرى. كان صوتاً كهزيم الرعد، أو كهدير الأمواج، أو كصوت القطار وهو يسير فوق القضبان. وعلمنا أن ذلك هو صوت مسجونى الليمان، وهم يعودون من الجبل مكبلين بقيود الحديد من أوساطهم ومن أرجلهم. ثم جنزير طويل من الحديد يسمى "الحجلة" يضفرون فيه صفوفاً طويلة - بطريقة معينة، وكل هذه القيود والسلاسل، الهدف منها الحيلولة دون الهرب، مع إلقاء الرعب فى النفوس. وفيما بعد، كتبت فى إحدى قصائدى، وهى قصيدة "أغنية سجين" -أقول:
أنا هاهنا خلف الحديد وتحت سلطان الحديد
لكن قلبى كالطبيعة لا يقيده القيود
فإذا الربيع بدت بشائره على الوادى الجميل
فأنا هناك، مع الربيع، على الجداول والحقول
روحاً محلقة على الوديان ترقص والسهول
فى نشوة الأمل الكبير..ورعشة الألم الطويل
وفى قليل صعد زملاؤنا مكبلين بالسلاسل والقيود، ومضفورين فى الحجلات، وصعدوا السلالم وأصوات السلاسل تصطك وترتطم،إلى أن وصلوا إلى حيث كنا ننتظرهم واقفين، ثم بدأ السجانه يفكونهم من الحجلات، ويفكون عنهم السلاسل والقيود، وأدخلوهم فى الغرفتين على مجموعتين، وأدخلونا نحن الأربعة مع إحدى المجموعتين.
كانت إحدى المجموعتين، تشمل العدد الأكبر، وهم من تنظيم حدتو، تنظيمنا، فدخلنا معهم، وكانت المجموعة الآخرى أقل عدداً، وهى تنظيم الحزب المصرى، المسمى بحزب الراية، ومعهم عدد قليل من الزملاء من تنظيمات آخرى.
كانوا مرهقين يكسو وجوههم وملابسهم الغبار، غبار الجبل، وغبار الأقدام، وغبار الطريق، فلم نجد الوقت ملائماً لأى حديث معهم. ولم يجدوه هو أيضاً. وتركناهم وقتاً غير قليل، يذهبون إلى دورة المياه. ليغتسلوا ويقضوا حاجتهم، ثم ليغيروا ملابسهم، حتى بدأنا نرى ملامحهم الحقيقية، ونتعرف عليهم من جديد.
كان منهم الرفيق محمد شطا "حميدو"، والرفيق زكى مراد "ناشد"، والرفاق: خليل قاسم، وشريف حتاته وسعد كامل، وأحمد طه، وحليم طوسون، ويوسف مصطفى، وسيد ترك، وألبير آرييه وآلبير أزولاى، وروبيرجرا نسبان، وهنرى كوهين، ويوسف أوزمو، ونسيم نحمياس، وأحمد خضر. وآخرون. أما المجموعة الأخرى فكانت من حزب الراية، منها مصطفى طيبة، ومجدى شاهين، وعويس أحمد، ومجدى فهمى، والفنان وليم إسحاق الشهير بالملك، وآخرون، ومنهم عبد الرحمن أوب عوف ورفاق آخرون من حزب العمال والفلاحين، أو من تنظيمات أخرى.
ما أن استقر المقام بزملائنا فى الغرفة، وقد انتعشوا نوعا ما وبدأوا يلتقطون أنفاسهم، حتى بدأت الأحاديث تدور بيننا وبينهم عن مختلف الموضوعات. عن قضيتنا، وعن سجن القناطر، وعن ظروفهم هم. ثم بدأنا جو المساء والراحة، فأشعلت "اتواتو" وهى مواقد صغيرة تصنع محلياً فى السجن، وتشعل بزيت السولار أو المازوت، المأخوذ من المطبخ أو المغسل، أو الورش، من داخل السجن. وعلى تلك المواقد، أعدوا لنا شاى الضيافة، ثم بدأوا يعدون لوجبة العشاء، وهى الوجبة الرئيسية هناك. كانت عبارة عن طعام السجن، ولكنه محسن بمعرفتهم، وذلك بإضافة نوع من الصلصة، والتوابل، والبصل، بحيث يصبح مذاقة مقبولاً، أكلنا، وشربنا شاياً آخر، وقمنا بتدخين بعض اللفافات، وتحدثنا. ثم أخلدنا إلى النوم، وفى الصباح تأهب زملاؤنا للذهاب إلى الجبل، بنفس النظام، ثم ذهبوا. وبقينا نحن الأربعة فى العنبر، فلم تكن هناك أوامر بشأننا قد صدرت بعد.
لم نمكث طويلاً فى ليمان طرة، بل جاءتنا انباء سارة، وهى أننا لن نلبس الحديد، بل إن زملاءنا أيضاً سيعفون من لبسه، وذلك بناء على تعديلات جديدة قد تمت على لائحة السجون، وهى تقضى بإعفاء المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة من لبس الحديد، بناء على قرارا دولية جديدة فى شأن حقوق الإنسان. وعلمنا أيضاً أن تشغيل السياسيين فى تكسير الصخور فى الجبل أصبح محل بحث فى دوائر حقوق الإنسان. وبات واضحاً أن إقامتنا فى ليمان طره سوف لن تطول.
أسبوعان فقط قضيناهما هناك، ثم جاءت أنباء مؤكدة بأننا سوف نرحل منه إلى جهة أخرى، ولكن كان هناك تكتم على تلك الجهة، فأخذنا نتكهن عنها، دون جدوى.
وفى صباح أحد الأيام، نبه علينا أحد كبار الضباط، وهو العميد عطوه حنفى، بالاستعداد للترحيل فى خلال ساعة، دون أن ينبس لنا ببنت شفة عن الجهة التى سنرحل إليها.
وكان العميد عطوه حنفى بلدياتى من بنى سويف، وكان شخصاً ظريفاً مهزاراً، ولكنه من النوع الحويط. بعد ساعة أخذنا فى طوابير، ونحن مقيدى الأيدى بالكلبشات، ومربوطون فى طوابير طويلة بالحجلات، وصحبنا العميد عطوة إلى ركن بعيد فى الأرض المحيطة بالليمان، إلى محطة للخط الحديدى المخصص لنقل الأحجار التى يتم استخراجها بواسطة المسجونين من الجبل، وهناك وجدنا عدداً من الإخوان المسلمين، المربوطين بالحجلات جالسين على الأرض. وكان هذا العدد يفوق عددنا عدة مرات.
وجاء قطار يجر عدداً من العربات، وتوقف، ووقف عطوة حنفى، هو وعدد من الضباط والجنود، مسلحين وغير مسلحين، وصاح بنا فى مرح:
-تفضلوا يا حضرات. وسأله بعضهم:
-على فين يا عطوة بيه؟ فأجاب بمرح:
-فسحة صغيرة عازمينكم عليها. وعرفنا أنه لن يبوح بالمزيد.
ركبنا فى العربات، الشيوعيون فى عربه، والإخوان فى ثلاثة عربات متتاليات. وكنا ما نزال مقيدى الأيدى كل اثنين معاً، وكل عشرة مربوطون فى حجلة. وما أن دخلنا العربات حتى أوصدت أبوابها بالترابيس، ثم بالأقفال الحديدية. وبدأ القطار يستعد للحركة. ووقف عطوه بيه على رصيف مرتفع، يصيح بنا:
-مع السامة، رحلة سعيدة إن شاء الله.
سار القطار بضعة دقائق، ثم توقف، وظل واقفاً أكثر من ساعتين، ونحن جالسون على أرضية العربة، عطشى، بلا ماء. ثم بدأ القطار يتحرك بعد أن أظلم الجو من حولنا، وكان مقصوداً أن لا تبدأ الرحلة وألا تتم إلا فى ظلام الليل. بعد ساعات سار فيها القطار ونيداً من طريق الجبل فى طره والمعادى إلى صحراء العباسية، وبعد توقف طويل،سار من العباسية إلى خط السكة الحديدية الرئيسى، المتجه إلى محطة القاهرة. وفوجينا بجمع من الناس يقفون على رصيف القطار، فى الطريق المؤدى إلى الوجه القبلى. وما أن شاهدونا من خلال بعض الفتحات الصغيرة، حتى أخذوا يتصايحون وهم يلوحون لنا بالأيدى ويصيحون:
-مع السلامة- يسقط الظلم.
وصاح بعضهم:
-الله أكبر ولله الحمد.
وبادر من فى عربة الشيوعيين بالهتاف:
-تسقط الدكتاتورية العسكرية - عاش كفاح الشعب المصرى - عاش كفاح الطبقة العاملة.
وظهر رجال البوليس يجرون ويصفرون بصافراتهم على الرصيف وهو يصيحون بسائقى القطار:
-إطلع يا اسطى، أطلع، بسرعة.
وتحرك القطار مرة أخرى - إلى محطة الجيزة. ثم توقف، وبدأ الضباط والجنود يفتحون أبواب العربات، ويأمرون المسجونين بالنزول، ونزلنا على رصيف المحطة، ووجدنا على الناحية الثانية من الرصيف قطاراً ثانياً يقف مفتوح الأبواب، وكان  هو قطار الصعيد وقد ألحقت به عدة عربات مخصصة لنقل المسجونين، إذ أن قطارنا كان قطاراً خاصاً لنقل الأحجار والحيوانات.
أمرنا بالركوب فى القطار الآخر، الذى كانت آلاته دائرة، فدخلنا، ودخل الإخوان، تباعاً إلى داخل العربات فى القطار الآخر، دخلنا ونحن نرسف فى الحجلات، وفجأة تحرك القطار وكانت أخر الطوابير قد ركب نصفها فى العربة بينما نصفها الآخر مربوطاً فى الحجلة - ومجروراً على أرض الرصيف، وشاهد بعض الواقفين على الرصيف والأرصفة الأخرى، وبعض النساء المطلات من شرفات المنازل المجاورة، شاهدوا الموقف، فتصايحوا على ساشق القطار ليوقفه، ورفعت النساء عقائرهن بالصوت، إلى أن سمع السائق، وأدرك الموقف. ثم شد فرملة القطار بكل قوته. ولست أدرى كيف نجا الركاب الذين كانوا مجرورين فى الحجلة من الموت المحقق.
وفيما بعد وصف زميلنا صلاح حافظ هذا المقف فى قصته الشهيرة القطار.
وسار بنا القطار نحو الجنوب، فى ظلمة ليل دامس.