ذكريات شاعر مناضل: 30- لقاء فى بغداد

30- لقاء فى بغداد


   اتصل بى الرفيق مهدى الحافظ، وجاء لمقابلتى بمنزلى، ثم أخبرنى بأن هناك مؤتمراً سيعقد ببغدا للتضامن مع حركة المقاومة الفلسطينية، بعد أن قامت القوات السورية التى دخلت إلى لبنان بالاعتداء عليها وإلحاق خسائر فادحة بها فى منطقة من لبنان تسمى "تل الزعتر"، وقد دعت القيادة القومية بحزب البعث العراقى إلى هذا المؤتمر، لإعلان الإدانة لهذا العدوان، والتضامن مع حركة المقاومة الفلسطينية، وأبلغنى الدكتور مهدى. أن عدداً كبيراً من الشخصيات المصرية البارزة سوف يدعون لحضور هذا الاجتماع، وأنه قد أمكنه بناء على رغبة الحزب الشيوعى العراقى، وبفته وزيراً فى الحكومة العراقية، ممثلاً - هو وزميله الرفيق عامر عبدالله - للحزب الشيوعى العراقى المشارك فى الجبهة الوطنية التقدمية - أن يطلبا إدراج أسمى، واسمى الزميلين زكى مراد، ونبيل الهلالى، ضمن قائمة المدعوين المصريين لحضور ذلك المؤتمر، بنية عقد لقاءات بين ثلاثتنا، بوساطة من الحزب الشيوعى العراقى، على هامش المؤتمر، بأمل التوصل إلى إزالة الخلاف القائم بيننا، وإعادة الوحدة إلى صفوف حزبنا. وكان قد أوضح للرفاق فى قيادة الحزب العراقى، هذا الأمر الخطير، ودعاهم إلى المبادرة إلى السعى لحل الخلاف.
  بعد ذلك، تلقيت من السفارة العراقية، مظروفاً يحمل بطاقة دعوة لحضور المؤتمر المزمع عقده فى بغداد بعد أيام قليلة، ومعها تذكرة السفر والعودة إلى بغداد ومنها، على الطائرة العراقية، بتاريخ اليوم السابق لعقد المؤتمر.
 توجهت إلى مطار القاهرة فى الموعد المحدد للسفر إلى بغداد، وكان ذهابى إلى المطار مبكراً، ودخلت، ثم جلست فى قاعة الانتظار بالمطار. بعد قليل، وجدت الزميلين زكى مراد، ونبيل الهلالى يدخلان معاً إلى قاعة الانتظار، وكان الطبيعى وقد رأيانى جالساً - أن يجلسا إلى جوارى، ولكنهما سارا فى طريقهما إلى مكان بعيد فى القاعة، وجلسا هناك سوياً، فتعجبت أن يصل الأمر إلى هذا الحد بيننا.
 ثم تقاطر على القاعة باقى المدعوين إلى المؤتمر من الشخصيات المصرية، زرافات ووحدانا، وحيانى الكثيرون منهم، وجلسوا إلى جوارى، وبدأت الأحاديث المعتادة تدور بيننا، إلى أن أعلن عن التوجه لركوب الطائرة، فقمنا.
 ...
 استقبلنا فى مطار بغداد بالترحاب العراقى المعروف، ونقلنا إلى مقار إقامتنا، أنا فى فندق بغداد، والرفيقان زكى ونبيل، فى فندق آخر، هو فندق المنصور.
 فى المساء، تلقيت دعوة إلى حفل عشاء أقامة الصديق طارق عزيز، نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافة العراقى، فى مقر إقامته فى بغداد. وكنت أعرف طارق، وكنا قد التقينا مراراً من قبل.
 حضر الحفل كل من زكى مراد، ونبيل الهلالى، كما حضره أيضاً عدد من المصريين، المدعويين إلى المؤتمر، كان منهم الزميل وائل، أحمد حمروش، زميلنا فى الحزب، ومن مجموعتى، وكانوا كلهم قد تلقوا الدعوة للحضور، بصفاتهم الشخصية.
 جلس المدعوون، قبل العشاء، يتحادثون وهم يحتسون بعض الكئوس التى قدمت إليهم، وكانت جلستى فى مكان، بينما جلس زكى ونبيل معاً، فى مكان أبعد.
 بعد أن استتب الحديث، فوجئت بمشادة تحدث بين الزميل وائل، حمروش، والسيدين كمال رفعت ولطفى واكد، وكانا من الناصريين الذين ضما إلى الهية القيادية لمنبر التجمع. المشادة نشبت فجأة، وبلا مقدمات، فوجئت فيها بالسيد لطفى واكد وهو يوجه عبارات جارحة إلى حمروش، ويقول له:
 -انت لا تمثل أحداً هنا، وليس هنا فى هذه الجلسة أى فرد يقف معاك.
 أحسست بأن هذه المشادة جاءت امتداداً لشئ سابق عليها، وشعرت بان فيها ما يمسنى أنا أيضاً، فقد كان وائل - حمروش  واحداً من مجموعتى، ووجدتنى أرفع يدى وأوجه حديثى إلى لطفى واكد، قائلاً:
  -لا يا أستاذ لطفى، أنا أقف معه.
 وفوجئت بزكى ونبيل يهبان واقفين فى غضب ويصيحان موجهين بعض عبارات التأنيب لحمروش. أما لطفى واكد، وزميله كمال رفعت، فلم يعقبا على كلامى بأى كلمة، والتزما الصمت التام.
 ومرت هذه الحادثة بعد ذلك، ولكنها كانت قد لفتت الأنظار، وخاصة نظر طارق عزيز، الذى مصمص شفتيه أسفاً على ما حدث. ثم دعانا إلى مائدة العشاء.
 ...
 انعقدت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، وفى نهايتها طلب منى الرفيق مهدى الحافظ أن أخرج معه، وأن نتوجه سوياً إلى مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعى العراقى، للقاء الرفيق عزيز محمد، السكرتير العام للحزب، وكنت أعرفه من قبل، والتقيته اكثر من مرة، وكانت بيننا علاقة ودية.
 قابلنى الرفيق عزيز، ومعنا الرفيق مهدى، بترحاب ومودة، ثم دعانى للجلوس لتناول الغداء معه، وطلب من مكتبه إحضار الغداء. أكلنا كباباً ودجاجاً مشوياً على مائدة الاجتماعات الملحقة بغرفة مكتبه، ثم جلسنا لنشرب أكواب الشاى - على الطريقة العراقية. ثم بدأ الرفيق عزيز يتحدث حديثاً تمهيدياً يهدف منه إلى تهدئتى، تمهيداً للحديث عن الأزمة القائمة فى حزبنا، وعن امله فى الاستجابة لمساعيه هو ورفاقه فى الإصلاح.
 لاحظت ان الرفيق يتناول الموقف بطريقة سطحية، يغلب عليها الأسلوب العاطفى. استأذنت منه الكلام، ثم تكلمت. شكرته جزيل الشكر على اهتمامه ومبادرته هو ورفاقه إلى هذا المسعى للوقوف إلى جانبنا فى هذه المحنة التى يتعرض لها حزبنا، وأكدت له أن هذا هو ما كنت أنتظره منهم، ثم قلت له بشئ من الصراحة، إننى أرجو ألا يتناول الموقف بهذه الخفة، وبهذا الأسلوب العاطفى، فالأمر ليس أمر إصلاح بين زوجين متخاصمين، وإنما هو أمر أزمة عميقة داخل حزب شيوعى فى مستهل حياته الحزبية.
  وشرحت له رأيى فى هذه الأزمة، وفى أسبابها. قلت له إن لها أسبابها العميقة فى بنيان الكيان الحزبى، وهى وجود فراغ فى الكيان  القيادى للحزب، إذ أن المسئولية القيادية الأساسية، وهى المسئولية السياسية، كانت منذ تحقق الوحدة بين المجموعات الثلاثة، وبناء الحزب، ومازلت حتى الآن شاغرة.
 كنا قد اتفقنا على تكوين الهئيات القيادية المشتركة، المكتب السياسى، واللجنة المركزية، وقمنا بتوزيع المسئوليات فيهما، على النحو المتعارف عليه فى الأحزاب الشيوعية، ولكننا تركنا المسئولية السياسية شاغرة، تجنباً للحساسيات الحلقية، وقررنا - كحل لهذه المسالة - إسناد المسئولية السياسية إلى لجنة ثلاثية، تشكلت من ممثلين لكل من التنظيمات الثلاثة المتحدة، فكانت هى اللجنة المشكلة من كل منى، هاشم، ومن كل من الرفاق، ناشد وأبو زيد. وكنا نفترض ونأمل، أنه، مع مضى وقت معقول، والتقدم فى بناء الثقة، سوف تجد هذه المشكلة حلها السليم، فى إسناد المسئولية السياسية إلى رفيق واحد، ومن ثم فى سد الفراغ الناجم عن شيوع هذه المسئولية. ولكن الأمور لم تسر على النحو المرجو، بل بدأ هذا الوضع الشاذ يذكى الحساسيات المكتومة بيننا نحن الثلاثة. وتحول الأمر، رغم المظاهر إلى صراع مكتوم على الزعامة، كان هو بؤرة الأزمة الراهنة، والقنبلة الموقوتة التى تهدد بالانفجار، وتمزيق الحزب.
 وقلت، إننى بدأت أصارح نفسى، وأصارح الزميلين، بهذا التفسير للأمر، وأدعو إلى إنهاء هذا الوضع المعلق والخطير، وذلك باتخاذ موقف حاسم، وهو اختيار رفيق واحد للمسئولية السياسية، كسبيل لتحقيق وحدة الفكر، والإدارة، والعمل، داخل الحزب، على النحو المتبع فى سائر الأحزاب الشيوعية. وقلت، إننى أعرف أن هذا الرأى سوف يساء تأويله، بالقول بأننى أريد طامع فيها، وأن المسأله هى الطمع فى الرئاسة أو الزعامة. لذلك، ومع اقتناعى التام بأن هذا هو الطريق الوحيد لتجاوز الأزمة الراهنة، ولتحقيق وحدة الحزب، فإننى أخلع نفسى من الترشيح لهذه المسئولية، وأرشح لها الرفيق أبو زيد، لأسباب كثيرة تجعله أهلاً لها. أكثر من ذلك، فإذا لم يوافق أبو زيد على هذا الترشيح، فاننى أعلن قبولى على اختيار ناشد لهذه المسئولية، والأمر لا يخرج عن هذاالحل، أو ذاك، وهذا وحده هو الكفيل بتجاوز الأزمة الراهنة، وتحقيق وحدة الحزب. وأؤكد أنه بدون تحقيق هذا الحل، فسوف لا تحل الأزمة، مهما أغرقنا فى التفاصيل أو المهاترات.
 أبدى لى الرفيق عزيز تفهمه لوجهة نظرى، وطلب من الرفيق مهدى الإعداد لاجتماع مشترك، بينى وبين الزميلين ناشد وأبو زيد، فى حضور عدد أكبر من الزملاء من قيادة الحزب العراقى، وبعد قليل، انتقلنا، أنا والرفيق عزيز محمد، إلى قاعة مجاورة، حيث حضر كل من ناشد وأبو زيد، كما حضر عدد من قادة الحزب العراقى، كان منهم مهدى الحافظ، وعامر عبدالله، وكريم أحمد، ورفيق آخر.
  وبدأ الاجتماع، فتكلمنا فيه نحن الثلاثة، بدأه زكى بتقديم تفسيره للأزمة، وهو أنه لا توجد أسباب حقيقية لها، والسبب الوحيد هو عند الرفيق هاشم - أنا - وهو أننى أعانى من أزمة نفسية وعصبية بسبب ظروف عملى البورجوازى، ولكن الحزب لا يعانى من أية أزمة حقيقية. وتكلم أبو زيد فقال كلاماً مقارباً لما قاله ناشد، ورددت أنا عليهما قائلاً، إنه لو كان الأمر كذلك لكان الحل بسيطاً، وهو أن يتفضل الإخوان زكى ونبيل، بعرضى على طبيب للأمراض النفسية والعصبية لعلاجى، أو حتى لإدخالى إحدى المستشفيات المتحصة فى علاج مل هذه الحالة.
 ثم أخذت أشرح وجهة نظرى، فى أن الفرق بينى وبين الزميلين، راجع إلى الفرق بين موقفى وموقفهما. فكل منهما يعمل محامياً مشتغلاً بالمحاماة، وله مكتب يزاول منه عمله، ومعظم وقته وجهده ينصرف إلى هذا العمل سواء فى مكتبه أو فى المحاكم، أما العمل الحزبى فهو بالنسبة له مجرد هواية جانبيه لا يوليها إلا القدر الفائض من وقته وجهده. ولكن الأمر بالنسبة لى ليس كذلك، فالحزب، والعمل الحزبى، ومستقبل الحزب، هو كل حياتى، وأنا متفرغ له تماماً سواء بإرادتى أو بالرغم منى. ولذلك فأنا أرى العيوب الماثلة فى البناء الحزبى الراهن بمنظار مكبر - وأرى ما ينتج عن الخلل فى التكوين القيادى من ضعف وانحلال على وضع الحزب كله، ومن خطر جسيم على مستقبله. الرفيقان زكى ونبيل راضيان عن الوضع الراهن فى الحزب، وعن مستقبله، لأنهما فى الأساس، راضيان عن وضعهما الشخصى، ومن ثم فهما راضيان عن الوضع القائم فى الحزب. أنا أريد التغيير فى البناء القائم للقيادة الحزبية، ومن ثم فى قوة الحزب وقدراته على مواجهة مهمامة ومواجهة الأخطار الجسيمة التى تهدده وتهدد البلاد. أماهما فيريدان بقاء الحال على ما هو عليه. وهذا هو الفرق، وهذا هو السبب الحقيقى للأزمة. هما يقولان: بقاء الوضع الراهن بأى ثمن، وأنا أقول: القيام بالتغيير الجذرى المطلوب، أو الكارثة.
   كان بادياً، لى على الأقل، أن الرفاق العراقيين، يتفهمون وجهة نظرى ويميلون إليها، ولكنهم كانوا محرجين أمام تشبث الرفيقين الآخرين بموقفهما، وكانوا يريدون أن يكونوا واقعيين، وأن يتركوا فرصة لعنصر الوقت، لكى يفعل فعله.
 وانتهى الاجتماع بأمل غامض فى أن يفعل الزمن فعله، وأن يقوم كل طرف بمراجعة نفسه.
 ...
 كنت أشعر بهم وإحباطهم ويأس شديد، وبأن القطار السريع سوف يسقط فى الهاوية لا محالة. ولم يكن يخامرنى شك فى ذلك، ولكنى قررت أن أتذرع بشئ من الصبر.
 عدنا إلى الوضع الراهن، الإخوان ناشد وأبو زيد، منهمكان فى عملهما فى المحاماة، وراضيان عن نفسيهما، والزميل إبراهيم يمارس المسئولية التنظيمية بأسلوبه الروتينى المعروف، والرفيق معاوية، يصول ويجول فى بناء التجمع على هواه، محتمياً بعباءة الأخ خالد محى الدين من ناحية، وبحماية إخوة التكتل المسيطر على الحزب من ناحية أخرى، كما أنه يصول ويجول فى مجال العلاقات الخارجية منفرداً، كما أنه يصول ويجول فى مجال العلاقات الخارجية منفرداً، ويدافع عن ذلك بنظرية عجيبة يرددها، هى أن علاقة المسئول عن العلاقات الخارجية تشبه تماماً علاقة الشخص بعشيقته، لا يجوز أن يتدخل فيها أى إنسان آخر. أما الرفيق شاكر، ميشيل كامل، فكان يصول ويجول هو الآخر، فى مجال العلاقات الخارجية أيضاً، فيقول ويكتب ويفعل ما يشاء، من مقره فى بيروت، أو من مقره بعد ذلك فى باريس، غير آبه بأى سلطة حزبية، تحت عباءة التكتل الذى ينتمى إليه، والذى يسيطر على الحزب. والثعالب الصغيرة هنا وهناك، تفعل ما تشاء، فى جحورها داخل الحزب، فى حماية ذلك التكتل، الذى يحمى التيب والانحلال، بكل ورة وأشكاله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق